بغداد بدأت تفكر خارج الصندوق

حوار استراتيجي بخطى واثقة مع واشنطن وعلاقات عربية منفتحة

بغداد بدأت تفكر خارج الصندوق
TT

بغداد بدأت تفكر خارج الصندوق

بغداد بدأت تفكر خارج الصندوق

بصرف النظر إن كانت الرسالة التي يقال إن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي وجهها إلى إيران بشأن موقف متشدد قرر اتخاذه حيال الفصائل المسلحة الموالية لها صحيحة أم لا، فإنها تعطي مؤشراً بأن خطى الكاظمي وحكومته بدأت تسير بخطى أكثر ثقة من ذي قبل. فالرسالة التي أشارت لها وكالة « أسوشييتد برس» لم يصدر نفي عنها من أي طرف من الأطراف، لا إيران ولا العراق. لكن بصرف النظر عنها، فإن التوجه السياسي للعراق بدأ يتجه الآن نحو مسار جديد في علاقاته الإقليمية والدولية، بمن في ذلك إيران والولايات المتحدة الأميركية أو العلاقات العربية. ففي حين بات يحكم العلاقة العراقية - الأميركية هو الحوار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن الذي جرى أخيراً، فإن العلاقة مع إيران دخلت مرحلة تفاهم جديدة بدا فيها ضبط إيقاع الفصائل المسلحة أهم ملامحها. فإيران دخلت الآن مرحلة جديدة مختلفة تماماً عما كانت عليه الأمور على عهد مرحلة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب؛ وذلك بدخولها مرحلة المفاوضات الحرجة مع القوى الغربية والولايات المتحدة الأميركية.
خلال الشهر الماضي، طبقاً للطريقة التي دار فيها بها الحوار الاستراتيجي مع واشنطن، أو الزيارات التي قام بها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، فضلاً عن القمة التي تأجلت مرتين لأسباب بدت موضوعية بين كل من العراق ومصر والأردن، يتضح أن بغداد بدأت تفكر خارج الصندوق، وتتحدث عن علاقات واتفاقات في الهواء الطلق. والأهم من ذلك كله، أن حجم الدعم لمثل هذه الخطوات والتحركات أكبر بكثير من الرفض أو الاعتراض من قبل هذا الطرف أو ذاك.

الحوار المتكافئ
الحوار الذي انطلق في السابع من أبريل (نيسان) الحالي في جولته الثالثة بين بغداد وواشنطن يعدّ ولأول مرة أول حواراً متكافئاً بين الطرفين. صحيح أن الحوار يستند في جانب منه إلى اتفاقية الإطار الاستراتيجي التي وقّعت بين بغداد وواشنطن عام 2009 خلال الفترة الأولى من عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، لكن نقطة قوة بغداد الآن في عهد رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي، أنه ليس جزءاً من الإشكالات التي حصلت خلال السنوات العشر الماضية. فطبقاً لاتفاقية عام 2009، فإنه يتعين على الأميركيين الانسحاب من العراق في أواخر عام 2011. وبالفعل انسحب الأميركيون من العراق؛ الأمر الذي ترك فراغاً واضحاً شغله الإرهاب شيئاً فشيئاً بسبب عجز الحكومات التي قامت بعملية الانسحاب عن ملء الفراغ الأمني في المناطق الغربية من البلاد. ذلك أنه بعد نحو ثلاث سنوات اجتاح مسلحو تنظيم «داعش» معظم المحافظات الغربية خلال شهر يونيو (حزيران) عام 2014، بدءاً من محافظتي نينوى وصلاح الدين وأجزاء من محافظتي كركوك وديالى، بينما تمكن التنظيم الإرهابي من احتلال محافظة الأنبار عام 2015.
في هذه الأثناء، كانت السلطات العراقية خلال المرحلة الانتقالية بين حكومتي نوري المالكي وحيدر العبادي عام 2014 قد قدمت طلباً للولايات المتحدة الأميركية بإرسال قواتها من جديد إلى العراق لمحاربة «داعش». وبعد تردد وافق الرئيس (يومذاك) باراك أوباما على استخدام القوة الجوية لضرب مواقع التنظيم، وفي وقت لاحق أرسل قوة عسكرية إلى العراق. ولكن بعد نحو ثلاث سنوات في أعقاب الانتهاء من عمليات التحرير تغير نمط العلاقة بين العراق والولايات المتحدة. ففي حين تريد حكومة بغداد رسم مسار واقعي مع واشنطن في إطار التحالف الدولي، فإن القوى التي تنامت قوتها بعد إعلان تأسيس «هيئة الحشد الشعبي» ودخول العديد من الفصائل المسلحة ضمن تشكيلاتها جعل مهمة بغداد أكثر تعقيداً في التعامل مع هذا الملف.

