محمد المُنفّي... أمام «ثلاثة تعهدات» لحل معضلات ليبيا

رئيس المجلس الرئاسي الجديد يعمل وفق قاعدة «انتهى زمن الإقصاء»

محمد المُنفّي... أمام «ثلاثة تعهدات» لحل معضلات ليبيا
TT

محمد المُنفّي... أمام «ثلاثة تعهدات» لحل معضلات ليبيا

محمد المُنفّي... أمام «ثلاثة تعهدات» لحل معضلات ليبيا

منذ أن هبط رئيس المجلس الرئاسي الليبي الجديد محمد المُنفّي، درج طائرة الخطوط الأفريقية خلال زيارته إلى شرق ليبيا، وقدّم له رئيس أركان «الجيش الوطني الليبي» الفريق عبد الرازق الناظوري، التحية العسكرية، أيقن الليبيون أنهم أمام مرحلة فارقة من عمر هذا الوطن. وفي هذه المرحلة قد يودعون أجواء الحرب والكراهية ويستقبلون عهداً جديداً؛ آملين بتحقيق شيء من الديمقراطية، في ظل ما قطعه «الرئيس الجديد» على نفسه من تعهدات.
المُنفّي (45 سنة) كان قد فاز برئاسة المجلس الرئاسي في الانتخابات التي أجراها «ملتقى الحوار السياسي» الليبي برعاية أممية، يوم 5 فبراير (شباط) الماضي، مدينة جنيف السويسرية، ليضطلع بـ«مهام جسام» مع حكومة «الوحدة الوطنية» بقيادة عبد الحميد الدُبيبة، في مقدمتها «لمّ شمل» البلد المنقسم سياسيا، والمنهار اقتصادياً.
في مدينة طبرق، الموصوفة بـ«دار السلام» (أقصى الشرق الليبي)، ولد محمد يونس أحمد بشير بوحويش المُنفّي عام 1976، منحدراً من قبيلة المنفّه، التي انتمى إليها المناضل الراحل عمر المختار. ونشأ في بيت اتسم بالاهتمامات العلمية ونظم الشعر الشعبي؛ فوالده هو الدكتور الراحل يونس المُنفّي، أستاذ الإعلام بجامعة قاريونس الليبية، وعم والده هو المرحوم رجب بوحويش، صاحب القصيدة الملحمية الشهيرة «ما بي مرض غير دار العقيلة». وأما العقيلة هذه فهي قرية صغيرة غرب مدينة بنغازي حوّلها الاستعمار الإيطالي لليبيا، (1911ــ 1943(إلى معتقل كبير لمعارضيه قتل فيه آنذاك المئات من بينهم غالبية أجداد المنفّي، الذي نعاهم عم والده بقصيدته المشار إليها.
وفي مدينة طبرق الساحلية الهادئة، التي تبعد شرقاً عن العاصمة طرابلس قرابة (1300 كيلومتر) تدرّج المُنفّي في مراحل التعليم المختلفة حتى حاز درجة الدكتوراه في الهندسة المدنية من جامعة طبرق، بجانب سنوات أمضاها في فرنسا لاستكمال دراسته ضمن إحدى البعثات الليبية وفي فرنسا حصل على شهادة عليا في الهندسة.
- أيام فرنسا
تشكلت بدايات محمد المُنفّي، ككثيرين من الشباب الليبي على وقع التأثيرات الحماسية لـ«ثورة الفاتح من سبتمبر» التي قادها الرئيس الراحل معمر القذافي، عام 1969، وما واكبها من أحاديث عن العروبة والقومية العربية. وإبان وجوده في فرنسا كان من القيادات النشطة في رابطة الطلاب الليبيين الدارسين بباريس، وأكثر المدافعين حماسة عن «ثورة الفاتح»، والحالمين بمستقبل أفضل لليبيا.
