ما لم تعد الحياة إلى طبيعتها ما قبل جائحة «كوفيد - 19»، سيكون من الصعب جداً العودة إلى متابعة «المبارزات» الكلامية التي كانت تنقلها الكاميرات، بين مندوبي الدول الكبرى وحتى الصغرى منها في قاعات مجلس الأمن الدولي للأمم المتحدة في نيويورك وجمعيتها العامة. فاللجوء إلى تقنية الفيديو التزاماً بقواعد التباعد الاجتماعي، قد يؤخر هذا العام إبراز «مهارات» ليندا توماس غرينفيلد، سفيرة الولايات المتحدة الجديدة إلى الأمم المتحدة، وهي ثاني امرأة من أصول أفريقية تتولى هذا المنصب بعد سوزان رايس، ولقد عيّنها الرئيس الأميركي جو بايدن فيه، كجزء من تعهده بزيادة تمثيل الأقليات العرقية والنساء تحديداً في إدارته الجديدة.
بيد أن ذلك لم يمنع وضع غرينفيلد سريعاً في حلبة الاختبار، الذي بدأ في جلسة الاستماع لتأكيد ترشيحها في مجلس الشيوخ. إذ تعرّضت للانتقاد بسبب الصين، حين أعربت عن أسفها لإلقائها خطاباً في معهد كونفوشيوس الذي تدعمه بكين في عام 2019، عندما كانت تعمل في شركة استشارية خاصة. وأفيد بأن السيناتور الجمهوري اليميني المتشدد تيد كروز، كان يتعمّد تأجيل تصويت اللجنة على ترشيحها بسبب ذلك الخطاب. وكذلك أبدت غرينفيلد اتفاقها إلى حد كبير مع لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ بشأن السياسات الدولية، وخصوصاً تجاه «النظرة الاستراتيجية للتهديد الذي تشكله الصين»، حين تحدثت عن مخاوفها بشأن «القوة الخبيثة» للصين و«فخاخ وتكتيكات الديون» الصينية في أفريقيا وخارجها.
كان واضحاً أن الأجندة التي ستعمل ليندا توماس - غرينفيلد، السفيرة الأميركية الجديدة في الأمم المتحدة، على تنفيذها في محافل المنظمة الدولية، ستنطلق من الأولويات التي حددتها إدارة الرئيس جو بايدن، بما يعكس الانزياح الكبير عن الغرق في وحول ما يصفه بايدن بـ«الحروب العبثية» التي لم يعد لها طائل، من أفغانستان إلى ملف إيران وحروب الشرق الأوسط وأزماته!
وحدها إسرائيل حظيت بمكانة خاصة في خطاب غرينفيلد، حين تعهدت خلال جلسة تثبيتها، بالوقوف «ضد الاستهداف الظالم لإسرائيل» التي تتعرّض لدعوات المقاطعة وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، معتبرة أن هذه الحركة «تقترب من معاداة السامية». بيد أنها في خطاب لها يوم الاثنين الماضي أمام المؤتمر السنوي لحركة «جي ستريت» اليسارية اليهودية المعادية للصهيونية، أعلنت أن إدارة بايدن ستدعم إسرائيل في عملها لمواجهة التهديدات التي يشكلها السلوك العدواني لإيران، وتشاركها الهدف المتمثل برفض السماح لإيران أبداً بالحصول على السلاح النووي، لكنها تنوي تحقيق ذلك من خلال الدبلوماسية. ومما قالته في هذا الصدد «موقف الولايات المتحدة من الاتفاق النووي واضح، ونحن مستعدون للعودة إليه إذا عادت إيران إلى الامتثال الكامل لالتزاماتها النووية. وكما يتضح من مشاركتنا في المباحثات الجارية في فيينا، فإننا نعمل مع شركاء دوليين لتحديد ما إذا كان هذا الأمر ممكناً أم لا».
