بغداد بدأت تفكر خارج الصندوق

حوار استراتيجي بخطى واثقة مع واشنطن وعلاقات عربية منفتحة

بغداد بدأت تفكر خارج الصندوق
TT

بغداد بدأت تفكر خارج الصندوق

بغداد بدأت تفكر خارج الصندوق

بصرف النظر إن كانت الرسالة التي يقال إن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي وجهها إلى إيران بشأن موقف متشدد قرر اتخاذه حيال الفصائل المسلحة الموالية لها صحيحة أم لا، فإنها تعطي مؤشراً بأن خطى الكاظمي وحكومته بدأت تسير بخطى أكثر ثقة من ذي قبل. فالرسالة التي أشارت لها وكالة « أسوشييتد برس» لم يصدر نفي عنها من أي طرف من الأطراف، لا إيران ولا العراق. لكن بصرف النظر عنها، فإن التوجه السياسي للعراق بدأ يتجه الآن نحو مسار جديد في علاقاته الإقليمية والدولية، بمن في ذلك إيران والولايات المتحدة الأميركية أو العلاقات العربية. ففي حين بات يحكم العلاقة العراقية - الأميركية هو الحوار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن الذي جرى أخيراً، فإن العلاقة مع إيران دخلت مرحلة تفاهم جديدة بدا فيها ضبط إيقاع الفصائل المسلحة أهم ملامحها. فإيران دخلت الآن مرحلة جديدة مختلفة تماماً عما كانت عليه الأمور على عهد مرحلة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب؛ وذلك بدخولها مرحلة المفاوضات الحرجة مع القوى الغربية والولايات المتحدة الأميركية.
خلال الشهر الماضي، طبقاً للطريقة التي دار فيها بها الحوار الاستراتيجي مع واشنطن، أو الزيارات التي قام بها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، فضلاً عن القمة التي تأجلت مرتين لأسباب بدت موضوعية بين كل من العراق ومصر والأردن، يتضح أن بغداد بدأت تفكر خارج الصندوق، وتتحدث عن علاقات واتفاقات في الهواء الطلق. والأهم من ذلك كله، أن حجم الدعم لمثل هذه الخطوات والتحركات أكبر بكثير من الرفض أو الاعتراض من قبل هذا الطرف أو ذاك.

الحوار المتكافئ
الحوار الذي انطلق في السابع من أبريل (نيسان) الحالي في جولته الثالثة بين بغداد وواشنطن يعدّ ولأول مرة أول حواراً متكافئاً بين الطرفين. صحيح أن الحوار يستند في جانب منه إلى اتفاقية الإطار الاستراتيجي التي وقّعت بين بغداد وواشنطن عام 2009 خلال الفترة الأولى من عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، لكن نقطة قوة بغداد الآن في عهد رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي، أنه ليس جزءاً من الإشكالات التي حصلت خلال السنوات العشر الماضية. فطبقاً لاتفاقية عام 2009، فإنه يتعين على الأميركيين الانسحاب من العراق في أواخر عام 2011. وبالفعل انسحب الأميركيون من العراق؛ الأمر الذي ترك فراغاً واضحاً شغله الإرهاب شيئاً فشيئاً بسبب عجز الحكومات التي قامت بعملية الانسحاب عن ملء الفراغ الأمني في المناطق الغربية من البلاد. ذلك أنه بعد نحو ثلاث سنوات اجتاح مسلحو تنظيم «داعش» معظم المحافظات الغربية خلال شهر يونيو (حزيران) عام 2014، بدءاً من محافظتي نينوى وصلاح الدين وأجزاء من محافظتي كركوك وديالى، بينما تمكن التنظيم الإرهابي من احتلال محافظة الأنبار عام 2015.
في هذه الأثناء، كانت السلطات العراقية خلال المرحلة الانتقالية بين حكومتي نوري المالكي وحيدر العبادي عام 2014 قد قدمت طلباً للولايات المتحدة الأميركية بإرسال قواتها من جديد إلى العراق لمحاربة «داعش». وبعد تردد وافق الرئيس (يومذاك) باراك أوباما على استخدام القوة الجوية لضرب مواقع التنظيم، وفي وقت لاحق أرسل قوة عسكرية إلى العراق. ولكن بعد نحو ثلاث سنوات في أعقاب الانتهاء من عمليات التحرير تغير نمط العلاقة بين العراق والولايات المتحدة. ففي حين تريد حكومة بغداد رسم مسار واقعي مع واشنطن في إطار التحالف الدولي، فإن القوى التي تنامت قوتها بعد إعلان تأسيس «هيئة الحشد الشعبي» ودخول العديد من الفصائل المسلحة ضمن تشكيلاتها جعل مهمة بغداد أكثر تعقيداً في التعامل مع هذا الملف.