التركة أم الوديعة
على وقع هذه الإشكاليات تسلم مصطفى الكاظمي، مدير جهاز المخابرات العراقي، منصب رئاسة الوزراء، وكان مجيئه آخر الخيارات الصعبة التي اضطرت بعض القوى السياسية إلى الموافقة عليها.
أبرز ميزات الكاظمي، أنه لم يكن طامحاً لشغل المنصب مع أنه يعرف أن من وافق عليه لن يكون في صفه مهما كان أداؤه. وحقاً، حين تولى منصبه كان عليه مواجهة تركة صعبة جداً زادتها صعوبة جائحة «كوفيد - 19» التي أخذت تتفاقم في العراق خلال الفترة التي تولى فيها الكاظمي منصبه (مايو/أيار عام 2020). وفي جانب آخر، كان عليه الإيفاء بالتزاماته حيال المظاهرات التي اندلعت خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019، وكان الكاظمي أحد الشخصيات التي بدا للجميع أنها مقبولة من قبل أطراف كثيرة في جسم المظاهرات.
وهكذا، مع الحجم الهائل من التحديات والاستهدافات، بما في ذلك استهدافه شخصياً من قبل العديد من العناصر التي كانت تدوس على صوره في الشارع وهي ترتدي الزي العسكري، تعامل رئيس الوزراء بحكمة بالغة، إلى أن تمكن بهدوء يحسب له من امتصاص كل الصدمات التي كان يصعب على مسؤول آخر مواجهتها. وبعد أقل من سنة، اشتد ساعده وبدأ يتحرك بخطى واثقة على صُعد مختلفة، في المقدمة منها العلاقات الخارجية بعدما كان أوفى بوعده على صعيد حسم موعد الانتخابات المبكرة وتحديد آلياتها. وبين التركة الثقيلة من الحكومات السابقة والوديعة التي يتعين عليه التعامل معها، والمتمثلة بالمظاهرات، استطاع مصطفى الكاظمي مد جسور الثقة في الداخل العراقي؛ الأمر الذي جعله يتعامل مع الخارج بإيقاع مختلف.
علاقات ندية لا تبعية

