يكشف هذا الكتاب «مذكرات زوجة دستويفسكي» عن الوجه الآخر لأديب روسيا الأشهر أحد أهم الكتاب الأكثر تأثيراً في الأدب الإنساني.
الكتاب صدر حديثاً عن «المركز القومي للترجمة» بمصر، وهو طبعة ثانية، ويقع في 634 صفحة من القطع الكبير، وقد ترجمه عن الروسية أنور محمد إبراهيم الذي لفت في مقدمته إلى أن «آنا جريجورفنا» لم تكن مجرد زوجة ثانية لدستويفسكي، بل كانت عاشقة عطوف، منحت دستويفسكي السعادة، وساعدته على تجاوز أعباء مرضه.
- الشرارة الأولى
ولدت جريجورفنا في 30 أغسطس (آب) عام 1846 لأسرة بسيطة من بطرسبورغ. وكان أبوها ودوداً ذا طبيعة محبة للحياة، وكان في شبابه مولعاً بالمسرح والأدب، إلى جانب أنه كان من أشد المعجبين بأعمال دستويفسكي. وقد سمعت «آنا» هذا الاسم للمرة الأولى في حياتها وهي في السادسة عشر من عمرها، حين أدت امتحاناً في قصة «نيتوتشكا نيزفانوفا» لدستويفسكي. ومن فرط تأثرها بالقصة، أصبحت الأسرة تطلق عليها آنذاك اسم «نيتوتشكا». كما بكت كثيراً وهي تقرأ «مذكرات من بيت الموتى» التي تتناول معاناة شخص معتقل في سهول سيبيريا، حيث درجة الحرارة تحت الصفر. هكذا، أصبح دستويفسكي كاتبها المفضل منذ الطفولة.
وكانت آنا تجيد الكتابة على الآلة الكاتبة. وبعد وفاة والدها وتغير أحوال الأسرة، ساعدتها هذه المهنة في التحرر من التبعية المادية لأمها. وصادف أن أوصى أحدهم دستويفسكي بأن تعمل لديه. وفي الرابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1866، تم التعارف بينهما.
طلب دستويفسكي يدها للزواج، فوافقت على الفور، فقد كانت مستعدة لذلك منذ فترة، ولم تأبه بنصائح أقاربها واعتراضهم على زواج غير متكافئ، فقد كان بضعف عمرها، وهو أرمل مثقل بديون ثقيلة.
تحكى صاحبة المذكرات واقعة طريفة في هذا السياق، فقد طلب منها أن تسمح له بزيارة عائلتها بعدما أنهى كتابة روايته «المقامر»، وكانت علاقة العمل معه على وشك الانقطاع، لولا أن دعاها لتكتب معه الجزء الأخير من رواية «الجريمة والعقاب»، فوافقت «آنا» لأنه كما وصفته كان «جذاباً للغاية». وخلال العمل، دعاها ذات ليلة لتشاركه حبكة رواية جديدة تخيلية يود كتابتها، وأقنعها بأنه يحتاج إلى نصحها في فهم نفسية الأنثى.
وفي تلك الرواية المتخيلة، كان البطل رساماً كبيراً في السن يتقدم لخطبة فتاة صغيرة كان اسمها آنيا. وهنا، سألها دستويفسكي عما إذا كان من الممكن لفتاة صغيرة في السن مختلفة في الشخصية أن تقع في حب رسام، فأجابت «آنا» إن ذلك ممكن جداً، فقال لها مباشرة: «ضعي نفسكِ في مكانها للحظة. تخيلي أنني أنا الرسام، أنا أعترف وأطلب منك أن تكوني زوجتي، ماذا سيكون جوابك؟»، فأجابت آنا: «سأجيب بأني أحبك، وسأحبك للأبد!».
- الوجه الآخر
هكذا، نجحت اللعبة، وأصبحت عاملة الآلة الكاتبة زوجة لواحد من أعظم الروائيين في العالم! وطوال 14 عاماً، أبدى دائماً حباً جارفاً لها، وغيرة عليها، حتى أن عائلتها تعايشت مع التجربة على الرغم من فارق العمر بين الزوجين. وبفضل هذا الاستقرار العائلي، تراجعت نوبات الصرع التي كان يعاني منها، كما قل إدمانه الشديد للقمار.
وتحكي المؤلفة كيف كان دستويفسكي في أغلب الأحيان حزيناً، غير راضٍ عن رواياته، لأنه كان يكتب أجزاء كبيرة منها تحت وطأة الديون الثقيلة، وهموم تسديدها. تقول: «كان حين ينتهي من كتابة جزء من رواية ما، يرسله على الفور إلى دار النشر كي تبعث له بدورها مبلغاً من المال يسدد به بعض ديونه، ثم حين يشرع في كتابة الأجزاء الأخرى من الرواية يكتشف خطأ ما في تسلسل الأحداث، فتصيبه الكآبة لأنه لن يستطيع التعديل على الجزء الأول الذي قد صار مطبوعاً منشوراً في المجلات والصحف. لو قُدر للعظيم دستويفسكي أن تكون ظروفه المادية أفضل، لكانت أعماله أكثر جمالاً وروعة مما هي عليه!».
وتستمر المذكرات في رسم ملامح الوجه الآخر للأديب الأشهر، فتروي كيف ذات مرة خسر جميع أمواله في لعب «الروليت»، لذلك قررت أن تتولى إدارة جميع المسائل المالية، وإدارة أموره مع الناشرين، ونجحت بعدها في تحرير زوجها من ديونه، واستطاع في عام 1871 أن يتخلص فيودور دستويفسكي من إدمانه للقمار.
ولم تكن الأشهر الأولى من ذلك الزواج المتواضع الهادئ بالسلاسة المتوقعة، حيث صعوبة التأقلم مع شخص مصاب بالصرع. تقول جريجورفنا: «كان حبي عقلياً خالصاً مثالياً؛ كان على الأصح عبادة، انحناء أمام إنسان موهوب إلى أبعد حد، إنسان يمتلك الخصال النفسية الرفيعة، فكانت روحي تتملكها الشفقة نحو هذا الرجل الذي عانى كثيراً، ولم يعرف السعادة ولا السرور قط. لقد أحببته حقاً بحرارة، على أن كبريائي لم يكن يسمح لي أن أبقى معه لو تأكد لي أنه لم يعد يحبني».
- في مرآة معاصريه
وتفرد المذكرات مساحة كبيرة للحديث عن علاقة دستويفسكي بمعاصريه من الكتاب والصحافيين والعلماء والشخصيات العامة، تلك العلاقة التي شابها التعقيد تارة، والالتباس والتناقض تارة أخرى، مثل نكراسوف وتورجنييف وأوجاريف ومايكوف وستراخوف، فقد كان ينتقد نكراسوف على سبيل المثال، ولا يبدو شديد الحماس له على المستوى الإنساني، لكن حين مرض الأخير فزع بشدة، وكان يداوم على زيارته، وإذا وجده نائماً يطلب من عائلته ألا توقظه، وأن تكتفي بإبلاغه تحياته.
وفي واحد من خطاباته المبكرة 1867، كتب دستويفسكي إلى زوجته يقول: «عادة ما تشاهدينني عبوساً كئيباً نزقاً، ليس هذا سوى أمر ظاهري، ولعلي دائماً ما كنت أبدو على هذا النحو خائر العزم سيئ الحظ، أما باطني فشيء آخر، صدقيني!». إن هذا الشيء «الباطني الحقيقي» هو ما كانت آنا جريجورفنا تقدره وتحبه على نحو خاص في دستويفسكي، وهو ما أحست به منذ لقائهما الأول.
