بغداد بدأت تفكر خارج الصندوق

حوار استراتيجي بخطى واثقة مع واشنطن وعلاقات عربية منفتحة

بغداد بدأت تفكر خارج الصندوق
TT

بغداد بدأت تفكر خارج الصندوق

بغداد بدأت تفكر خارج الصندوق

بصرف النظر إن كانت الرسالة التي يقال إن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي وجهها إلى إيران بشأن موقف متشدد قرر اتخاذه حيال الفصائل المسلحة الموالية لها صحيحة أم لا، فإنها تعطي مؤشراً بأن خطى الكاظمي وحكومته بدأت تسير بخطى أكثر ثقة من ذي قبل. فالرسالة التي أشارت لها وكالة « أسوشييتد برس» لم يصدر نفي عنها من أي طرف من الأطراف، لا إيران ولا العراق. لكن بصرف النظر عنها، فإن التوجه السياسي للعراق بدأ يتجه الآن نحو مسار جديد في علاقاته الإقليمية والدولية، بمن في ذلك إيران والولايات المتحدة الأميركية أو العلاقات العربية. ففي حين بات يحكم العلاقة العراقية - الأميركية هو الحوار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن الذي جرى أخيراً، فإن العلاقة مع إيران دخلت مرحلة تفاهم جديدة بدا فيها ضبط إيقاع الفصائل المسلحة أهم ملامحها. فإيران دخلت الآن مرحلة جديدة مختلفة تماماً عما كانت عليه الأمور على عهد مرحلة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب؛ وذلك بدخولها مرحلة المفاوضات الحرجة مع القوى الغربية والولايات المتحدة الأميركية.
خلال الشهر الماضي، طبقاً للطريقة التي دار فيها بها الحوار الاستراتيجي مع واشنطن، أو الزيارات التي قام بها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، فضلاً عن القمة التي تأجلت مرتين لأسباب بدت موضوعية بين كل من العراق ومصر والأردن، يتضح أن بغداد بدأت تفكر خارج الصندوق، وتتحدث عن علاقات واتفاقات في الهواء الطلق. والأهم من ذلك كله، أن حجم الدعم لمثل هذه الخطوات والتحركات أكبر بكثير من الرفض أو الاعتراض من قبل هذا الطرف أو ذاك.

الحوار المتكافئ
الحوار الذي انطلق في السابع من أبريل (نيسان) الحالي في جولته الثالثة بين بغداد وواشنطن يعدّ ولأول مرة أول حواراً متكافئاً بين الطرفين. صحيح أن الحوار يستند في جانب منه إلى اتفاقية الإطار الاستراتيجي التي وقّعت بين بغداد وواشنطن عام 2009 خلال الفترة الأولى من عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، لكن نقطة قوة بغداد الآن في عهد رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي، أنه ليس جزءاً من الإشكالات التي حصلت خلال السنوات العشر الماضية. فطبقاً لاتفاقية عام 2009، فإنه يتعين على الأميركيين الانسحاب من العراق في أواخر عام 2011. وبالفعل انسحب الأميركيون من العراق؛ الأمر الذي ترك فراغاً واضحاً شغله الإرهاب شيئاً فشيئاً بسبب عجز الحكومات التي قامت بعملية الانسحاب عن ملء الفراغ الأمني في المناطق الغربية من البلاد. ذلك أنه بعد نحو ثلاث سنوات اجتاح مسلحو تنظيم «داعش» معظم المحافظات الغربية خلال شهر يونيو (حزيران) عام 2014، بدءاً من محافظتي نينوى وصلاح الدين وأجزاء من محافظتي كركوك وديالى، بينما تمكن التنظيم الإرهابي من احتلال محافظة الأنبار عام 2015.
في هذه الأثناء، كانت السلطات العراقية خلال المرحلة الانتقالية بين حكومتي نوري المالكي وحيدر العبادي عام 2014 قد قدمت طلباً للولايات المتحدة الأميركية بإرسال قواتها من جديد إلى العراق لمحاربة «داعش». وبعد تردد وافق الرئيس (يومذاك) باراك أوباما على استخدام القوة الجوية لضرب مواقع التنظيم، وفي وقت لاحق أرسل قوة عسكرية إلى العراق. ولكن بعد نحو ثلاث سنوات في أعقاب الانتهاء من عمليات التحرير تغير نمط العلاقة بين العراق والولايات المتحدة. ففي حين تريد حكومة بغداد رسم مسار واقعي مع واشنطن في إطار التحالف الدولي، فإن القوى التي تنامت قوتها بعد إعلان تأسيس «هيئة الحشد الشعبي» ودخول العديد من الفصائل المسلحة ضمن تشكيلاتها جعل مهمة بغداد أكثر تعقيداً في التعامل مع هذا الملف.