التركة أم الوديعة
على وقع هذه الإشكاليات تسلم مصطفى الكاظمي، مدير جهاز المخابرات العراقي، منصب رئاسة الوزراء، وكان مجيئه آخر الخيارات الصعبة التي اضطرت بعض القوى السياسية إلى الموافقة عليها.
أبرز ميزات الكاظمي، أنه لم يكن طامحاً لشغل المنصب مع أنه يعرف أن من وافق عليه لن يكون في صفه مهما كان أداؤه. وحقاً، حين تولى منصبه كان عليه مواجهة تركة صعبة جداً زادتها صعوبة جائحة «كوفيد - 19» التي أخذت تتفاقم في العراق خلال الفترة التي تولى فيها الكاظمي منصبه (مايو/أيار عام 2020). وفي جانب آخر، كان عليه الإيفاء بالتزاماته حيال المظاهرات التي اندلعت خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019، وكان الكاظمي أحد الشخصيات التي بدا للجميع أنها مقبولة من قبل أطراف كثيرة في جسم المظاهرات.
وهكذا، مع الحجم الهائل من التحديات والاستهدافات، بما في ذلك استهدافه شخصياً من قبل العديد من العناصر التي كانت تدوس على صوره في الشارع وهي ترتدي الزي العسكري، تعامل رئيس الوزراء بحكمة بالغة، إلى أن تمكن بهدوء يحسب له من امتصاص كل الصدمات التي كان يصعب على مسؤول آخر مواجهتها. وبعد أقل من سنة، اشتد ساعده وبدأ يتحرك بخطى واثقة على صُعد مختلفة، في المقدمة منها العلاقات الخارجية بعدما كان أوفى بوعده على صعيد حسم موعد الانتخابات المبكرة وتحديد آلياتها. وبين التركة الثقيلة من الحكومات السابقة والوديعة التي يتعين عليه التعامل معها، والمتمثلة بالمظاهرات، استطاع مصطفى الكاظمي مد جسور الثقة في الداخل العراقي؛ الأمر الذي جعله يتعامل مع الخارج بإيقاع مختلف.
علاقات ندية لا تبعية