- سابع «سفيرة» على التوالي
غرينفيلد هي ثاني أميركية من أصول أفريقية وسابع امرأة على التوالي تتولّى تمثيل بلادها في أرفع منصب دبلوماسي بعد منصب وزير الخارجية. وللعلم، فإن السفير في الأمم المتحدة هو المنصب الوحيد من بين السفراء الأميركيين في المناصب الدبلوماسية الذي يحتاج إلى موافقة مجلس الشيوخ. وبالتالي، يحلّ الكونغرس مكان سيادة الدول التي يحق لها قبول أو رفض تعيين السفراء الأجانب على أراضيها. ثم إن سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة هو حُكماً عضو في مجلس الأمن القومي؛ ما يعكس أهمية هذا المنصب في السياسة الخارجية الأميركية.
يوم 25 فبراير (شباط) الماضي جرى تثبيت تعيين غرينفيلد في منصبها من قبل مجلس الشيوخ، بغالبية 78 مقابل اعتراض 20 صوتاً، لتتولى منصبها على الأثر بعد تقديمها أوراق اعتمادها إلى الأمم المتحدة. وفي أول مارس (آذار) الماضي تولت الولايات المتحدة الرئاسة الدورية لمجلس الأمن الدولي لمدة شهر كامل، لتتسلّم السفيرة الجديدة بعد أقل من أسبوع على تعيينها... رئاسة مجلس الأمن.
- قضية التمييز العنصري
غير أن المخاض السياسي والاجتماعي الذي تشهده الولايات المتحدة راهناً على خلفية قضية التمييز العنصري، فضلاً عن مسألة «المناكفة السياسية التقليدية» بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فرضا نفسيهما باكراً على غرينفيلد.
ومع صدور الحكم بحق الشرطي الأبيض ديريك شوفين بتهمة قتل الأميركي من أصول أفريقية جورج فلويد - الذي يتوقع أن يأخذ مساراً تاريخياً يضع قضية إصلاح الشرطة على نار حامية - تعرضت غرينفيلد لانتقادات قاسية من وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، بسبب تعليقاتها عن العبودية. إذ قال بومبيو، إن تصريحاتها «مستهجَنة»، ويجب أن تحرمها من تمثيل المصالح الأميركية في جميع أنحاء العالم. وما يذكر هنا أن غرينفيلد كانت قد أعلنت خلال خطاب لها أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، أن «العبودية نسجت تفوّق البيض في وثائق تأسيسنا». وأردفت «لقد رأيت بنفسي كيف أن خطيئة العبودية الأصلية نسجت التفوّق الأبيض في وثائق تأسيسنا ومبادئنا. لكنني أيضاً شاركت هذه القصص لتقديم نظرة ثاقبة، وتعلمت منها حقيقة بسيطة على مر السنين: العنصرية ليست مشكلة الشخص الذي يختبرها».
وفي خطاب افتراضي آخر ألقته الأسبوع الماضي أمام مؤتمر «شبكة العمل الوطنية» للقس آل شاربتون، تحدثت غرينفيلد عن «الاتحاد غير الكامل» لأميركا، مضيفة أن تعليقاتها تعكس المكان الذي بدأت فيه البلاد، لكنها أضافت «لكننا نحتاج أيضاً إلى النظر إلى أين وصلنا». وتابعت «حقيقة أنني أتيت من مدرسة ثانوية كانت تفصل بين السود والبيض، وها أنا الآن الممثل الدائم للولايات المتحدة في الأمم المتحدة، تقول كل شيء عما يدور حوله بلدنا».
بومبيو اعتبر تصريحات في مقابلة إذاعية يوم الأحد الماضي تصريحاتها بالمعيبة قائلاً «سمعت سفيرتنا لدى الأمم المتحدة هذا الأسبوع تتحدث عن تأسيسنا باعتباره فاسداً ومعيباً بشكل أساسي، وليس نبيلاً وصالحاً. لا يمكنني أن أشعر بالاختلاف معها أكثر من ذلك. أميركا مكان نبيل». وأضاف «أعتقد أنه من غير اللائق أن يكون لديك سفير للأمم المتحدة يعبّر عن النسبية الأخلاقية ولا يفهم الطبيعة الاستثنائية للبلد الذي نعيش فيه جميعاً». واستطرد «إن إقدام سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة على تشويه سمعة المبادئ التأسيسية للولايات المتحدة الأميركية بالطريقة التي اتبعتها هذا الأسبوع لهو أمر مستهجن حقاً».