لعل أهم ما تميزت به الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن عاملا الوضوح والصراحة؛ وذلك تمهيداً لتأسيس علاقات متكافئة بين طرفين سياديين لا علاقات تبعية من طرف واحد. وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين في تدوينة له على موقع «تويتر»، شارحاً «استطعنا خلال الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي بين جمهورية العراق والولايات المتحدة الأميركية أن نُكرّسَ لمسار جديد يعكس استجابة المفاوض العراقي للمصالح الوطنية في إطار السيادة الكاملة، ليأخذ العراق حضوره المتوازن في شراكة ممتدة ومتعددة المجالات». وأضاف الوزير العراقي «شكراً لمعالي الوزير أنتوني بلينكن (وزير الخارجية الأميركي) لإدارته الوفد المفاوض عن الجانب الأميركي بما يعزّز العلاقات بين بلدينا».
أيضاً، رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بدا هو الآخر متفائلاً بشأن إمكانية بناء علاقات متوازنة مع الجانب الأميركي. وفي تغريدة له على «تويتر» قال الكاظمي، إن «نتائج الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي بوابة لاستعادة الوضع الطبيعي في العراق، وبما يستحق العراق، وهو إنجاز جدير أن نهنئ به شعبنا المحب للسلام». وأردف، أن «‏الحوار هو الطريق السليمة لحل الأزمات. شعبنا يستحق أن يعيش السلم والأمن والازدهار، لا الصراعات والحروب والسلاح المنفلت والمغامرات».
وحول هذا الأمر، يقول أستاذ العلوم السياسية في كلية النهرين الدكتور ياسين البكري، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الحوار الاستراتيجي نقطة مهمة لتحديد مهام القوات الأميركية الموجودة بطلب من الحكومة العراقية بعد تداعيات دخول (داعش) للعراق عام 2014، ودعم القوات العراقية ومكافحة الإرهاب». وتابع «هذا الحوار يُعدّ بمثابة تأسيس لعلاقات أكثر طبيعية، وفي مجالات تتجاوز الملف الأمني باتجاه تفعيل اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين العراق وأميركا، التي بقيت من دون متابعة من الجانب العراقي».
كذلك، أوضح البكري، عن أن «تفعيل ملفات الدعم الأميركي وتحديدها خطوة مهمة بالنسبة للعراق الذي يواجه تحديات تبدأ مع الأمن ولا تنتهي به... وهو ما يؤسس لشراكات يحتاج إليها العراق مع قوة عظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية»، موضحاً أن «هذا المسار يبقى معترضاً عليه من قبل الجماعات المسلحة لأهداف جُلّها متعلق بالصراع الأميركي ـ الإيراني، ومن هنا، نجد التصريحات أقرب إلى أدوات ضغط متعلقة بالتمهيد لمفاوضات إيرانية - أميركية منها إلى تصريحات تتعلق بالسيادة العراقية». وأكد البكري من ثم «... ومن هنا نجد أن مستقبل التصريحات والسلوكيات، تصعيداً لمستوى راديكالي أو تخفيضاً، مرتبط بمستقبل الحوار الأميركي - الإيراني ومقدمات بنائه معلومة».
هذا، وفي سياق ردود الفعل، فقد رحّبت قوى سياسية عراقية عديدة بنتائج الجولة الثالثة من هذا الحوار. ففي بيانات صدرت عنها، أعلنت قيادات بينها كل من مسرور بارزاني رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان - العراق، ورئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي رئيس ائتلاف «النصر»، وعمّار الحكيم رئيس تحالف «عراقيون»، وهادي العامري زعيم تحالف «الفتح»... ترحيبهم بنتائج الحوار.
«زمن عراقي» جديد
يضاف إلى كل ما سبق، أن الجانب الإيراني لم يبدُ هذه المرة في وارد فرض الشروط على العراق على صعيد كيفية إدارة الحوار مع واشنطن. إذ إنه في عام 2015 حين جرى التوقيع على الاتفاق النووي بين إيران والمجموعة الغربية (5 زائد 1) كان الزمن مختلفاً. وصحيح أن الرئيس الحالي جو بايدن كان نائباً للرئيس، لكن الرئيس (يومذاك) باراك أوباما كان متحمساً للتوصل إلى اتفاق يوقف برنامج إيران النووي لمدة عشر سنوات... وغير معني عملياً بوقف تمددها في المنطقة. ولكن بعد مجيء دونالد ترمب إلى السلطة في واشنطن تغيّر الوضع، وأخذت الأوضاع تأخذ مساراً آخر. هذا المسار الآخر الذي تمثل بتولي بايدن الرئاسة هذه المرة لم تأخذه إيران كثيراً بنظر الاعتبار. فالقيادة الإيرانية، لا تزال تنظر إلى بايدن القديم، وبالتالي، بنت تصوراتها على صعيد المفاوضات معه بدءاً من حيث توقف الزمن عام 2016، بينما يرى مراقبون أن بايدن النائب غير بايدن الرئيس.
أيضاً، بين الزمنين الإيراني والأميركي هناك «زمن عراقي» تمثل بسقوط حكومة عادل عبد المهدي، القريبة من طهران، وتولّي حكومة جديدة هي حكومة مصطفى الكاظمي لا تبدو على المسافة نفسها من القيادة الإيرانية، على الأقل من وجهة نظر الفصائل المسلحة التي ناصبت الكاظمي العداء بينما تبدو علاقة رئيس الوزراء الحالي مع إيران الرسمية على الأقل طبيعية.
في سياق هذا «الزمن» الجديد الذي بدأ يتبلور بدءاً من سلسلة إجراءات اتخذتها حكومة الكاظمي، وصولاً إلى الحوار الاستراتيجي، يقول مستشار رئيس الوزراء العراقي الدكتور حسين علاوي في حديث لـ«الشرق الأوسط» عن هذا الحوار «إن انطلاق المرحلة الثالثة من ‫الحوار الاستراتيجي العراقي - الأميركي نجاحٌ يحسب للحكومة العراقية وحكومة الرئيس ‫بايدن». ويستطرد موضحاً، إن «الإصرار من قبل رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي على نقل العلاقات نحو أفق أوسع من الجانب الأحادي إلى الجوانب المتعددة سيكون كفيلاً بدعم التجربة الديمقراطية ومكافحة الإرهاب».‬‬
ويضيف علاوي، أن «انعقاد هذا الحوار يأتي في ضوء اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين البلدين». وبشأن طبيعة القضايا التي ستتناولها هذه الجولة من الحوار، يفيد بأن «هذه الجولة ستتناول قضايا الأمن ومكافحة الإرهاب، والاقتصاد والطاقة، والمسائل السياسية والتعاون في مجال التعليم والثقافة».
وبشأن الوجود الأميركي في العراق وما يمثله من خلافات، يرى علاوي أن «هذه القضية واحدة من القضايا الأساسية التي يتناولها هذا الحوار، ذلك أن الوجود الأميركي، وكما يعرف الجميع، هو وجود استشاري... إذ سبق سحب أعداد كبيرة من المستشارين الأميركيين ولم يتبق منهم اليوم سوى 2500 مستشار». وهنا يؤكد حسين علاوي، أن «الحكومة العراقية تعمل على تخفيض عدد المستشارين من خلال وضع جدول زمني مشترك على مدى ثلاث سنوات، مع تحديد المهمة الأساسية لعمل البعثة الاستشارية الأميركية هي لمحاربة فلول التنظيم الإرهابي (داعش) وتدريب القوات العراقية المشتركة». ويختتم بالقول، إن «من بين البنود التي يتضمنها هذا الحوار وضع خطة لتدريب القوات العراقية، وتقديم الاستشارة للقوات العراقية المشتركة ضد فلول (داعش)».



هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)
لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)
TT

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)
لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)

يُجمِع خبراء المناظرات الرئاسية الأميركية على أن الانتصارات فيها لا تُترجم بالضرورة فوزاً في الانتخابات، والمرشحون الذين يتألقون في المناظرات لا يفوزون دائماً في الانتخابات. هكذا خسر دونالد ترمب أمام هيلاري كلينتون عام 2016، وخسر جورج بوش الإبن أمام جون كيري عام 2004، لكنهما مع ذلك فازا بالبيت الأبيض. وقد يحتاج الأمر لعدة أسابيع لمعرفة تأثير نتائج مناظرة مساء الثلاثاء، بين نائبة الرئيس كامالا هاريس والرئيس السابق ترمب، على الناخبين «المتردّدين». لكن مع ذلك، أشارت النتائج الأولية إلى أن هاريس ربما تكون نجحت في تقديم رسالة أعمق بكثير من مجرّد كونها «منافسة جدّية» لترمب، تسعى إلى تقديم «أوراق اعتمادها» للناخبين بسرعة قياسية.

وسط عجز الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب عن وقف تحدّي كامالا هاريس، نائبة الرئيس الحالي، مساء الثلاثاء، تمكنت الأخيرة من تكرار الخطاب الذي ألقته في مؤتمر الحزب الديمقراطي، الشهر الماضي. وفيه قالت إنها تمثل «جيلاً» جديداً في السياسة الأميركية، آتياً «إلى واشنطن» من أصول سياسية واجتماعية وثقافية وعِرقية وعُمرية، يعكس التغيير الديمغرافي الكبير الذي تشهده الولايات المتحدة، بدأت تداعياته بانتخاب باراك أوباما أول رئيس من غير البِيض.