لعل أهم ما تميزت به الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن عاملا الوضوح والصراحة؛ وذلك تمهيداً لتأسيس علاقات متكافئة بين طرفين سياديين لا علاقات تبعية من طرف واحد. وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين في تدوينة له على موقع «تويتر»، شارحاً «استطعنا خلال الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي بين جمهورية العراق والولايات المتحدة الأميركية أن نُكرّسَ لمسار جديد يعكس استجابة المفاوض العراقي للمصالح الوطنية في إطار السيادة الكاملة، ليأخذ العراق حضوره المتوازن في شراكة ممتدة ومتعددة المجالات». وأضاف الوزير العراقي «شكراً لمعالي الوزير أنتوني بلينكن (وزير الخارجية الأميركي) لإدارته الوفد المفاوض عن الجانب الأميركي بما يعزّز العلاقات بين بلدينا».
أيضاً، رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بدا هو الآخر متفائلاً بشأن إمكانية بناء علاقات متوازنة مع الجانب الأميركي. وفي تغريدة له على «تويتر» قال الكاظمي، إن «نتائج الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي بوابة لاستعادة الوضع الطبيعي في العراق، وبما يستحق العراق، وهو إنجاز جدير أن نهنئ به شعبنا المحب للسلام». وأردف، أن «‏الحوار هو الطريق السليمة لحل الأزمات. شعبنا يستحق أن يعيش السلم والأمن والازدهار، لا الصراعات والحروب والسلاح المنفلت والمغامرات».
وحول هذا الأمر، يقول أستاذ العلوم السياسية في كلية النهرين الدكتور ياسين البكري، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الحوار الاستراتيجي نقطة مهمة لتحديد مهام القوات الأميركية الموجودة بطلب من الحكومة العراقية بعد تداعيات دخول (داعش) للعراق عام 2014، ودعم القوات العراقية ومكافحة الإرهاب». وتابع «هذا الحوار يُعدّ بمثابة تأسيس لعلاقات أكثر طبيعية، وفي مجالات تتجاوز الملف الأمني باتجاه تفعيل اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين العراق وأميركا، التي بقيت من دون متابعة من الجانب العراقي».
كذلك، أوضح البكري، عن أن «تفعيل ملفات الدعم الأميركي وتحديدها خطوة مهمة بالنسبة للعراق الذي يواجه تحديات تبدأ مع الأمن ولا تنتهي به... وهو ما يؤسس لشراكات يحتاج إليها العراق مع قوة عظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية»، موضحاً أن «هذا المسار يبقى معترضاً عليه من قبل الجماعات المسلحة لأهداف جُلّها متعلق بالصراع الأميركي ـ الإيراني، ومن هنا، نجد التصريحات أقرب إلى أدوات ضغط متعلقة بالتمهيد لمفاوضات إيرانية - أميركية منها إلى تصريحات تتعلق بالسيادة العراقية». وأكد البكري من ثم «... ومن هنا نجد أن مستقبل التصريحات والسلوكيات، تصعيداً لمستوى راديكالي أو تخفيضاً، مرتبط بمستقبل الحوار الأميركي - الإيراني ومقدمات بنائه معلومة».
هذا، وفي سياق ردود الفعل، فقد رحّبت قوى سياسية عراقية عديدة بنتائج الجولة الثالثة من هذا الحوار. ففي بيانات صدرت عنها، أعلنت قيادات بينها كل من مسرور بارزاني رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان - العراق، ورئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي رئيس ائتلاف «النصر»، وعمّار الحكيم رئيس تحالف «عراقيون»، وهادي العامري زعيم تحالف «الفتح»... ترحيبهم بنتائج الحوار.
«زمن عراقي» جديد
يضاف إلى كل ما سبق، أن الجانب الإيراني لم يبدُ هذه المرة في وارد فرض الشروط على العراق على صعيد كيفية إدارة الحوار مع واشنطن. إذ إنه في عام 2015 حين جرى التوقيع على الاتفاق النووي بين إيران والمجموعة الغربية (5 زائد 1) كان الزمن مختلفاً. وصحيح أن الرئيس الحالي جو بايدن كان نائباً للرئيس، لكن الرئيس (يومذاك) باراك أوباما كان متحمساً للتوصل إلى اتفاق يوقف برنامج إيران النووي لمدة عشر سنوات... وغير معني عملياً بوقف تمددها في المنطقة. ولكن بعد مجيء دونالد ترمب إلى السلطة في واشنطن تغيّر الوضع، وأخذت الأوضاع تأخذ مساراً آخر. هذا المسار الآخر الذي تمثل بتولي بايدن الرئاسة هذه المرة لم تأخذه إيران كثيراً بنظر الاعتبار. فالقيادة الإيرانية، لا تزال تنظر إلى بايدن القديم، وبالتالي، بنت تصوراتها على صعيد المفاوضات معه بدءاً من حيث توقف الزمن عام 2016، بينما يرى مراقبون أن بايدن النائب غير بايدن الرئيس.
أيضاً، بين الزمنين الإيراني والأميركي هناك «زمن عراقي» تمثل بسقوط حكومة عادل عبد المهدي، القريبة من طهران، وتولّي حكومة جديدة هي حكومة مصطفى الكاظمي لا تبدو على المسافة نفسها من القيادة الإيرانية، على الأقل من وجهة نظر الفصائل المسلحة التي ناصبت الكاظمي العداء بينما تبدو علاقة رئيس الوزراء الحالي مع إيران الرسمية على الأقل طبيعية.
في سياق هذا «الزمن» الجديد الذي بدأ يتبلور بدءاً من سلسلة إجراءات اتخذتها حكومة الكاظمي، وصولاً إلى الحوار الاستراتيجي، يقول مستشار رئيس الوزراء العراقي الدكتور حسين علاوي في حديث لـ«الشرق الأوسط» عن هذا الحوار «إن انطلاق المرحلة الثالثة من ‫الحوار الاستراتيجي العراقي - الأميركي نجاحٌ يحسب للحكومة العراقية وحكومة الرئيس ‫بايدن». ويستطرد موضحاً، إن «الإصرار من قبل رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي على نقل العلاقات نحو أفق أوسع من الجانب الأحادي إلى الجوانب المتعددة سيكون كفيلاً بدعم التجربة الديمقراطية ومكافحة الإرهاب».‬‬
ويضيف علاوي، أن «انعقاد هذا الحوار يأتي في ضوء اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين البلدين». وبشأن طبيعة القضايا التي ستتناولها هذه الجولة من الحوار، يفيد بأن «هذه الجولة ستتناول قضايا الأمن ومكافحة الإرهاب، والاقتصاد والطاقة، والمسائل السياسية والتعاون في مجال التعليم والثقافة».
وبشأن الوجود الأميركي في العراق وما يمثله من خلافات، يرى علاوي أن «هذه القضية واحدة من القضايا الأساسية التي يتناولها هذا الحوار، ذلك أن الوجود الأميركي، وكما يعرف الجميع، هو وجود استشاري... إذ سبق سحب أعداد كبيرة من المستشارين الأميركيين ولم يتبق منهم اليوم سوى 2500 مستشار». وهنا يؤكد حسين علاوي، أن «الحكومة العراقية تعمل على تخفيض عدد المستشارين من خلال وضع جدول زمني مشترك على مدى ثلاث سنوات، مع تحديد المهمة الأساسية لعمل البعثة الاستشارية الأميركية هي لمحاربة فلول التنظيم الإرهابي (داعش) وتدريب القوات العراقية المشتركة». ويختتم بالقول، إن «من بين البنود التي يتضمنها هذا الحوار وضع خطة لتدريب القوات العراقية، وتقديم الاستشارة للقوات العراقية المشتركة ضد فلول (داعش)».