ولم يمض وقت طويل حتى عاد المُنفّي من فرنسا، وانشغل ببعض الأعمال المتعلقة بدراسته وتخصصه. ثم اندلعت «ثورة 17 فبراير» عام 2011، لكنها كانت هذه المرة على نظام القذافي الذي رأى كثيرون من الشباب أنه «لم يعد يمثل طموحاتهم في التغيير». ومجدداً وجد المُنفّي نفسه داخل المعترك السياسي، عقب تولي «المجلس الوطني الانتقالي» السابق مقاليد الحكم مؤقتاً بقيادة الراحل الدكتور محمود جبريل. وبالفعل، رشح نفسه في انتخابات «المؤتمر الوطني العام» يوم 7 يوليو (تموز) 2012 ليفوز بعضويته، ثم يُرشّح رئيساً للجنة الإسكان والمرافق بالمؤتمر؛ ومن ثَم انضوى ضم كتلة «الرأي المستقل» وهي كتلة كانت قليلة العدد نسبياً.
- «موقعة اليونان»
يُعد التعريف الحقيقي بمحمد المُنفّي لجموع الليبيين، إن لم يكن عربياً ودولياً أيضاً، خلال فترة عمله سفيراً لبلاده لدى اليونان بقرار صادر عن المجلس الرئاسي في 31 يوليو عام 2018. ومع إقدام فائز السراج، رئيس «حكومة الوفاق الوطني» في حينه يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 على توقيع مذكرة تفاهم مثيرة للجدل بشأن ترسيم الحدود البحرية مع تركيا، لحماية ما رأته أنقرة «حقوقها في البحر المتوسط» اضطرت الحكومة اليونانية إلى إلغاء اعتماد المُنفّي لديها تعبيراً عن غضبها. وأعلن وزير الخارجية اليوناني نيكوس دندياس على الأثر أن أمام المُنفّي مهلة 72 ساعة لمغادرة البلاد، قبل أن يصف اتفاق السراج مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بأنه «انتهاك سافر للقانون الدولي».
من هنا أصبح المُنفّي مادة إعلامية وخبراً رئيسياً على الفضائيات المحلية والإقليمية، خصوصاً المناوئة لـ«حكومة الوفاق الوطني» حينئذٍ. إلا أن الرجل، الذي لم ترغب أثينا في إبقائه على أرضها سفيراً، خاض تجربة أكبر جعلت منه «رئيساً مؤقتاً» لليبيا، وفق الخريطة الأممية لتفعيل الحل السياسي في ليبيا، وفازت قائمته في الانتخابات التي أجريت وقائعها في جنيف بـ39 صوتاً متغلّبة على قائمة كانت تضم رئيس مجلس النواب عُقيلة صالح ووزير الداخلية في «حكومة الوفاق» فتحي باشاغا بفارق 5 أصوات.
وعلى متن طائرة الخطوط الأفريقية، المملوكة للدولة الليبية، وصل المُنفّي من الخارج إلى مطار بنينا ببنغازي، في أول زيارة له للبلاد منذ اختياره رئيساً للمجلس الرئاسي. ووفقاً لمتغيرات السياسة، وقف الفريق الناظوري رئيس أركان «الجيش الوطني» الليبي على مَدْرج الطائرة محاطاً بمجموعة من العسكريين في شرف استقبال الرئيس الشاب، وفور هبوطه سلّم الطائرة حياه الناظوري بالتحية العسكرية، في اعتراف بموقعه الرسمي الجديد. وفي ذلك رمزية اقتراب ليبيا من عتبة العبور إلى «دولة جديدة» استهلت بشائرها بإجراءات «اتسمت بشيء من الديمقراطية»، وأنتجت سلطة مدنية، حتى وإن كانت مؤقتة.
- انتقادات للمُنفّي
في الحقيقة لم يعبأ رئيس المجلس الرئاسي الجديد كثيراً بالانتقادات اللاذعة التي طالته من سياسة ونشطاء في غرب ليبيا؛ كون زيارته الأولى، بعد عودته كانت إلى مدينة الرّجمة معقل «الجيش الوطني الليبي» وقائده المشير خليفة حفتر؛ وذلك لأن السفير السابق يعمل وفق خطة أن ليبيا، التي تضم نحو سبعة ملايين نسمة، «لا بد أن تصبح جسداً واحداً» بعيداً عن الانقسامات السياسية والتحزبات الجهوية التي عانت منها قرابة 10 سنوات.