وترسم المذكرات صورة دستويفسكي في نهاية الستينات، في أسوأ أيام هزائمه وفقره وبؤسه، وإن لم يفقد أناقته أو شعوره بكرامته الشخصية. وكما تقول جريجورفنا «هذا هو الرجل صاحب الذوق الرفيع في تقدير الأشياء الجميلة يملأه الشعور بالمتعة إذا ما أتيحت له أدنى فرصة لإسعاد المقربين منه، على الرغم من أنه شخص اختصه القدر بحياة مفعمة بالتقلبات المأساوية، إنسان تأرجح أكثر من مرة على الهاوية، ومع ذلك راح يحتفي بالحياة على نحو أشد قوة، وها هو بصفته رب الأسرة المسؤول عن كثير من أقاربه يمرح في سعادة بكل خلجات قلبه مثل طفل حول شجرة عيد الميلاد يرقص الفالس بنكران للذات».
وتلقي المذكرات الضوء على علاقة دستويفسكي بالأطفال، حيث يكتب إلى أصدقائه متحدثاً عنهم، ويصفهم بأنهم «يضفون على الوجود طابعاً إنسانياً بكل ما في هذه الكلمة من معانٍ؛ هؤلاء تصبح الحياة دونهم بلا غاية».
- اعترافات عاشقة
وتضع جريجورفنا في مذكراتها ما يشبه الاعترافات، قائلة: «لا أتعهد أن تكون مذكراتي شيقة، ولكني أضمن صحتها وحيادها الكاملين، من حيث وصف مواقف بعض الشخصيات، فهذه المذكرات بنيت أساساً على مدونات مؤيدة بخطابات ومقالات من الصحف والمجالات. وأعترف صراحة أن مذكراتي تحتوي على أخطاء أدبية، كالإطالة في السرد والتباين في حجم الفصول والأسلوب القديم، ولكن يصعب على المرء وقد بلغ السبعين من العمر أن يتعلم أشياء جديدة، وإنما يغفر لي هذه الزلات إخلاصي ورغبتي القلبية في أن أقدم للقارئ فيودور دستويفسكي بكل ما له وما عليه، وأن أضع الصورة التي كان عليها في حياته الشخصية والعائلية».
وتضيف: «كنت أنا وزوجي نعد أنفسنا أناساً لهم مزاج مختلف تماماً، ولهم طابع آخر ورؤى أخرى، لكننا بقينا على سجيتنا دائماً، ولم يتدخل أحدنا في شؤون الآخر؛ كنا نشعر بحرية أرواحنا. كان فيودور يفكر كثيراً وحده في الأسئلة العميقة للنفس البشرية، وكان يقدر لي عدم تدخلي في حياته النفسية والعقلية، ولهذا كان كثيراً ما يقول لي: أنت المرأة الوحيدة التي فهمتني! وهذا ما كان يمثل أكثر الأشياء أهمية له، حيث كانت علاقته بي تمثل جداراً متيناً باستطاعته أن يستند إليه ويشعر بالدفء. وهذا ما يفسر، من وجهة نظري، هذه الثقة المدهشة التي كان زوجي الطيب يوليها لي ولكل تصرفاتي، على الرغم من أن كل ما فعلته لم يكن يتجاوز إطلاقاً حدود المألوف. إن هذه العلاقة من طرفيها أعطتنا إمكانية أن نواصل حياتنا الزوجية على مدى أربعة عشر عاماً في سعادة أرضية متاحة لمن أراد من الناس».
ويبدو بالفعل أنها كانت أهلاً لهذه الثقة في حياته ومماته أيضاً. فبعد وفاته، كانت «آنا» في الـ35 من عمرها، وقد كرست كل جهودها لحماية إرثه الأدبي وصيانته، حيث قامت بجمع مخطوطاته ورسائله ووثائقه وصوره، وأسست عام 1906 غرفة مخصصة لفيودور دستويفسكي في متحف الدولة التاريخي.