قبل أن تصل قدما رجل الأعمال الفرنسي «أنتوني بس» إلى أعلى قمة جبل معاشيق، كانت هنالك منارة شامخة تستخدم لإرشاد السفن، وكانت الرمز الوحيد الذي يذكر بأهمية الجبل الذي يمتد من أطراف مدينة عدن القديمة «كريتر وحتى وسط البحر في الميناء القديم».
تحول المرتفع إلى سكن للثري الفرنسي الذي كسب أموالاً طائلة من عمله في تجارة البن اليمني، وتعاقب عدد من المسؤولين على الإقامة فيه، حتى تحول إلى مقر رئاسي دائم أثناء حكم الرئيس السابق علي عبد الله صالح وحتى اليوم، وبات القصر يحمل نفس اسم الجبل.
وتشير المراجع إلى إقامة رجل الأعمال الفرنسي في عدن معظم حياته، وأسس فيها إمبراطورية تجارية، حيث بدأ حياته كعامل لدى باردي وشركاه (Bardey et Cie)، وهي دار تجارية فرنسية مقرها عدن، تصدر القهوة من اليمن. ولأنه كان مفلساً، فقد اقترض المال من صهره لشراء الملابس التي تناسب المناطق الحارة وتكاليف رحلة سفره إلى عدن. حيث غادر مارسيليا على متن سفينة بخارية في أبريل (نيسان) 1899.
وفي عام 1902 انتهى عقد الفرنسي مع الشركة، سافر إلى مدينة الحديدة وأَسّسَ فيها شركة خاصة. في وقت لاحق من تلك السنة عاد إلى فرنسا، إذ تمكن من الحصول على قرض من أحد المصارف الفرنسية مَكّنَه من تأسيس عمله الخاص في عدن، وأحضر معه أخاه واسمه إميل لمساعدته على إدارة العمل الذي أسسه في الحديدة.
بنى أنتوني بس مقراً لشركته في شارع العيدروس في كريتر، ويتكون الطابق الأرضي من المبنى من المستودعات والمتاجر، والطابق الثاني يتكون من المكاتب وغرف الموظفين وغرف الراحة، وعلى سطح الطابق الثالث شيدت «شقة فخمة»، وفي وقت لاحق، بنى فيلا مميزة وفريدة من نوعها على رأس جبل معاشيق، وتعاقب استخدامها الكثير من المسؤلين اليمنين حتى أصبحت قصراً رئاسياً بعد إضافة عدد من المباني إلى المكان وتتخذه الحكومة المعترف بها دولياً مقراً لها.
في الطريق إلى مرتفعات معاشيق، لا بد من المرور عبر مساحة منبسطة تسمى «حقات» وكانت تضم ملعباً ومسرحاً وسينما، ومجمعاً سكنياً للضباط البريطانيين، وكانت قبل ذلك الميناء الرئيسي لعدن قبل تحويله إلى المعلا، وكانت تقام مهرجانات سنوية ومسابقات، وفق ما يتذكر عبد الحكيم حسين، الذي حضر إحدى الفعاليات هناك قبل الاستقلال بفترة بسيطة. ويضيف: منطقة حقات كانت أشبه بمجمع ترفيهي، والمباني في المنطقة والجزء السفلي من جبل معاشيق كانت تسكن من قبل أسر مسؤولين عاديين، وأنه وفي منتصف الثمانيات اتُخذ جزء من المجمع كمقر لحزب الوحدة الشعبية الذي كان يقود الكفاح المسلح تحت اسم الجبهة الوطنية، في وسط اليمن ضد نظام الحكم في الشمال.
أما راشد سيف، وهو الآن في العقد الثامن من العمر فيتذكر أن والده كان عامل بناء في هذا الموقع، أيام الحكم البريطاني وأن في أسفل الجبل من ناحية البحر كانت توجد كهوف جبلية، ويقول لـ«الشرق الأوسط» أنه عندما كان يذهب إلى المكان قبل الوصول إلى أعلى قمة الجبل حيث يوجد المجمع الرئاسي، فإن هناك طريق آخر باتجاه اليمين يؤدي إلى شاطئ أبو الوادي وهو مكان سياحي فائق الجمال يقع في أسفل الجبل من ناحية الغرب وكان مقصد العائلات في العطل الأسبوعية.