«حرب لبنان» تظهر تغييراً كبيراً في نظرة أميركا تجاه إيران

القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
TT

«حرب لبنان» تظهر تغييراً كبيراً في نظرة أميركا تجاه إيران

القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)

منذ اندلاع «حرب مساندة» غزة التي أطلقها «حزب الله» قبل نحو سنة، كانت المؤشرات كلها توحي بأن حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل رداً على «هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)»، ستنتقل عاجلاً أو آجلاً إلى لبنان، في ظل إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه يخوض «حرباً ستكون طويلة لتغيير خريطة الشرق الأوسط». ومع ذلك، كانت معظم التحليلات تتكلّم عن «مأزق» إسرائيل «المأزومة»، وعن خلافاتها في الداخل ومع الخارج، ولا سيما الولايات المتحدة، ما سمح للبعض بالترويج أن أهداف هذه الحرب لم تتحقق، وقد لا تتحقق، سواء في غزة والأراضي الفلسطينية، أو في لبنان. لكن على أرض الواقع، كان من الواضح أن ما حقّقته إسرائيل حتى الآن من حربها على غزة يتجاوز كثيراً الردّ على «هجوم أكتوبر».

بعدما نجحت إسرائيل في تعزيز «صورة» ربط حربها التهجيرية في غزة بأنها «صراع وجود» مع إيران وأذرعها الساعين إلى تدميرها، وفّرت تلك الحرب للإسرائيليين أيضاً غطاءً دولياً واسعاً، ليس لإطالة حرب الإبادة ضد الفلسطينيين فقط، بل الانتقال أيضاً إلى حرب إبادة أخرى ضد لبنان.

هذا الأمر طرح تساؤلات عن حقيقة الموقف الأميركي تجاه أهداف إسرائيل، وعمّا إذا كانت حربها لتغيير «المشهد الإقليمي» ممكنة من دون موافقة أميركية. بيد أن الوقوف على المتغيرات الدراماتيكية التي طرأت على سياسة واشنطن يظهر تغييراً كبيراً في مقاربتها ونظرتها تجاه إيران، مع التغييرات التي طرأت على المشهد الدولي منذ اندلاع الحرب الأوكرانية.

«فرصة استراتيجية» لأميركا

قبل الدخول في ما عدّه البعض «تجاهلاً» من تل أبيب للمساعي الأميركية لفرض وقف لإطلاق النار في حربها المتصاعدة ضد «حزب الله»، روّجت تحليلات العديد من الصحف الأميركية ولا تزال لـ«خلافات» بين واشنطن وتل أبيب. إلا أن دينيس روس، المبعوث الرئاسي السابق في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، رأى أن ما جرى حتى الآن «يُعد فرصة استراتيجية لأميركا، ليس لتغيير المنطقة فقط، بل تغيير الوضع في لبنان أيضاً بعد اغتيال حسن نصر الله وإضعاف (حزب الله)». وخلال ندوة في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى»، حضرتها «الشرق الأوسط»، يوم الأربعاء، وشاركت فيها دانا سترول، نائبة مساعد وزير الدفاع السابقة لشؤون الشرق الأوسط في إدارة بايدن، وديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الأدنى في إدارة ترمب، أضاف روس: «بات بمقدور أميركا اتخاذ إجراءات رادعة مباشرة، ليس ضد إيران فقط، بل المشاركة قبل ذلك في ضرب أذرعها مباشرة وملاحقتهم».

وبحسب روس، فإنه بعدما تمكّنت إسرائيل من ضرب و«تحييد» الخطر الذي يمثله «حزب الله» و«حماس»، يمكن لواشنطن الآن «ضرب وملاحقة الحوثيين، كإشارة إلى أننا قادرون على تعريض ما نعتقده نحن مصالح مهمة لها، وخصوصاً برنامجها النووي، وليس المصالح التي تعتقد إيران أنها مهمة بالنسبة لها فقط».

تغيير مسار المنطقة

من جهتها، قالت سترول، إن إرسال الأصول العسكرية الأميركية، منذ اندلاع الحرب قبل نحو سنة، وخصوصاً في الفترة الأخيرة «لا يُعبّر عن تصميم إدارة بايدن على مواجهة التهديدات الإقليمية، والدفاع عن إسرائيل، ومنع توسّع الحرب فقط، بل تغيير المسار في المنطقة أيضاً». وأضافت: «كل الأحداث التي وقعت منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) حتى الآن، بما فيها تصفية قوة (حماس) وضرب (حزب الله) وتوجيه ضربات لإيران، لم يكن بالضرورة مخطط لها. لكن اليوم، بعد كل الذي جرى، ينبغي أن نستغل ما حصل لنمضي في مسار مختلف، بما يعيد الاستقرار والسلام إلى المنطقة، وإعادة مسار العلاقات الإسرائيلية العربية إلى مسارها الذي انقطع بعد 7 أكتوبر».

من ناحيته، قال شينكر: «ثمة فهم خاطئ لتفسير ما تعنيه المطالبة بوقف إطلاق النار، سواء في غزة أو لبنان، وذلك لأن الأهداف التي وضعت لا يمكن تحقيقها من دون تغيير الديناميات السابقة». وأردف أنه بمعزل عن الإدارة الجديدة التي ستأتي بعد الانتخابات الأميركية، وسواء أكان الفائز فيها كامالا هاريس أم دونالد ترمب، لا شك أنه «سيكون من الصعب العودة إلى السياسات الأميركية السابقة تجاه إيران وأذرعها وبرنامجها النووي». وأكد أن أميركا «ستلعب دوراً رئيسياً في إعادة تشكيل وترتيب الأوضاع بعد حرب غزة، التي ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، وكذلك في لبنان».