التركة أم الوديعة
على وقع هذه الإشكاليات تسلم مصطفى الكاظمي، مدير جهاز المخابرات العراقي، منصب رئاسة الوزراء، وكان مجيئه آخر الخيارات الصعبة التي اضطرت بعض القوى السياسية إلى الموافقة عليها.
أبرز ميزات الكاظمي، أنه لم يكن طامحاً لشغل المنصب مع أنه يعرف أن من وافق عليه لن يكون في صفه مهما كان أداؤه. وحقاً، حين تولى منصبه كان عليه مواجهة تركة صعبة جداً زادتها صعوبة جائحة «كوفيد - 19» التي أخذت تتفاقم في العراق خلال الفترة التي تولى فيها الكاظمي منصبه (مايو/أيار عام 2020). وفي جانب آخر، كان عليه الإيفاء بالتزاماته حيال المظاهرات التي اندلعت خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019، وكان الكاظمي أحد الشخصيات التي بدا للجميع أنها مقبولة من قبل أطراف كثيرة في جسم المظاهرات.
وهكذا، مع الحجم الهائل من التحديات والاستهدافات، بما في ذلك استهدافه شخصياً من قبل العديد من العناصر التي كانت تدوس على صوره في الشارع وهي ترتدي الزي العسكري، تعامل رئيس الوزراء بحكمة بالغة، إلى أن تمكن بهدوء يحسب له من امتصاص كل الصدمات التي كان يصعب على مسؤول آخر مواجهتها. وبعد أقل من سنة، اشتد ساعده وبدأ يتحرك بخطى واثقة على صُعد مختلفة، في المقدمة منها العلاقات الخارجية بعدما كان أوفى بوعده على صعيد حسم موعد الانتخابات المبكرة وتحديد آلياتها. وبين التركة الثقيلة من الحكومات السابقة والوديعة التي يتعين عليه التعامل معها، والمتمثلة بالمظاهرات، استطاع مصطفى الكاظمي مد جسور الثقة في الداخل العراقي؛ الأمر الذي جعله يتعامل مع الخارج بإيقاع مختلف.
علاقات ندية لا تبعية