وحسب هذه الروايات فإن الرئيس السابق صالح كان يخطط لفتح نفق داخل الجبل من منطقة شاطئ أبو الوادي إلى منطقة ساحل العشاق في مديرية التواهي القريب من القصر الجمهوري هناك والمعروف باسم القصر المدور، كما أن هذا الشاطئ (أبو الوادي) المحاط بالمرتفعات من ثلاثة اتجاهات ويوجد به مهبط للمروحيات ومرسى للزوارق السريعة استخدم لعدة سنوات كمقر لوحدة عسكرية أميركية متخصصة بمكافحة الإرهاب وكانت تعمل بالشراكة مع الجانب اليمني على ملاحقة عناصر تنظيم «القاعدة» وتأمين حركة الملاحة في خليج عدن وأن هذه الوحدة ظلت في مواقعها هذا إلى ما قبل اجتياح ميليشيا الحوثي لمدينة عدن في عام 2015.
وبعد خروج بريطانيا أممت حكومة الاستقلال في جنوب اليمن هذا المجمع بما فيه مقر سكن مالك الشركة، وسكن في المنازل الموزعة في الجبل لمسؤولين وموظفين.
في بداية الثمانيات من القرن الماضي، سكن في المبنى الرئيس عبد الفتاح إسماعيل، ثم تحول جزء من المكان إلى مقر لجناح الحزب الاشتراكي في الشمال (حزب الوحدة الشعبية) الذي كان يقود الجبهة الوطنية والعمل المسلخ ضد نظام الحكم في صنعاء، في حين تبقت المباني في أعلى قمة الجبل مقراً للضيافة الحكومية، واستمر هذا الحال إلى ما بعد حرب 1994. حيث اتخذه بعد ذلك الرئيس الراحل علي عبد الله صالح مقراً لسكنه، وكان في أوقات ما بعد الظهيرة يستقبل السياسيين والواجهات في مقيله المشرف على البحر.
وعقب أحداث عام 1986 بين أجنحة الحزب الاشتراكي في الجنوب انتقل علي سالم البيض الأمين العام للحزب وكان يعتبر الرجل الأول في الدولة حينها، للإقامة في منزل على مرتفع في الجهة اليمني من منطقة «حقات» المدخل الرئيسي إلى مرتفع معاشيق، واستخدمت بقية المباني التي كان الجنود البريطانيون يقيمون فيها مقراً لإقامة حراسة البيض. وتتداول مراجع أن المنزل قام الرئيس صالح بتمليكه لرئيس مجلس النواب اليمني الراحل عبد الله بن حسين الأحمر.
خلال فترة حكمه استحدث صالح بعض الأبنية منها مبنى مكون من أربعة أدوار في مكان قريب من المنارة، لكن هذه البناية تم تدميرها خلال الحرب الأخيرة بعدما تمركزت فيها عناصر الميليشيات الحوثية.
ويتميز الموقع بوجود طريق آخر للأفراد منحوت في الصخر يمكن للشخص أن يمر منه إلى البحر، فيما خصص الطريق الآخر بالسيارات عبر شاطئ أبو الوادي، وهناك من يستقل أي قارب ويغادر باتجاه محافظة أبين شرقاً أو باتجاه منطقة التواهي غربا.ً
ولأن الميليشيات الحوثية لم تترك مكاناً إلا واستخدمته في عمليتها العسكرية فقد أدى تمركزها في القصر الآخر المقام على ربوة أقل ارتفعاً من معاشيق في منطقة التواهي إلى إلحاق أضرار كبيرة في القصر، ولهذا تقيم الحكومة وكبار المسؤولين في معاشيق، لأن الأضرار التي لحقت به اقتصرت على المبنى الحديث الذي سوي بالأرض.
«معاشيق» وساكنوه... قصر ثري فرنسي توارثه السياسيون في عدن
لم يسلم من الحوثيين وشهد مرور أبرز السياسيين
«معاشيق» وساكنوه... قصر ثري فرنسي توارثه السياسيون في عدن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة