الدين في المجال العام.. تصورات حول العلمانية ودعوة للمراجعة

الدين في المجال العام.. تصورات حول العلمانية ودعوة للمراجعة
TT

الدين في المجال العام.. تصورات حول العلمانية ودعوة للمراجعة

الدين في المجال العام.. تصورات حول العلمانية ودعوة للمراجعة

تثير المقاربة الرائجة في الفكر السياسي العربي والإسلامي المعاصر للعلمانية، من حيث التبني، والرفض، أو من حيث الدراسة التفسيرية، أو النقدية النادرة الوقوع أكاديميا، تساؤلات بحثية عدة.
فمن جهة أولى: يظهر أن تطور خبرة الفلسفة السياسية العربية في تقييم نفسها، بعيدا عن الأهواء الآيديولوجية، ما زال ضعيفا جدا.
ومن جهة ثانية: نلاحظ أن الفكر السياسي العربي المعاصر حاول، منذ منتصف القرن العشرين، إيجاد أصالة تعويضية لتبرير استبعاده الخبرة التاريخية الإسلامية. في الوقت الذي بقيت فيه هذه الخبرة مصدرا للمعرفة الجامعة للمجتمع، وتعبيرا عن المدركات والتقاليد المعرفية، كما صاغتها جهود المدارس المختلفة ضمن النسق العام المشترك للأمة العربية الإسلامية.
ومن جهة ثالثة: نجد أن البحث عن نظام سياسي يعبر عن تميز نموذجي وخصوصية عربية إسلامية، مستقل تمام الاستقلال عن «القيم الإنسانية الحضارية العليا»، هو أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، والوعي الاجتماعي.
في هذا الإطار نطرح موضوع العلمانية، وارتباط الدين بالمجال العام. وعلينا أن نقر أن الحديث عن السلطة السياسية الحديثة، من منظور علم الاجتماع السياسي، يفيد بما لا يدع مجالا للشك أن استبعاد القيم الدينية وطردها من المجال التداولي للسلطة السياسية أنتج المأزق الحالي للعلمانية في«الغرب»؛ المندرج بدوره ضمن مأزق الحداثة، وتنامي فلسفة البعديات. دون أن يعني ذلك انحصار الفكر السياسي العلماني الغربي، نظرا لتعدديته، وقدرته الذاتية المهمة على انتقاد أطروحاته المعرفية، وتجديدها، وتجاوزها حتى.
فإذا كانت ما بعد الحداثة تتحدث عن غياب المركز، والمرجعية، فإن ما بعد العلمانية تتحدث عن أزمة وفشل إنساني قيمي للعلمانية؛ لذلك يطرح بروفسور السياسة بجامعة وستمنستر، جون كين، ضرورة تجاوز العلمانية التقليدية، وتناقضاتها الداخلية، المفضية لقبول الاستبداد السياسي. كما تحدث كبير فلاسفة الغرب الحاليين، يورغن هابرماس، عن حضور الدين في المجال العام، ودعا لإيجاد صيغة تصالحية بين الديني والدنيوي معرفيا وعمليا، معتبرا أنه «لا بد أن يكون كل المواطنين أحرارا في تقرير إن كانوا يرغبون في استخدام لغة دينية في المجال العام أو لا. فإن رغبوا في ذلك فإن عليهم قبول أن محتويات الحقيقة المحتملة في الملفوظات الدينية لا بد أن تترجم إلى لغة مقبولة على نطاق واسع قبل أن تتمكن من شق طريقها إلى أجندات البرلمانات، أو المحاكم، أو الهيئات الإدارية وتؤثر في قراراتها» (قوة الدين في المجال العام؛ 2011 ص 59).
ورغم أن فرنسا هي وليدة مدرسة متطرفة من العلمانية، فإنها لم تعد خارجة عن دائرة المراجعات المعرفية للعلمنة وعلاقتها؛ فقد بدأ النقاش حول العلمانية يشهد تطورات سريعة خاصة مع ما طرحه فيلسوف العلمانية الفرنسية جون بيبيرو من أفكار مثيرة في هذا الصدد تتعلق بضرورة مراعاة العلمانية لما هو سوسيولوجي، خاصة أن المجتمعات الغربية تعددية بالأساس. وهذا يقترب من طرح المؤرخ مارسيل غوشيه، الفيلسوف الفرنسي الذي يشغل حاليا مدير الدراسات بمعهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية؛ حيث أكد أن حضور الدين في المجال العام حقيقة تاريخية لا يمكن القفز عليها، بل إن هذا الحضور يعود حاليا للحياة المعاصرة بصيغ متعددة. ومع تلاشي نظرة العلمانية التقليدية الميتافيزيقية ودورها، يأتي دور المجتمع المدني لتجاوز صرامة النظرية التقليدية للدولة الحديثة المعلمنة.
من جهته، أعاد أستاذ العلوم السياسية الفرنسي باربيه بأطروحة المعالجة لهذا الإشكال خلخلة جزء من المسلمات حول العلمانية من الناحية التاريخية والسوسيولوجية؛ فقد أعاد تصنيف الدول الأوروبية الحالية لثلاث دوائر؛ الأولى: سماها الدول غير العلمانية، وهي إنجلترا، الدنمارك واليونان. والدائرة الثانية: دول نصف علمانية، وهي ألمانيا، بلجيكا، هولندا، لكسمبورغ، وآيرلندا. فيما أطلق على الدائرة الثالثة دولا شبه علمانية، وهي البرتغال، إسبانيا، وإيطاليا.
ويمكننا كذلك أن نشير لانتقادات ريمون بودن، عضو أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية الأوروبية، لطروحات دوركهايم الخاصة بالدين؛ حيث أكد أن الدين يرتبط أساسا ووجوديا بالقيم وليس بالكنيسة، كما كان دوركهايم يعتقد. وهذا ما يجعل من وجوده حقيقة سوسيولوجية، ويجعل من الحل العلماني عاجزا عن فك الارتباط القائم بين الدولة والدين، إلا بسيطرة السلطة الزمنية على الدين، ووضعه تحت هيمنة تصورها الوضعي.
وبما أن الفكر الفلسفي الغربي يسير على سكة النقد و«المراجعات الذاتية» (لا أريد هنا استحضار مفكري ما بعد الحداثة المتطرفين)؛ فإن معالجة إشكالية الدولة الحديثة، في العالم العربي، تستوجب البحث عن حداثة بديلة، والتأسيس للعملية التحديثية بالتخلي عن الأسس الفلسفية الكلاسيكية للحداثة، أو ما يسمى بعصر التنوير المستبطن للعداوة تجاه كل ما هو ديني. وبالتالي فإن الأخذ بمناهج جديدة في الفكر المعاصر، وإحياء الجانب الفقهي والفلسفي الإيجابي من التراث الإسلامي، سيساعد على تجديد بنية الثقافة، والفكر السياسي العربي، فيما يخص علاقة الدين بالدولة والسياسة.
ومن شأن الاستعاضة عن مبادئ الحداثة المدعية للعقلانية والإطلاقية... بنظرية «القيم الإنسانية الحضارية العليا»، تحويل أنظار المسلمين باختلاف شعوبهم، والعرب خاصة، إلى إمكانية تحقيق التغيير الضروري دون التضحية بالجوهر الديني، والأخلاقي المشكل للقاع الثقافي، والمنغرس في الذهنيات السائدة في الاجتماع العربي تاريخيا.
فالحديث عن مشروعية العلمانية في الواقع العربي، يجب أن ينطلق من نظرية القيم المجتمعية الحاضنة، ومن سعة المرجعية الإسلامية، وتعدد مدارسها الفكرية الاجتهادية. بغير هذا المسلك، فمن الراجح أن يتحول الطرح العلماني العربي إلى مجرد نقاش طبقي وتأزيمي؛ لن يحقق إلا النظر إلى التجربة الغربية كنموذج للخلاص والتقدم، وتقديسها كنمط واحدي لبلوغ الحداثة السياسية وتحقيق التنمية، خارج دائرة القيم العربية الإسلامية. ولعل أخطر ما أدى إليه هذا المسلك، هو تعاظم أزمة الثقة بين النخبة المتغربة وسائر المواطنين، مع تمكين موجات الاستبداد من الهيمنة على المجتمع، مما يساهم بدوره في استنبات موجات جديدة من التطرف والعنف الديني الدموي. وليس من الواضح عربيا أننا في الطريق للخروج من هذا المأزق الذي يمس السياسة كتصورات معيارية، وكممارسة سلوكية ذات أبعاد سوسيو - قيمية.
فمقولة حدود السياسي والديني وتقلبات هذا الأخير اجتماعيا، يطرح على العلمانية سؤالا يستمد مشروعيته من قيم القانون الطبيعي نفسه. فالمنطق السياسي العلماني وعد بتحقيق السعادة، انطلاقا من حبس الديني «في غرفته» الشخصية؛ لكن السياقات الاجتماعية وما نشهده من حراك مستمر بالغرب، تجعل من النظام السياسي العلماني نظاما مستمر التنظيم، ويساهم فيه فاعلون اجتماعيون وسياسيون، بعض أطراف هذا التشكيل المجتمعي (الأحزاب المسيحية والكنيسة، والمثقفين الإيمانيين..) لا يفصل الدين عن الدولة بالمفهوم الكلاسيكي المعروف على الأقل.
وبالتالي، فإن القول بالعلمانية يستوجب التمييز بين مجالين اثنين:
المجال الأول: نظري واتخذ طابعا فلسفيا واحديا حاول التأكيد عبر أدبياته على إمكانية فصل الدولة عن الدين (وهو شيء لم يتحقق في أي دولة، بما فيه الدول الشيوعية).
المجال الثاني: تطبيقي سياسي، وفيه تم تعديل الطابع الفلسفي المعياري؛ فالدولة العلمانية الفرنسية غير النموذج البلجيكي واليوناني، غير الإنجليزي، وهذا الأخير يختلف عن الأميركي والهندي.
ولا بد كذلك من الإشارة إلى أن نشر التصورات العلمانية منذ عصر الأنوار ترافق مع عملية تمويه معرفية كبيرة، (تناقش حاليا في الفكر الفلسفي الغربي)، تخفي جانب التسلط والإكراه باسم القانون، مورست ضد المجتمع والدين ومؤسساتهما، وكذا تجاه المعتقدات المستقلة عن الدولة. وهذا بدوره شكل تحديا آخر لما تحققه الديمقراطية نفسها من تداول للسلطة؛ حيث يتم النظر للديمقراطية حاليا في النظرية السياسية الغربية المعاصرة، باعتبارها نظرية لا تعبر بتاتا عن حل مطلق. فمهما بلغ تطور الحكم الديمقراطي، فإنه يبقى نظاما سياسيا، ينظم واقعا سوسيولوجيا لا يمكن تحقيق الانسجام التام داخله، باسم المواطنة أو بغيرها.
وفي الوقت الذي أخذ فيه المفهوم العلماني للعلمانية يتطور، ظلت الكتابات العربية تطرحه من زاوية تقليدية متمحورة حول المفهوم نفسه، ومدى انتسابه إلى العلم والعالم، وانطباقه مع الدنيوية... فكانت بذلك عقدة المفهوم مؤشرا على غموض التصور العلماني العربي المعاصر، وعجزه عن تحدي الواقع السوسيوتاريخي، الذي يتقبل التمييز بين الديني والسياسي، والمتصدي لمقولة الفصل بين الدولة والدين، أو بين الدين والحياة العامة للأمة المجتمعية.
وإذا كان الغرب اليوم يتحدث عن ما بعد الديمقراطية (انظر كتابات هبرماس على سبيل المثال) ونزع القداسة عن ماهية العلمانية. فإن ما يلاحظ أن هناك جمودا كبيرا على مستوى فكر العلمانية العربية، سواء «العلمانية السياسية المعتدلة»، أو «العلمانية العقائدية»؛ حيث تكتفيان بتعريفات وطروحات آيديولوجية عامة للسلطة، منقولة في الغالب، تحقق الراحة النفسية، وتعكس رؤية غير دقيقة للموضوع، فغالبا ما نجدها تمثل كل متوهم غير واقع.
وتبعا لذلك يحتاج مصطلح العلمانية وأطروحاته للسلطة، إلى تعريف جديد ومراجعة، على ضوء منظومة القيم المجتمعية العربية الإسلامية، مع تفصيل لغاياته بشكل يحدد المرجعية العليا، والمفاهيم وتطوراتها التاريخية. فواقع الدولة الحديثة يفند القول بأن إشكالية علاقة الدين بالمجال العام متجاوزة في العالم الغربي المعاصر، والدولة الحديثة.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس



«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».