شعراء لبنانيون: تكلم يا طفل الأمل المذهب يا الصوت الأبدي

- هنري زغيب: ولـمَ لا يكون كذلك «اليوم العالمي للنثر»؟
في «اليوم العالمي للشعر»، أتجاوز المدائح الكرنفالية التي تكال للشعر في هذا «اليوم»، وغالباً لا أقرأ عنها خارج هذه المناسبة، لأسأل: لـمَ اعتبارُ الشعر أهمَّ من النثر حتى لا يكون له هو الآخَر «يوم عالمي»؟
أكتب هذا وأنا ابن الشعر، والمفروض أن أنحاز إليه. لكنّ ما يُرتكَب في حقه على اسم الشعر، وهو دون الشعر، ولا يستحق أن يكون حتى من النثر الساقط، يجعلني أنحاز إلى النثر كما إلى الشعر، لاعتباري إياهما في مرتبة واحدة من الإبداع حين يتولَّاهما متمرس مبدع يكون شاعراً في نثره بقدْر ما هو مبدع في نثره.
كثيرون يعمَدون إلى تسميات «الشعر المنثور» و«قصيدة النثر» و«النثر الشعري»، كما ليرفعوا الكتابة النثرية إلى مستوى الشعر، وفي لاوعيهم الجَماعي أنّ الشعر أَرفعُ مستوى من النثر. هذه إهانة النثر، وتسهيل كتابة رخوة «تدَّعي» الشعر كي تنصِّع نصّاً يُقْنع المتلقّين لو نسبوه إلى إقليم الشعر دون النثر، كأنّ النثر درجة ثانية والشعر درجة أُولى.
هذه الموجة من دُرْجَة الشعر «الحديث» بدأَتْ منذ أَخذ شعراء يخرجون عن عمودية الشعر (صدراً وعَجُزاً وقافية وروياً)، ويبنون قصيدتهم مدوَّرَة على وحدة التفعيلة، وأتوا بروائع فيها مقابلَ غَثٍّ كثير من نمط «معاصر» سقَط في السرد النثري.
هذا الخروج على النُظُم تَواصَل انفلاتاً حتى بلغ «الشعرَ الحر» فـ«الشعرَ المنثور» المتفلِّتَ من إيقاع كلّ قاعدة عروضية، متحجِّجاً بـ«الإيقاع الداخلي»، وهْماً لا تعرفه سيداتُ الإيقاع: السمفونياتُ الخالدة التي «تفرض» ميلودياها ولا تنتظر «البحث» عنه بين النوطات.
إنّ تلك التسميات إِهانة قيمة النثر، فيما هو فنٌّ عظيمٌ في ذاته لا يجوز ربطُه بفن الشعر لإعلاء قيمته. فرُبّ ناثر متمكّن يبدع فيه أبلغ من أَي شاعر، حتى إذا راح «يرتكب» الشعر جاء شعره نظْماً، ورُبّ شاعر متمكّن مبدع إذا كتب النثر جاء نثرُهُ مسطحاً عادياً دون شعره. من هنا، أن النثر فضيحة الشاعر، كما الشعر فضيحة نظَّامين «يَتلطَّون» خلف تقطيع الوزن وتلميع القوافي وتطريب الإلقاء، فيما أبياتهم مرصوفة التراكم عمودياً، وليس فيها بيت واحد ذو إبداع.
في السائد أن الشعر معنى ومبنى ووزن. لا. أبداً. المعنى موجود أنّى كان، والمبنى متوافر لأَي كان، والوزن مطروح في كل زمان. الأصل ليس «ماذا نكتب»، بل «كيف نكتب ماذا». وهذا ما يميز قصيدة باردة عن أخرى إبداعية.
المعيار؟ تركيب القصيدة.
الأهم؟ أن يكون في كل بيت «لمعة» تركيب شعرية. وهذا نادر حتى بين كبار الشعراء لأن معظمهم يُراكمُ أبياته متتالية حتى يبلغ «بيت القصيد»، فيما الشاعرُ الشاعر هو من يجهد إلى جعل كلٍّ من أبياته «بيت القصيد».
وما أعنيه عن هذا «النحت» الجمالي الصعب في «فنّ» الشعر، أعني مثيله تماماً في الفن الصعبِ الآخر الذي هو النثر. إذا مقطوعة الأوّل هي القصيدة، فمقطوعة الأخير هي «النَثيرة». وإذا الشعر هو الكلام المغاير (تركيباً) عن الكلام العادي (رصفاً سردياً)، فالنثر كذلك -وتماماً وتساوياً- هو الآخَر نسْج الكلام صقلاً وتنصيعاً بما لا يقلّ «نحتاً» عن نسْج الشعر.
وهكذا، يتعادل الإبداع بين القصيدة والنَثيرة.

- عيسى مخلوف: تراجع القيمة الاجتماعية للكتابة الشعرية
وَضعُ الشعر كوضع المسرح والفلسفة والفكر والعلوم الإنسانيّة وكلّ ما يتعذّر تسليعه. ما لا يدخل في منطق العرض والطلب لا مكان له اليوم، أو يُهَمَّش في أحسن الأحوال. المردوديّة المادية هي المعيار. طالما كان المال هو السيّد، لكنّه لم يكن يوماً كما هي الحال الآن. النتيجة: حين يخرج الشعر من مخبئه، لا يعرف أحداً ولا أحد يعرفه. ويواجه هذا النوع الأدبي، إضافة إلى التحدّي المادّي، تحدّيات أخرى لا مجال لذكرها في أسطر قليلة. إنّ تراجع القيمة الاجتماعية للكتابة الشعرية ينعكس بصورة سلبية أيضاً على الإبداع، وعلى نوعيّة الكتابة نفسها. لكنّه، على المستوى الشخصي، لا يحجب «صوت الشعر»، ذاك الصوت الذي يناديه سوفوكليس من وراء أزمنة بعيدة: «تكلم يا طفل الأمل المُذهَّب، يا الصّوت الأبديّ».

- جوزيف عيساوي: عصفور جريح في العاصفة
الشعر كائن خرافي لا يعقل أو يركن إلى قانون، حتى ما يسنّه هو. يتمادى في الانبساط كسهل من النوم، وفي التحدي كملك أرعن، وفي التواري كعصفور جريح في العاصفة. وقد يتمادى في اللامبالاة، رسولاً للعدم، يهتك الأرض بما يعلم عن السرّ والباطن. لا يملكه الشعراء، بلا أب أو أمّ، أمّه الطبيعة ووالدُه الموت باذراً شِقاقه، ضارباً في الأرض معاوله. يولد الشعر من هلع بالوجود وهلع بالزوال، متنعماً بقلق الشعراء يحيا، وتفجر اللغات، ورهابِ الورقة البيضاء... أهلاً إذاً بعيد الشعر.