لعل أهم ما تميزت به الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن عاملا الوضوح والصراحة؛ وذلك تمهيداً لتأسيس علاقات متكافئة بين طرفين سياديين لا علاقات تبعية من طرف واحد. وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين في تدوينة له على موقع «تويتر»، شارحاً «استطعنا خلال الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي بين جمهورية العراق والولايات المتحدة الأميركية أن نُكرّسَ لمسار جديد يعكس استجابة المفاوض العراقي للمصالح الوطنية في إطار السيادة الكاملة، ليأخذ العراق حضوره المتوازن في شراكة ممتدة ومتعددة المجالات». وأضاف الوزير العراقي «شكراً لمعالي الوزير أنتوني بلينكن (وزير الخارجية الأميركي) لإدارته الوفد المفاوض عن الجانب الأميركي بما يعزّز العلاقات بين بلدينا».
أيضاً، رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بدا هو الآخر متفائلاً بشأن إمكانية بناء علاقات متوازنة مع الجانب الأميركي. وفي تغريدة له على «تويتر» قال الكاظمي، إن «نتائج الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي بوابة لاستعادة الوضع الطبيعي في العراق، وبما يستحق العراق، وهو إنجاز جدير أن نهنئ به شعبنا المحب للسلام». وأردف، أن «‏الحوار هو الطريق السليمة لحل الأزمات. شعبنا يستحق أن يعيش السلم والأمن والازدهار، لا الصراعات والحروب والسلاح المنفلت والمغامرات».
وحول هذا الأمر، يقول أستاذ العلوم السياسية في كلية النهرين الدكتور ياسين البكري، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الحوار الاستراتيجي نقطة مهمة لتحديد مهام القوات الأميركية الموجودة بطلب من الحكومة العراقية بعد تداعيات دخول (داعش) للعراق عام 2014، ودعم القوات العراقية ومكافحة الإرهاب». وتابع «هذا الحوار يُعدّ بمثابة تأسيس لعلاقات أكثر طبيعية، وفي مجالات تتجاوز الملف الأمني باتجاه تفعيل اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين العراق وأميركا، التي بقيت من دون متابعة من الجانب العراقي».
كذلك، أوضح البكري، عن أن «تفعيل ملفات الدعم الأميركي وتحديدها خطوة مهمة بالنسبة للعراق الذي يواجه تحديات تبدأ مع الأمن ولا تنتهي به... وهو ما يؤسس لشراكات يحتاج إليها العراق مع قوة عظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية»، موضحاً أن «هذا المسار يبقى معترضاً عليه من قبل الجماعات المسلحة لأهداف جُلّها متعلق بالصراع الأميركي ـ الإيراني، ومن هنا، نجد التصريحات أقرب إلى أدوات ضغط متعلقة بالتمهيد لمفاوضات إيرانية - أميركية منها إلى تصريحات تتعلق بالسيادة العراقية». وأكد البكري من ثم «... ومن هنا نجد أن مستقبل التصريحات والسلوكيات، تصعيداً لمستوى راديكالي أو تخفيضاً، مرتبط بمستقبل الحوار الأميركي - الإيراني ومقدمات بنائه معلومة».
هذا، وفي سياق ردود الفعل، فقد رحّبت قوى سياسية عراقية عديدة بنتائج الجولة الثالثة من هذا الحوار. ففي بيانات صدرت عنها، أعلنت قيادات بينها كل من مسرور بارزاني رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان - العراق، ورئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي رئيس ائتلاف «النصر»، وعمّار الحكيم رئيس تحالف «عراقيون»، وهادي العامري زعيم تحالف «الفتح»... ترحيبهم بنتائج الحوار.
«زمن عراقي» جديد
يضاف إلى كل ما سبق، أن الجانب الإيراني لم يبدُ هذه المرة في وارد فرض الشروط على العراق على صعيد كيفية إدارة الحوار مع واشنطن. إذ إنه في عام 2015 حين جرى التوقيع على الاتفاق النووي بين إيران والمجموعة الغربية (5 زائد 1) كان الزمن مختلفاً. وصحيح أن الرئيس الحالي جو بايدن كان نائباً للرئيس، لكن الرئيس (يومذاك) باراك أوباما كان متحمساً للتوصل إلى اتفاق يوقف برنامج إيران النووي لمدة عشر سنوات... وغير معني عملياً بوقف تمددها في المنطقة. ولكن بعد مجيء دونالد ترمب إلى السلطة في واشنطن تغيّر الوضع، وأخذت الأوضاع تأخذ مساراً آخر. هذا المسار الآخر الذي تمثل بتولي بايدن الرئاسة هذه المرة لم تأخذه إيران كثيراً بنظر الاعتبار. فالقيادة الإيرانية، لا تزال تنظر إلى بايدن القديم، وبالتالي، بنت تصوراتها على صعيد المفاوضات معه بدءاً من حيث توقف الزمن عام 2016، بينما يرى مراقبون أن بايدن النائب غير بايدن الرئيس.
أيضاً، بين الزمنين الإيراني والأميركي هناك «زمن عراقي» تمثل بسقوط حكومة عادل عبد المهدي، القريبة من طهران، وتولّي حكومة جديدة هي حكومة مصطفى الكاظمي لا تبدو على المسافة نفسها من القيادة الإيرانية، على الأقل من وجهة نظر الفصائل المسلحة التي ناصبت الكاظمي العداء بينما تبدو علاقة رئيس الوزراء الحالي مع إيران الرسمية على الأقل طبيعية.
في سياق هذا «الزمن» الجديد الذي بدأ يتبلور بدءاً من سلسلة إجراءات اتخذتها حكومة الكاظمي، وصولاً إلى الحوار الاستراتيجي، يقول مستشار رئيس الوزراء العراقي الدكتور حسين علاوي في حديث لـ«الشرق الأوسط» عن هذا الحوار «إن انطلاق المرحلة الثالثة من ‫الحوار الاستراتيجي العراقي - الأميركي نجاحٌ يحسب للحكومة العراقية وحكومة الرئيس ‫بايدن». ويستطرد موضحاً، إن «الإصرار من قبل رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي على نقل العلاقات نحو أفق أوسع من الجانب الأحادي إلى الجوانب المتعددة سيكون كفيلاً بدعم التجربة الديمقراطية ومكافحة الإرهاب».‬‬
ويضيف علاوي، أن «انعقاد هذا الحوار يأتي في ضوء اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين البلدين». وبشأن طبيعة القضايا التي ستتناولها هذه الجولة من الحوار، يفيد بأن «هذه الجولة ستتناول قضايا الأمن ومكافحة الإرهاب، والاقتصاد والطاقة، والمسائل السياسية والتعاون في مجال التعليم والثقافة».
وبشأن الوجود الأميركي في العراق وما يمثله من خلافات، يرى علاوي أن «هذه القضية واحدة من القضايا الأساسية التي يتناولها هذا الحوار، ذلك أن الوجود الأميركي، وكما يعرف الجميع، هو وجود استشاري... إذ سبق سحب أعداد كبيرة من المستشارين الأميركيين ولم يتبق منهم اليوم سوى 2500 مستشار». وهنا يؤكد حسين علاوي، أن «الحكومة العراقية تعمل على تخفيض عدد المستشارين من خلال وضع جدول زمني مشترك على مدى ثلاث سنوات، مع تحديد المهمة الأساسية لعمل البعثة الاستشارية الأميركية هي لمحاربة فلول التنظيم الإرهابي (داعش) وتدريب القوات العراقية المشتركة». ويختتم بالقول، إن «من بين البنود التي يتضمنها هذا الحوار وضع خطة لتدريب القوات العراقية، وتقديم الاستشارة للقوات العراقية المشتركة ضد فلول (داعش)».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.