مصري يُنعش ذكريات الأسر «الأرستقراطية» بإصلاح البيانو

حسن غالي من بين القلائل الذين يمارسون المهنة منذ عقود

العم حسن غالي تعلم أصول الحرفة من رجل أرمني
العم حسن غالي تعلم أصول الحرفة من رجل أرمني
TT

مصري يُنعش ذكريات الأسر «الأرستقراطية» بإصلاح البيانو

العم حسن غالي تعلم أصول الحرفة من رجل أرمني
العم حسن غالي تعلم أصول الحرفة من رجل أرمني

يمثل البيانو بالنسبة لبعض الأسر المصرية «الأرستقراطية» نوستالجيا القلب والفن؛ فمن خلاله تنسل الموسيقى داخلهم، باعثة ذكريات وحكايات رسمها الزمن على جدران النفس، حيث كانوا يفردون لهذه الآلة الساحرة مجالاً رحباً في الصالون الأنيق ليلتفوا وضيوفهم حوله، بعد أن يضفي على المكان حميمية ووقعاً خاصاً، وللآن تتوارثه هذه الأسر جيلاً وراء جيل، وتحرص على المحافظة عليه وترميمه وتجديده، لكن يًعد العثور في الوقت الراهن على «طبيب» لبيانو العائلة مهمة صعبة للغاية؛ إذ يكاد يطوي النسيان هذه المهنة.
ويُعد إصلاح البيانو وشد أوتاره وضبط نغماته من أصعب الحرف، وفي مصر لم يكن يعمل بهذا المجال سوى الأجانب من الإيطاليين والفرنسيين والأرمن واليونانيين لخبرتهم الطويلة به في بلادهم، ونقلوا أسرار هذه المهنة إلى عدد من المصريين منذ عقود طويلة، لكن لم يتبق منهم سوى عدد محدود جداً، منهم العم حسن غالي الذي سبق له تصليح بيانو الملكة فريدة وبيانو مركب الملك فاروق المعروف باسم «المحروسة»، على حد تعبيره.
يتجاوز مشوار غالي في هذه المهنة 6 عقود، حيث بدأ الرجل البالغ من العمر 75 عاماً عمله منذ كان طفلاً في المرحلة الابتدائية، ويقول لـ«الشرق الأوسط»، «تعلمت على يد الخواجة الأرمني (مختجيان) في المحل الذي كان يملكه بمحطة الرمل بالإسكندرية، وكنت طفلاً صغيراً لا يتجاوز العاشرة من عمره؛ لذلك تشربت الحرفة على أصولها بكل تفاصيلها وأسرارها».
ويقودنا مشواره إلى حياة العائلات العريقة في مصر، لا سيما في الإسكندرية (عروس البحر المتوسط)، حيث كان يعيش بها أبناء الجاليات الأجنبية والطبقتان المتوسطة والأرستقراطية، فكان البيانو جزءاً أصيلاً من أساسيات بيوتهم، وكانت الأمهات يعتبرنه قطعة رئيسية في «جهاز العروس»، على حد تعبيره. ويقول «قبل أن تطأ أقدام الزائر عتبات البيت تترامى إلى أسماعه نغمات البيانو قادمة من حجرة الصالون أو الاستقبال، ومع دخول الحجرة يرى البيانو يحتل أحد الأركان، وتعلوه في الغالب مجموعة من الصور لأفراد العائلة، وبجوارها بعض الكتب الأجنبية والنوتات الموسيقية والعلب الصغيرة الفضية والذهبية والأنتيكات».
ويتابع «زمان كانت مهنتنا
منتعشة... كنت أتنقل مع الخواجة مختجيان من بيت فخم إلى آخر، وعندما رحل عن مصر وأصبحت أعمل بمفردي. قمت بإصلاح البيانو لأسماء عريقة مثل الملكة فريدة، التي كانت تعشقه وكان عتيقاً يعود إلى عام 1811، أيضاً من العائلات التي أتذكرها عائلة عبود باشا، وباسيلي أحد ترزية الملك فاروق الذي أدخلني غرفة كان لا يزال يحتفظ فيها ببعض قطع ملابس الملك، من فرط فرحته بعملي، كما قمت بإصلاح بيانو المركب الشهير (المحروسة)، وحديثاً قمت بإصلاح البيانو لفنانين ووزراء وكبار رجال الأعمال، وبعضهم أصدقاء لي ولأبنائي».
يؤكد غالي، أن «السيدات والفتيات على وجه الخصوص (روحهن في البيانو)، إلى حد أنني كثيراً ما كنت أرى الدموع في عيونهن حين يتعطل، وأفرح حين تتقافز السعادة في عيونهن حين يسمعن مقطوعة أقوم بعزفها بعد إصلاحه، حيث علمني الخواجة العزف».
ويتابع «أمور كثيرة اختلفت الآن حتى في نوع البيانو، فقد أصبح البيانو الكهربائي الأكثر انتشاراً الآن، ويكاد الكلاسيكي ينحصر في الأنتيك الذي تتوارثه العائلات الأرستقراطية أو تشتريه عائلة من مزاد، وأستطيع بسهولة أن أميز بينهما؛ إذ تكون الأسرة التي توارثته أكثر حرصاً على المحافظة عليه، ويجيد أفرادها العزف، بينما قد أجد نفسي أبكي حزناً أمام بيانو تمتلكه أسرة حديثاً بسبب إهمالها له، وأتذكر أنني ذات يوم قلت لأسرة إما أن تحافظوا عليه أو أن تبيعوه، فهو بالنسبة لي ابني».
ومن أكثر اللحظات الإنسانية التي لا ينساها هي تلك التي يعثر فيها على اسمه داخل البيانو، فيعرف أنه سبق له أن أصلح هذا البيانو من قبل «علمني الخواجة حفر اسمي وتاريخ التصليح من الداخل؛ لأنني بذلك أحفره داخلي؛ ما يحفزني على إتقان عملي، وكثيراً ما أكتشف أن السيدة التي تقف أمامي هي نفسها الطفلة الصغيرة التي كانت تلهو وتراقبني أثناء تصليحي له منذ سنوات طويلة، وأذكّرها بنفسي وأجعلها تشاهد اسمي فتفرح».
لا يزال العم حسن يمارس عمله رغم تقدمه في العمر، فحين تزوره تجد أمامه ماكينة البيانو يعمل فيها بالطريقة التقليدية القديمة، حيث يقوم بفك أجزائها كافة قطعة قطعة، بما في ذلك «الشواكيش» والأطراب والأصابع وترقيمها من الشمال إلى اليمين، حتى تأخذ مكانها الصحيح عند إعادتها، ومن ثم تراه يحملها ليمررها على نار سبرتاية هادئة؛ حتى يخلصها من الرطوبة، ويمسحها بمواد مستوردة لمنع العتة إلى جانب نوع معين من النفتالين، وعندما ينتهي من الإصلاحات كافة يعيد تجميعها، ويسلمه لأبنائه ليقوموا بعمل تشطيب فاخر بالطريقة الكلاسيكية التي تعيد للآلة رونقها من دون فقد شكلها، وتعتمد على القطن والسبرتو ومادة الجملكة، ويتحسر وهو يتحدث عن دخلاء الحرفة «أصبحوا يتسببون في أعطال إضافية بدلا من إصلاحه».
ويقول محمود غالي الذي تشرب الحرفة من والده أن أفضل طريقة للمحافظة على البيانو هو صيانته السنوية، لعلاجه من العتة التي تؤثر على صوته، ولا يقل خطورة عن ذلك السوس؛ ولذلك نقوم بالكشف على البيانو قبل أن ينزل من أي بيت لكيلا يعدي الأجهزة الأخرى في ورشتي، ومن الضروري رش الحشرات الطائرة المسببة للتسوس بالمبيدات، وعدم وضعه بالقرب من التكييف؛ لأن درجة الحرارة المنخفضة أو تساقط الماء يصيبه بالرطوبة.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».