وهكذا، أمام هذه «الرؤية» التي تعكس حقيقة الموقف الأميركي للصراع الجاري، إن إصرار البعض على اعتباره إذعاناً وارتباكاً أميركياً أمام رغبات إسرائيل، قد يكون من الضروري قراءة «التحولات» التي طرأت على موقف إدارة الرئيس جو بايدن، منذ اندلاع الحرب.

تقديرات مختلفة للحرب في لبنان

كانت هناك تقديرات مختلفة داخل إدارة بايدن عن طبيعة الأخطار التي يمكن أن تواجهها «العملية» العسكرية التي أطلقتها إسرائيل ضد «حزب الله»، وعن قدراته العسكرية الحقيقية التي جرى تضخيمها. ولكن، بدلاً من تبيّن صحة تلك التقديرات، انتهى الأمر بتبنّي العديد من المسؤولين الأميركيين النجاح الذي حقّقته إسرائيل في سعيها - بزخم مذهل - إلى إضعاف «حزب الله». وهو ما بدا أنه يتناسب مع نمط إدارة بايدن، التي لطالما تدرّجت في التعبير عن مواقفها من الأحداث السياسية الخارجية.

إذ بعدما تحثّ إسرائيل على لجم اندفاعاتها، كانت لا تلبث أن تتراجع لاحقاً. وبعدما أوضح بايدن رغبته في «الوقف الفوري» للقتال في لبنان، وتحفّظه عن التوغّل البرّي، ظهر انقسام بين المسؤولين الأميركيين حول «الحكمة» من الحملة الإسرائيلية ضد «حزب الله»، خاصة منذ مقتل زعيمه حسن نصر الله، في 27 سبتمبر (أيلول) الماضي. ففي حين ركّز البعض كثيراً على المخاطر، قال آخرون إنه إذا أمكن توجيه ضربة قوية للحزب من دون إثارة صراع إقليمي أوسع يجذب إيران فإن ذلك قد يُعدّ نجاحاً.

واليوم، يذهب كثيرون إلى القول إن وجهة النظر الأخيرة هي التي تغلبت في النهاية، وعبّرت عنها تصريحات وزير الخارجية أنتوني بلينكن، «غير المعهودة» من كبير الدبلوماسيين، حين تكلّم عن «العدالة» التي نفّذت بحق نصر الله.

الضغط العسكري يدعم الدبلوماسية

يوم الاثنين الماضي، قال ماثيو ميللر، الناطق باسم الخارجية للصحافيين: «نحن بالطبع نواصل دعم وقف إطلاق النار، ولكن في الوقت نفسه، هناك أمران آخران صحيحان أيضاً: الضغط العسكري يمكن في بعض الأحيان أن يمكّن الدبلوماسية. وطبعاً، قد يؤدي أيضاً إلى سوء التقدير... يمكن أن يؤدي إلى عواقب غير مقصودة، ونحن نتحادث مع إسرائيل حول كل هذه العوامل الآن».

وحقاً، حتى الاتفاق الذي قيل إنه حصل بين أميركا وفرنسا وإسرائيل ودول عدة توصُّلاً إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في لبنان، لمدة 3 أسابيع، بدا أن واشنطن قد تخلت عنه.

هذا ما بدا بعدما رأى مسؤولون في إدارة بايدن أن إسرائيل تحاول توجيه ضربة حاسمة لـ«حزب الله» عبر اغتيال زعيمه، بعد الضربات الساحقة التي نفّذتها على امتداد الأشهر الماضية، وتوجّت بما سُمي بهجوم «البيجر»، وبتصفية العديد من قياداته العليا والوسطى.