مع هذا، تساءل منتقدوه: «كيف يبدأ المُنفّي مباشرة مهامه بزيارة حفتر، الذي خاض حرباً على العاصمة وألحق بها أضراراً»؟ ورأوا أن هذه «بداية غير مبشّرة من رئيس مجلسهم الرئاسي الجديد»! وكان بين أشد المنتقدين لتلك الزيارة خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى الدولة.
من جهة ثانية، فإن المُنفّي، الذي ما أن انتهى من زيارة الرّجمة، انتقل إلى طبرق مسقط رأسه، وهناك في استقباله شخصيات عسكرية وسياسية، في مقدمتهم رئيس أركان سلاح الجو الفريق الركن صقر الجروشي، وأعيان المدينة والمشايخ والوجهاء. ومن هناك بدأ المُنفّي تعهداته الكثير بالعمل على ملفات عدة مع حكومته لحل تعقيدات الأزمة الليبية، لكنه فعلياً ركز على ثلاث عقد، هي: توحيد المؤسسة العسكرية على أُسس مهنية وعقيدة وطنية خالصة، وإجراء مصالحة وطنية للمّ شمل ليبيا، وتجهيز ليبيا للانتخابات المقبلة يوم 24 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، قبل أن يسلم السلطة للسلطة المنتخبة بعد ذلك وفقاً للخريطة الأممية.
ثم أنه فور عودة المُنفّي إلى العاصمة طرابلس العاصمة بادر إلى القيام بزيارة، برفقة نائبيه موسى الكوني وعبد الله اللافي، إلى مدينة سبها عاصمة إقليم فزّان، قلب الجنوب الليبي، الذي يشكو سكانه من «الإقصاء والتمييز». وفي سبها وجد حفاوة بالغة لكونه أول مسؤول كبير يزور هذا الجزء القصي من البلاد، غير أن الزيارة لم تقنع جلّ أهل الجنوب؛ إذ اعتبرها الشيخ علي أبو سبيحة، رئيس المجلس الأعلى لقبائل فزّان ومدنها، أنها تأتي في إطار «مجاملة وقطع ملام»!
- شبهات «الأخونة»
في سياق آخر، من قبيل المُناكفة السياسية، استبق كثيرون مجيء المُنفّي إلى السلطة، فتحدثوا عن أن هيمنة لتنظيم «الإخوان» على «ملتقى الحوار السياسي» أتت به والدبيبة إلى سدة الحكم. وادعى هؤلاء أنه قبل تكليفه العمل سفيراً في أثينا، كان عضواً في «المؤتمر الوطني العام» الذي يغلب عليه النفوذ الإخواني، عبر حزب «العدالة والبناء» الذراع السياسية للتنظيم. غير أن هذا الزعم فنّده جمال شلوف، رئيس ‏مؤسسة «سلفيوم» للدراسات والأبحاث، قائلاً «باعتباري من طبرق، وبحكم معرفتي الشخصية بالمُنفّي، فإنه لا ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، لا فكراً ولا توجهاً، وإنما لا يؤمن بإقصائهم».
ونفى شلوف أن يكون رئيس المجلس الرئاسي الجديد قد انتمى في وقت ما إلى «كتلة الوفاء للشهداء» في «المؤتمر الوطني»، بل كان في كتلة «الرأي المستقل». وبرهن على بعده عن تنظيم «الإخوان» بأنه «عمل على فتح منظومة علاج جرحى القوات المسلحة أثناء فترة عمله سفيراً في اليونان... وما أعرفه أنه يتواصل مع القوات المسلحة كما يتواصل مع بقية الأطراف، وهو على علاقة طيبة معهم».