ولعلَّ انضمام المغنية الأميركية الشهيرة، تايلور سويفت، التي أُثيرَ حولها كثير من «قصص المؤامرات»، بما فيها الكلام عن «مخطّط» تورّط به «البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية)» لدعم هاريس، عبر منصة «إنستغرام» التي يتابعها فيها أكثر من 280 مليون شخص، يعكس هذا الجيل، الذي تُراهن عليه المرشحة الديمقراطية لإحداث التغيير.

سويفت كتبت أنها ستُصوّت لهاريس؛ «لأنها تُناضل من أجل حقوق وقضايا أعتقد أنها بحاجة لمحاربٍ يدافع عنها». وأضافت: «أعتقد أنها شخصية واثقة من نفسها وزعيمة موهوبة، وسيكون بإمكاننا أن نحقق كثيراً في هذه البلاد، إذا كان الزعيم الذي يقودنا هادئاً وليس فوضوياً». وجاء رد ترمب عليها سريعاً بأنه «لم يكن من المعجبين بتايلور سويفت... إنها شخص ليبرالي جداً، ويبدو أنها تؤيد دائماً المرشح الديمقراطي، وستدفع، على الأرجح، ثمن ذلك في السوق».

«تحييد» ترمب

منذ اللحظات الأولى للمناظرة، توجهت هاريس إلى منصة ترمب، وأجبرته على مصافحتها، فارضةً شروطها في إدارة الحوار، الذي سيحكم سلوكها من الآن وحتى يوم الانتخابات، بعد أقل من ثمانية أسابيع.

ومع محاولة هاريس أن تبدو نشيطة ومُفعمة برؤية مستقبلية إيجابية، فهي نجحت عملياً في «تحييده» وتجريده من أسلحته الهجومية، ومنعته من إهانتها بأسلوبه المعروف. لا، بل تمكنت من تأكيد الرسالة التي أرادت، من خلالها، مع عشرات النساء «العاملات» في مؤتمر الحزب الديمقراطي، القول للأميركيين: «إنه لاستعادةِ التوازن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الذي اختلّ في أميركا، يجب أن نعيد بناء الطبقة الوسطى، التي تَراجع دورها ووزنها لمصلحة فاحشي الغنى والفقراء».

وفي المقابل، وقف ترمب محدّقاً وصارخاً بصوت عالٍ، منتقداً وضع أميركا، واصفاً إياها بأنها «دولة فاشلة». ومع تكراره خطاباته وشعاراته المعروفة، بدا أنه «خارج لعبته»، التي كان يعتقد أنه سيتمكن من مواصلتها في المناظرة معها، فأُصيبَ بالذهول من اللكمات التي تلقّاها من هاريس، من دون أن يتمكن من توجيه سوى قليل منها في المقابل.

هاريس لطيّ الصفحة

استطلاعات الرأي السابقة للمناظرة كانت تشير إلى أن ما يقرب من ثلث الناخبين «يريدون معرفة المزيد» عن هاريس. ولقد بدا أن رفضها الخضوع لضغوط الجمهوريين وانتقاداتهم إياها بسبب امتناعها عن عقد مؤتمرات صحافية مفتوحة، كان مقصوداً لمنع ترمب من الحصول على «داتا» من المعلومات عنها يستطيع استخدامها في مهاجمتها، بعدما أصبحت مرشحة الحزب الديمقراطي.

ومقابل نجاح هاريس في تقديم أداء موجّه؛ ليس فقط لتوسيع ائتلافها من الأقليات، بل النساء والفئات الطموحة لتغيير وضعها الاجتماعي، فشل ترمب في تقديم خطاب مماثل. وبدلاً من أن تردّ هاريس على الضغوط «للتعريف عن نفسها» بشكل أكبر أمام الناخبين، من خلال تحديد مواقفها بشأن السياسات، اختارت الرد عبر تقديم نفسها بصفتها سياسية قوية نشطت بلا هوادة في مهاجمة ترمب.

وهكذا لعبت دور المدَّعي العام منذ بداية المناظرة إلى نهايتها، ولا سيما عندما دعت «إلى طي صفحة ترمب»، ووصفته بأنه تهديد لمستقبل البلاد إذا عاد إلى المكتب البيضاوي، وصوّرته على أنه مهووس بنفسه، وليس بالأشخاص الذين يسعى لخدمتهم.

كذلك قدمت تفاصيل عن إداناته الجنائية، ولوائح الاتهام الموجّهة إليه، حتى إنها استهزأت بشأن أحجام الحشود في مهرجاناته الانتخابية، وصولاً إلى «الانتقادات» التي «سمعتها» من القادة الأجانب والعسكريين، الذين قالت إنهم وصفوه بأنه «عار». وبدا أداؤها مهيمناً ومباشراً وثابتاً لمستوى لم يعهده ترمب من قبلُ في حياته السياسية.

قاعدة ترمب هي الأساس

في المقابل، وبدلاً من أن يبذل ترمب جهداً لتوسيع قاعدته الانتخابية، فإنه حافظ على خطابه وتصوّراته الموجّهة لقاعدته الأكثر ولاءً، ما أدى إلى تآكل قدرته على مخاطبة الناخبين الأكثر اعتدالاً، وبالأخص إحجامه عن توضيح نياته تجاه الناخبين الأساسيين في الولايات المتأرجحة الذين سيقرّرون نتيجة الانتخابات. ثم إن الرئيس السابق بدا، في كثير من الأحيان، أنه يتمنى لو كان لا يزال يناقش مُنافسه السابق، الرئيس جو بايدن. وفي تفسيرها ارتباك ترمب، خاطبته هاريس قائلة: «أنت لا تترشح ضد جو بايدن، أنت تتنافس ضدي».

لقد كان طبيعياً أن يشعر الديمقراطيون بالارتياح من أداء مرشحتهم، مقابل تقليل الجمهوريين من أهمية «فشل» أداء زعيمهم. ومع ذلك، فإنه من السابق لأوانه القول ما إذا كان أداء هاريس القوي سيُترجَم إلى زخم جديد. لذا اكتفي الديمقراطيون بالقول إنها حسّنت فرصها، وسط استطلاعات رأي فورية أجْرتها وسائل إعلام رئيسة كبرى، تشير إلى احتمال أن يكون عدد الناخبين في الولايات المتأرجحة، الذين قد يقرّرون نتيجة الانتخابات المقبلة، وقاموا بتغيير رأيهم، قد وصل إلى 200 ألف شخص.

بدلاً من أن يبذل ترمب جهداً لتوسيع قاعدته الانتخابية... فإنه حافظ على خطابه الموجّه لقاعدته

قوة ترمب... ملفا الاقتصاد والهجرة

غير أن عدداً كبيراً من المعلّقين أشار إلى أن خسارة ترمب المفترضة للمناظرة لم تُفقده «الأفضلية» التي لا يزال يتمتع بها منذ فترة طويلة في أهم قضيتين في الانتخابات: الاقتصاد والهجرة.

ومع استمرار انتظار كثير من الناخبين تحقيق الوعود بانتعاش اقتصادي - الذي لن يأتي خلال الأسابيع الثمانية المقبلة - من غير المؤكَّد أن تُشكّل المناظرة عاملاً حاسماً في تغيير اتجاهات تصويتهم. ومن ناحية ثانية، وإنْ بدت رسائل ترمب «الشعبوية» المتشائمة بشأن الهجرة والجريمة مُبالَغاً فيها، فإنها أثبتت فاعليتها في بلدٍ يعيش انقساماً عميقاً تَغذَّى من انهيار كثير من شبكات الأمان الاجتماعية نتيجة اتساع الهوة بين طبقات المجتمع الأميركي، والتغييرات البنيوية التي أصابت الإنتاج الاقتصادي. وعليه، يحذّر خبراء من أن بعض الأحداث غير المتوقعة، داخلياً وخارجياً، قد تسهم، خلال الشهرين المقبلين، في ترجيح كفة أحد المتنافسين على مُنافسه.