ولكن في مقابلة مع غرينفيلد على محطة «سي بي إس نيوز» سألتها المضيفة مارغريت برينان، عن رأيها في مقالة افتتاحية لصحيفة «الوول ستريت جورنال» كتبت فيها «سفيرة لوم أميركا أولاً»، وأنها تبدو وكأنها «كانت تروي دعاية صينية»، في استعادة للاتهامات التي وجهت لها خلال جلسة تثبيتها في مجلس الشيوخ. كذلك سألتها عما إذا كانت تقارن التعصّب في أميركا بالفظائع التي تُرتكب ضد الأقليات في جميع أنحاء العالم. وردّت غرينفيلد قائلة «كنت أعترف بما هو حقيقة في الولايات المتحدة. العنصرية موجودة في هذا البلد، وأعتقد أن ما قلته هو رسالة قوية، ولا يوجد أي دولة أخرى تفعل ذلك». ثم أضافت بأن حديثها كان «اعترافاً بنواقصنا» مع التأكيد على أننا «نمضي قدماً»... وتابعت «أنا لا أعتقد أنك سترى إويغوراً صينياً على المسرح الوطني، يعترف بقضايا الصين ومشاكلها مع حقوق الإنسان. أنا لا أقارن وضعينا. إنني أقر بأننا قطعنا شوطاً طويلاً، وأنا فخورة جداً بما تمكنا من تحقيقه».
- بطاقة شخصية
ليندا توماس غرينفيلد من مواليد عام 1952 في مدينة بيكر بولاية لويزيانا، حيث حصلت على بكالوريوس الآداب من جامعة لويزيانا الحكومية (لويزيانا ستايت) في العاصمة باتون روج عام 1974، ثم حازت ماجستير في الإدارة العامة من جامعة ويسكونسن - ماديسون عام 1975. وبعد ذلك درّست العلوم السياسية في جامعة باكنيل (الخاصة في ولاية بنسلفانيا) قبل انضمامها إلى السلك الدبلوماسي عام 1982.
شغلت منصب نائب مساعد وزير الخارجية في مكتب السكان واللاجئين والهجرة (2004 - 2006)، والنائب الرئيسي لمساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية (2006 - 2008)، ثم عُيّنت سفيرة لبلادها في ليبيريا (2008 - 2012)، وتولت منصب المدير العام للسلك الدبلوماسي في إدارة الموارد البشرية في الخارجية الأميركية (2012 - 2013).
بالإضافة إلى ذلك، شغلت توماس غرينفيلد مناصب دبلوماسية في بلدان أجنبية في سويسرا، وباكستان، وكينيا، وغامبيا، ونيجيريا، وجامايكا. وقبل تعيينها في منصبها الحالي سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، شغلت منصب مساعد وزيرة الخارجية الأميركية للشؤون الأفريقية في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما من 2013 إلى 2017. غير أن إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب أنهت عملها عام 2017 كجزء من عمليات «تطهير كبار مسؤولي وزارة الخارجية والمهنيين على مدار ما يقرب من أربع سنوات»، بحسب صحيفة «لوس أنجليس تايمز». وفي ذلك العام عملت في القطاع الخاص نائباً أول لرئيس مجموعة أولبرايت ستونبريدج في العاصمة واشنطن. ثم إنها زميل غير مقيم بجامعة جورج تاون في واشنطن، وكانت زميلاً مقيماً متميزاً في الدراسات الأفريقية من خريف 2017 إلى ربيع 2019. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، عُيّنت عضواً متطوعاً في فريق الرئيس المنتخب جو بايدن، للإعداد للمرحلة الانتقالية في وزارة الخارجية الأميركية. واعتباراً من ذلك التاريخ كانت غرينفيلد في إجازة من منصبها نائباً أول للرئيس في مجموعة أولبرايت ستونبريدج. وفي 24 نوفمبر الماضي، أعلن بايدن عن نيته ترشيحها لتكون سفيرة الولايات المتحدة الجديدة في الأمم المتحدة خلفاً لكيلي كرافت، لتنضم فعلياً إلى إدارته في 25 فبراير وإلى عضوية مجلس الأمن القومي.