- احترم «ثورة فبراير»
واستطراداً، الملاحظ أن «الرئيس الشاب، الذي أقسم على احترام (ثورة فبراير)، يتَبِع دبلوماسية منفحته داخلياً وخارجياً من دون إقصاء لفصيل، أو تفضيل لمدينة على أخرى». بل دأبه العمل وفق قاعدة «لا إقصاء أو تمييز بعد اليوم، والكل مشارك في بناء ليبيا الجديدة». حقاً، بدا أنه يخط خطوطاً عريضة للدبلوماسية الليبية في الآتي من الأيام بعيداً عن حالة «العشوائية والمحاباة» التي سمحت بـ«تعيين المحاسيب والمقربين» في مناصب دبلوماسية. وبموازاة ذلك، لفت المُنفّي أيضاً في مناسبات عدة إلى ضرورة احترم السيادة الليبية كأساس للتعاملات المستقبلية معها.
وخطب المُنفّي ذات مرة في كلمة متلفزة، «كل الدول الشقيقة والصديقة، والمنظمات الدولية والإقليمية بلسان الشعب الليبي... نحن مُقبلون على مرحلة جديدة، نتطلع فيها لاستكمال عملية التحوّل الديمقراطي. وهذا يستوجب من المجتمع الدولي الإيفاء بالتزاماته تجاه شعبنا، وتنفيذ قرارات مجلس الأمن والتقيد بها، كوضع حد للتدخلات الخارجية السلبية، وحظر توريد الأسلحة، والحفاظ على الأموال والأصول الليبية المجمّدة، وتقديم الدعم الفني الذي تتطلبه المرحلة».
ولمزيد من التأكيد على انفتاح الرجل، فإنه أعرب عن تطلعه لبناء علاقات خارجية وثيقة قائمة على الشراكة والمصالح المتبادلة، واحترام السيادة وتجنب التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
وأمام قضاة المحكمة الدستورية العليا بطرابلس، وقف المُنفّي مؤدياً اليمن الدستورية، في خطوة نادرة لليبيا، وأقسم أنه «سيعمل على تحقيق أهداف (ثورة 17 فبراير)، واحترم مبادئ الإعلان الدستوري، ومراعاة مصالح الشعب رعاية كاملة، المحافظة على استقلال ليبيا ووحدة أراضيها».
- التكلّم بالفرنسية
ختاماً، الحاصل الآن، أنه بات لليبيا سلطة جديدة. وهي تسلمت الحكم في تقليد ذكّر الليبيين بما فعله رئيس الوزراء الراحل الدكتور عبد الرحيم الكيب، عندما تنازل طواعية عن السلطة لخلفه علي زيدان. وأمام عدسات المصوّرين والإعلاميين تسلّم محمد المُنفّي مهامه في مشهد وصفه بـ«التاريخي» في دلالة على سلاسة التداول السلمي للسلطة. وغادر فائز السراج منصبه، مستقلاً سيارته، بعدما سلّم السلطة للمُنفّي والدبيية، منهياً بذلك قرابة خمس سنوات من الحكم، منذ تشكلت حكومته في فبراير عام 2016 بموجب «اتفاق الصخيرات» (الموقع في المغرب) يوم 17 ديسمبر (كانون الأول) 2015 بدعم أممي.
وفيما يشبه الوعود الضمنية غير المتفق عليها، أجمع ليبيون على ضرورة منح المجلس الرئاسي وحكومته وقتاً كافياً لترتيب الأوراق، وإدارة «التركة الثقيلة» التي خلفتها «حكومة الوفاق الوطني». وسادت حالة من الارتياح والتفاؤل بين جميع الأوساط السياسية والاجتماعية، المُعربة عن ابتهاجها بمكالمات هاتفية جرت بين المُنفّي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي عبّر فيها عن ترحيبه بالسلطة التنفيذية الجديدة. وترجم دبلوماسيون ليبيون ووسائل إعلام محلية هذه الفرحة، بالقول «إن المُنفّي لم يكن في حاجة إلى مترجم وهو يتلقى مكالمة ماكرون، فرئيسنا يتقن اللغة الفرنسية، ويتكلمها بطلاقة».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.