وحقاً، تَعِد الأسابيع الأخيرة من الحملة الانتخابية بأن تكون مثيرة للجدل، مثل المناظرة التي استمرت 90 دقيقة بين ترمب وهاريس. إذ أظهرت استطلاعات الرأي غياب «الزعيم» الواضح لشعب متوتر حائر. ورغم تمكن هاريس من التصدّي لصدامية شخصية ترمب و«ذكوريته» - على الأقل جزئياً بأدائها القوي والثابت - ففي سباق متقارب... لا يستطيع أي من المرشحين تحمّل العثرات أو الأخطاء.

وبالفعل، حذّر عدد من الجمهوريين من أن استخفاف ترمب بهاريس جعله يُقبِل على مناظرة لم يتوقعها. وكان سبق له أن استخفَّ بها شخصياً، وشكَّك في ذكائها وهويتها. وعندما حُوصر في المناقشة، استخدم قضية الهجرة لشنّ الهجوم المضاد، لكنه كرر أيضاً كثيراً من الادعاءات غير المثبَتة... التي لم تُسعفه كثيراً.

سباق متقارب رغم كل شيء

تكراراً، استراتيجية ترمب كانت تهدف، إلى حد ما، إلى جذب قاعدته المُوالية فقط، التي يراهن على أنها هي كل ما سيحتاج إليه للفوز في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. وحتماً، كانت تلك القاعدة راضية عن هجماته المتواصلة على سِجلّيْ بايدن وهاريس، خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد والهجرة والسياسة الخارجية. لكن مع منافسة شديدة بينهما، بدت هاريس، بجاذبيتها التي فتحت صفحة جديدة، أكثر اهتماماً منه بتوسيع دعمها بما يكفي لتجاوزه في نوفمبر.

ومع هذا، لا بد من القول إنه على الرغم من كل الاضطرابات والتغييرات التي جرت، الشهرين الماضيين، وكل ما قاله ترمب وفعله، بما في ذلك إدانته بارتكاب جريمة، وهجماته الشخصية على هاريس، لا تزال استطلاعات الرأي تشير إلى أن انتخابات عام 2024 متقاربة بشكل شديد، وكأنها نزالٌ أخير في معركة بين «جيلين» ستُغيّر؛ ليس فقط مستقبل الحزبين الديمقراطي والجمهوري، بل أميركا نفسها.

قبل المناظرة، ركز معظم التعليقات على ما يتوجب على هاريس فعله، والأخطار التي تهددها إذا كان أداؤها ضعيفاً. بَيْد أنها بعد العرض المشجِّع الذي قدمته، ستحاول، الآن، الحفاظ على الزخم الذي حققته في الأسابيع المقبلة.

كذلك مع انسحاب بايدن، تحوّلت هاريس من مرشحة بديلة إلى مرشحة ديمقراطية رائدة بين ليلةٍ وضحاها، مستفيدة من موجة الحماسة التي سبقت مؤتمر الحزب، في شيكاغو، الشهر الماضي، وتخلَّلته وتَلَتْه.

بالنسبة للديمقراطيين، فإن مجرد عودتهم إلى السباق جاءت بمثابة دفعة معنوية. وبعدما كانوا يخشون من عجز بايدن عن الفوز في الانتخابات، حرّكت هاريس استطلاعات الرأي بأربع إلى خمس نقاط في جميع ولايات الصراع الرئيسة، وفقاً لاستطلاعات رأي عدة. وبعكس بايدن، أعادت هاريس توحيد الديمقراطيين حول ترشيحها لتُعيد السباق الرئاسي، على الأقل، إلى معركة تنافسية عنيفة بعدما بدا أن ترمب في طريقه إلى فوز محتّم. وبالفعل، قالت، للصحافيين في قاعة مراقبة المناظرة، إن «اليوم كان يوماً جيداً»، إلا أنها حذّرت من سباق «متقارب جداً... وما زلنا الطرف المستضعَف في هذا السباق».