ورغم اتهام بنيامين نتنياهو بأنه هو الذي عاد عن الاتفاق الذي وافق عليه، فإن «الصمت» الأميركي الذي تلا اغتيال نصر الله، كاد يؤدي إلى تأجيل حتى إلغاء زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى لبنان، التي أصرّ قصر الإليزيه عليها في نهاية المطاف، تعبيراً عن «غضب» فرنسا، الذي قابلته إسرائيل بقصف هدف في العاصمة بيروت، للمرة الأولى يوم الأحد الماضي.

الحسم في تفكيك بنية «حزب الله»

بعدها، يوم الاثنين، في إشارة واضحة لحسم التردد ودعم العملية الإسرائيلية، قال «البنتاغون» إن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن اتفق مع نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت «على ضرورة تفكيك البنية التحتية الهجومية على طول الحدود الشمالية لإسرائيل، لضمان عجز (حزب الله) عن شنّ هجمات على غرار هجمات 7 أكتوبر على المجتمعات الإسرائيلية في تلك المنطقة». وأردف «البنتاغون» أن أوستن «راجع التطورات الأمنية والعمليات الإسرائيلية» مع غالانت، وأكد مجدداً «دعم الولايات المتحدة لحقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد إيران و(حزب الله) و(حماس) والحوثيين وغيرها من المنظمات الإرهابية المدعومة من إيران».

ورغم تأكيد أوستن على أهمية «التحول في نهاية المطاف من العمليات العسكرية إلى المسار الدبلوماسي لتوفير الأمن والاستقرار في أقرب وقت ممكن»، فإنه أوضح أن واشنطن في وضع جيد للدفاع عن أفرادها وشركائها وحلفائها في مواجهة تهديدات إيران والمنظمات الإرهابية المدعومة منها، وأنها عازمة على منع أي جهة فاعلة من استغلال التوترات أو توسيع الصراع. كذلك ناقش أوستن مع غالانت ما سمّاه «العواقب الوخيمة» التي ستتحمّلها إيران في حال اختارت شنّ هجوم عسكري مباشر ضد إسرائيل.

ومقابل تركيز إدارة بايدن كثيراً من مساعيها منذ ما يقرب من سنة على منع التصعيد بين إسرائيل و«حزب الله»، أعجب بعض المسؤولين بالإنجازات الإسرائيلية. ومع شلل الحزب وتراجع قدراته «الإقليمية»، بات هؤلاء يعتقدون أن الوضع بات الآن مختلفاً تماماً، مشيرين إلى أن إسرائيل في أقوى موقف لها منذ بدأ الجانبان تبادل إطلاق النار منذ 8 أكتوبر بعد فتح «جبهة الإسناد» لغزة.

ولكن، مع ذلك، قال مسؤولون كبار إنهم كانوا ينصحون إسرائيل بألّا تشنّ غزواً برّياً للبنان، ويحذرون من أن خطوة كهذه يمكن أن تأتي بنتائج عكسية، تتمثّل ببناء الدعم السياسي لـ«حزب الله» داخل لبنان وإطلاق العنان لعواقب غير متوقعة على المدنيين والتدخل الإيراني.

لا كلام عن وقف التصعيد

من جهة ثانية، مع الهجمات الصاروخية الإيرانية «المحسوبة» ضد إسرائيل، رداً على قتل إسماعيل هنية وحسن نصر الله، بدا لافتاً أن الرئيس بايدن لم يتكلّم - للمرة الأولى - عن ضرورة «وقف التصعيد» و«ضبط النفس». بل العكس، أكّد أن واشنطن «تدعم بالكامل» إسرائيل بعد الهجوم الذي جرى صدّه بدعم أميركي و«أثبت انعدام فاعليته»، وأن المناقشات مستمرة مع إسرائيل بشأن الردّ، مضيفاً أن «العواقب على إيران لم تُحدد بعد».

موقف بايدن لم يكن وحيداً، إذ اندفع المشرّعون الأميركيون من الحزبين مؤيدين مواقف أكثر حزماً من إيران، وداعين إلى تبني سلسلة من التدابير المحددة والمصمّمة لشلّ القوى العسكرية لطهران ووكلائها، وإلى تمرير تمويل إضافي لإسرائيل في أعقاب هجوم إيران.

