الامتلاء الوجداني بالموسيقى... وعزلة العازف

يعتبر كثير من النقاد، أن مسرحية «الكونترباص» للكاتب لألماني باتريك زوسكيند صاحب رواية «العطر»، واحدة من أهم أعمال «المونودراما» التي عرفها المسرح الألماني. وكتبت هذه المسرحية عام 1980. وصدرت أخيراً ترجمة لها عن دار «المدى» للنشر، أنجزها المترجم المصري المقيم في ألمانيا سمير جريس، الذي استهلها بمقدمة عنونها «صاحب الكونترباص الذي يشبهنا جميعاً»، مستعرضاً فيها تاريخ المسرحية التي بدأت كمسلسل إذاعي، إلى أن وجدت طريقها لأحد مسارح ميونيخ. ولم يعد هناك مسرح في ألمانيا إلا ويقدم هذه المونودراما في أحد مواسمه، مما جعلها من أكثر النصوص المسرحية التي مُثلت في ألمانيا على الإطلاق.
بطل المسرحية ممزق بين ضديّن، الأول عشقه وذوبانه في آلة «الكونترباص»، والثاني شعوره الدائم بالتهميش والتلاشي أمام الآلة، التي من دونها «لا تستطيع أي أوركسترا أن تعزف شيئاً» على حد قوله، وهي أيضاً الآلة التي تذهب بصاحبها أدراج النسيان، جليس الصفوف الخلفية، لا يكاد يشعر به ولا بعزفه أحد، يعيش في الظل، لن يكون يوماً كعازف «الكمان» أو «البيانو» الذين تتسلط عليهما الأضواء في فقرات عزف منفرد.
ولأن البطل متوحد تماماً مع آلته، تسود النص المسرحي لغة صاحبها الأوركسترالية، ومفرداته الموسيقية التقنية التي تتجاوز مسامع غير المتخصصين في الفنون الموسيقية، ولكنها لا تأتي مُقعّرة أو مُتعالية، بقدر ما تأتي وظيفية مُتماهية مع لغة السارد التائه في ملكوت موسيقاه، وفلسفته التي كرّسها في هامشه، يقول مثلاً: «الكونترباص هو أعمق الآلات الوترية. إنه يستطيع النزول إلى أسفل درجات السلم الموسيقي إلى قرار إلـ(مي)». وهنا يستخدم زوسكيند الرمز الموسيقي في معرض إيمان البطل الكامل بقدرات آلته النغمية التي يرى لها الغلبة والسيادة على كل مسرح، والامتثال لسلطتها المطلقة سواء على حياته الشخصية، أو على أي أوركسترا: «لا يمكن تصوّر أوركسترا من دون كونترباص. بل يمكننا القول إن الأوركسترا - بالتعريف - لا تولد إلا مع وجود كونترباص. يوجد أوركسترا دون كمان أول، دون آلات نفخ، دون طبل أو أبواق، دون كل شيء. ولكن ليس دون كونترباص».
يذوب العازف في سياقه «المونودرامي»، الذي لا يخلو من غرابة وإحباط، يتأمل أسعار أوتار الكونترباص التي ترتفع بجنون، ويفتش في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية، عن نظرة رُوادها للكونترباص، في استرسال لا يخلو من مرارة: «كان عظماء الموسيقى الكلاسيكيون هم الذين سحقوا بلا رحمة كل من وقف أمامهم. ليس عن وعي. لا أريد أن أقول ذلك. الكلاسيكيون كانوا - إذا نظرنا إلى كل منهم على حدة - رجال أفاضل. شوبرت لم يكن ليؤذي نملة، موتسارت كان أحياناً فظاً، لكنه - من جانب آخر - كان مُرهف الحس إلى أقصى درجة، ولم يتسم أبداً بالعنف. الشيء نفسه ينطبق على بيتهوفن. رغم نوبات الغضب التي كانت تصيبه في بعض الأحيان. بيتهوفن - مثلا - حطّم عدة آلات بيانو... ولكنه - والحق يقال لم يمس أبداً آلة كونترباص. غير أنه أيضاً لم يكن يعزف عليه. الموسيقار المشهور الوحيد الذي كان يعزف على الكونترباص كان برامز... أو أبوه. بيتهوفن لم يعزف على أي آلة وترية، البيانو فقط، يتناسى الناس هذه الحقيقة اليوم».
لم يُطلق «زوسكيند» على بطل مسرحيته اسماً، وكأنما يُعمم البطولة هنا على كل من أرهقهم التمزق بين مشاعر التأثير والتهميش، فهذا الامتلاء الوجداني الذي يمنحه «الكونترباص» للعازف كمعشوقة أبدية، يقابله كُره دفين لها، فهي في نظره أصل كل بلاء في حياته، فهو يعيش بسببها ككائن غير مرئي، وهنا تكمن أزمته الوجودية. من ناحية أخرى يؤسس باتريك زوسكيند في النص، أواصر علاقة بين عزلة العازف وبين سمات آلة الكونترباص، فكلما ابتعدت عن الكونترباص أكثر كلما استمعت له بشكل أفضل، كما يقول صاحبها، الذي يتحدث على مدار المسرحية، التي تدور في فصل واحد، من قلب غرفة قام بتبطين جدرانها بعوازل صوت كلفته ثروة هائلة، تجعله رغم إقامته في قلب المدينة لا يستمع له أحد، ولا يسمع هو لأحد إلا عبر فتحة شباك تفصله عن العالم، مؤسساً قواعد علاقة بين عزلته التي يحرص عليها، وبين فوضى المدينة التي يعيش فيها، ليحمل النص هنا تساؤلات عن «الانعزالية» إذا كانت اختياراً أم نتيجة؟ وربما يحمل هذا الملمح ظلالاً من شخصية المؤلف «باتريك زوسكيند» نفسه المعروف عنه الانزواء التام عن الضوضاء ممثلة في الشهرة الجارفة التي حظّي بها لا سيما بعد روايته الوحيدة «العطر»، صدرت في 1985، فهو يرفض الجوائز الأدبية، ويمتنع عن إجراء أي حوارات صحافية أو مقابلات إذاعية وتلفزيونية.