أخيراً، في انتخابات متقاربة الأنفاس للغاية، يرى خبراء الانتخابات أن كل شيء مهم، المناقشات، والرسائل، والإعلانات، والحماس، وأين ومتى يقوم المرشحون بحملاتهم. ومع قول هاريس إنها «المستضعَفة»، وبالنظر إلى المفاجأة التي حققها ترمب عام 2016، من المحتمل أن يكون تحذيرها هذا هو الموقف الصحيح الذي يجب اتخاذه، فهي جاءت إلى المناظرة لإثبات شيء ما، وفعلت ذلك، لكنها لا تستطيع أن تتوقف، ولا يوجد ثمة هامش للخطأ.

 

الولايات السبع المتأرجحة هي الأكثر قسوة في التشدد لحسم السباق الرئاسي

يُنظَر إلى الديمقراطيين على أنهم يتمتعون بقدرات ميدانية قوية لحضّ الناخبين على التصويت، كما أثبتوا ذلك في الانتخابات النصفية عام 2022، عندما كان أداؤهم أفضل بكثير مما أشارت إليه استطلاعات الرأي والتوقعات. لكن الوقع قد يختلف بوجود ترمب على بطاقة الاقتراع، إذ أثبت أنه مُحفّز قوي للقاعدة الجمهورية، حتى في غياب البنية التحتية الضرورية لحملته في كل ولاية على حدة. ومع إدراك الديمقراطيين أن عليهم العمل لدفع ناخبيهم إلى مراكز الاقتراع، فهم يشعرون بالقلق من أن أنصار ترمب الغاضبين والقلِقين لا يحتاجون للتحفيز.ومع بقاء أقل من ثمانية أسابيع على الانتخابات، تبدو المنافسة شديدة الحرارة إحصائياً على الصعيد الوطني. والأهم من ذلك أن ولايات الصراع السبع التي ستقرر النتيجة: ميشيغان وبنسلفانيا وويسكونسن ونورث كارولينا وجورجيا ونيفادا وأريزونا، تبدو أيضاً أكثر قسوة، استناداً إلى متوسطات استطلاعات الرأي، التي أجرتها أربع مؤسسات هي: «الواشنطن بوست»، و«النيويورك تايمز»، و«الريل كلير بوليتيكس»، و«538».إذ ارتفع معدل هاريس نقطتين مئويتين في ميشيغان، وتعادلت بنقطة مئوية مع ترمب في جورجيا وأريزونا. وتُظهر بنسلفانيا، التي يرى عدد من المحللين أنها مفتاح الانتخابات، أن هاريس تتقدم بفارق نقطة أو نقطتين مئويتين. أما الولاية الوحيدة التي يتقدم فيها أحد المرشحين بأكثر من نقطتين مئويتين فهي ولاية ويسكونسن، حيث تتمتع هاريس بفارق ثلاث نقاط مئوية في المتوسط. ومع هذا، ففي أربعة من الانتخابات الستة الماضية في ويسكونسن - بما في ذلك عاما 2020 و2016 - كان هامش الفائز نقطة مئوية أو أقل، ما يشير إلى وجود منافسة حامية الوطيس هناك.تقدّم الانتخابات الماضية للديمقراطيين تحذيرات تفرض عليهم التوقف أمام نتائجها، إذ تقدَّم ترمب، في استطلاعات الرأي خلال عامي 2016 و2020، لكنه ربح الأولى، وخسر الثانية. وفي ساحات الصراع الشمالية الثلاث، قلّلت استطلاعات الرأي، قبل الانتخابات، من دعم ترمب النهائي بثلاث نقاط في ميشيغان، وثلاث نقاط في بنسلفانيا، وخمس نقاط في ويسكونسن. وفي الوقت نفسه، تُظهر متوسطات موقع «الريل كلير بوليتيكس»، أن دعم ترمب يتقدّم، هذا العام، مقارنة بما كان عليه قبل أربع سنوات.