وبالفعل، يرى كثرة من المسؤولين الأميركيين اليوم، أن إدارة بايدن تحوّلت من محاولة منع اتساع حرب غزة إلى إدارة «الحرب الشاملة»، في ظل رؤية غدت موحّدة مع إسرائيل تجاه الأهداف المأمول تنفيذها. وتساءلت صحيفة «النيويورك تايمز» عن المدى الذي يمكن أن تبلغه الحرب، وما إذا كانت الولايات المتحدة ستنخرط فيها بشكل مباشر، في ظل مخاوف من احتمال أن ترد إسرائيل على صواريخ إيران باستهداف منشآتها النووية، ما قد يؤدي إلى خروج الحرب عن السيطرة.

لكن بايدن عاد وأوضح، يوم الأربعاء، أنه لا يدعم أي استهداف إسرائيلي للبرنامج النووي الإيراني، فاتحاً المجال أمام تكهنات عن بدء مفاوضات للتوصل إلى تسوية بين الطرفين. وهذا، بالتوازي مع تقديم مزيد من المساعدات لإسرائيل لإنهاء الحرب ضد «حماس» في غزة، والتصدّي للهجمات التي تنفذها جماعة الحوثي في اليمن ضد إسرائيل والملاحة في البحر الأحمر والمضائق الدولية القريبة، ودعم غزوها البرّي للبنان «لتفكيك البنية التحتية» لـ«حزب الله».

تساؤلات مع تغيير أميركا نبرتها واستراتيجيتها

> وسط تحذيرات من أن يكون لبنان هو ساحة «الحرب الشاملة» بين إسرائيل وإيران، أشار مسؤول أميركي كبير إلى المشاورات الواسعة النطاق مع إسرائيل، بما في ذلك مع مكتب بنيامين نتنياهو لصوغ الاستجابة المناسبة، من دون أن يشير إلى «الخلافات» القديمة بين الرئيس جو بايدن ونتنياهو على طريقة تعامل إسرائيل مع حرب غزة، وانتقال المعركة إلى لبنان. وأضاف المسؤول: «لكن بعد دخول إيران المعركة بشكل مباشر، التي تشكل (تهديداً مدمراً) لإسرائيل، تغيّرت نبرة أميركا واستراتيجيتها». أما «النيويورك تايمز» فنقلت عن جوناثان بانيكوف، مدير «مبادرة سكوكروفت للأمن في الشرق الأوسط بالمجلس الأطلسي»، قوله إن «الحرب الشاملة حتى الحرب الأكثر محدودية، يمكن أن تكون مدمّرة للبنان وإسرائيل والمنطقة. ولكن من خلالها ستأتي فرص غير متوقعة أيضاً لتقويض النفوذ الإيراني الخبيث في المنطقة، من خلال عرقلة جهودها لإعادة تشكيل (حزب الله)، مثلاً. وبالتالي، ينبغي للإدارة الجديدة أن تكون جاهزة للاستفادة من هذه الفرص». لكن مع المفاجأة التي تعرّضت لها إسرائيل أخيراً خلال «توغّلاتها» البرّية، وسقوط العديد من جنودها بين قتيل وجريح من قبل مقاتلي (حزب الله)، طرح العديد من التساؤلات... منها عمّا إذا كانت ستعيد النظر بخططها العسكرية وبحساباتها فيما يتعلق بكيفية إقامتها «المنطقة العازلة» في جنوب لبنان، تطبيقاً للقرار 1701؟ وأيضاً، هل ستكثّف قصفها الوحشي والتدميري، بما يؤدي بتلك التوغّلات إلى احتلال جديد، أو تحويل المنطقة إلى «أرض محروقة»؟ وهل سيكون متاحاً مرة أخرى أمام الحزب واللبنانيين عموماً، إعادة تنظيم «مقاومة» ما، على قاعدة توافق سياسي ينهي سلطة «حزب الله» لمصلحة الدولة... أم أن المقوّمات مستعصية في ظل الانهيار السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه لبنان؟