القشعمي... الناظر إلى الحياة بعيون من شَرَر

قبل عامين ونصف وبعد تقاعده من العمل مديراً للشؤون الثقافية في مكتبة الملك فهد الوطنية، لملم الباحث والمؤلف وكاتب السِّيّر محمد بن عبد الرزاق القشعمي، أوراقه الخاصة، ومنها لوحة ورقية صغيرة كُتبت كلماتها بخطَّي الرقعة والنسخ تحمل بيتاً لشاعر العربية الكبير أبي الطيب المتنبي:
أعز مكانٍ في الدنا سرج سابح
وخير جليس في الزمان كتاب
حمل القشعمي وريقاته واللوحة التي سطر فيها البيت الشعري، وذهب إلى مملكته الصغيرة، مكتبة منزله شرق العاصمة السعودية الرياض، ومسح الغبار عن فضاء صغير في واجهة المكتبة وعلق اللوحة الورقية.
جلس على كرسيه الذي ملّ من «الصرصرة» والدوران طيلة عقود، ليتناول ورقة صغيرة ويكتب: «هنا سأقضي جُلّ وقتي وأكون رهين المحبسين: المنزل والكتاب»، موفراً وقتاً طويلاً كان في أمسّ الحاجة إليه منذ زمن لمواصلة الكتابة والبحث والتأليف والقراءة ليضيف إلى إنتاجه 70 مؤلفاً وبحثاً انجزها بمفردة أو بمشاركة آخرين، إضافةً إلى إشرافه على إصدار العشرات من الكتب وتقديمه لها، وكتابته مقالات ودراسات في الصحف والمجلات تناولت موضوعات أدبية وثقافية وسيراً لشخصيات ورصداً للتحولات في بلاده، وتاريخ الصحافة، فيما يمكن تسميته بالرصد البيبليوغرافي الموثق.
وفي مؤلفاته تناول الباحث القشعمي كل شيء، فكانت «بدايات» و«ترحال الطائر النبيل» و«سادن الأساطير»، وسير أخرى رصدت حياة ومسيرة مبدعين خرجوا من هذه الصحراء، لامس فيها المتاح والمحرم وألّف فيهما، ورصد المتغيرات في بلاده على المستويين الاجتماعي والثقافي، وقدم أعمالاً تناول فيها البدايات الصحافية في بلاده وروادها، كما قدم سيراً عن شخصيات أدبية وثقافية سعودية.
وكان آخر أعماله في مجال التأليف تناوله لنشأة مؤسسات المجتمع المدني في بلاده من خلال كتابه «بوادر المجتمع المدني في المملكة العربية السعودية»، الذي تتبع فيه البدايات الأولى لنشاط المؤسسات الأهلية التي بدأت مع بداية الدولة واستمرت إلى اليوم، والتقط فيه نماذج من تجربة طويلة بخصوص تنظيمات المجتمع المدني في السعودية وتجارب الانتخابات في البلاد انطلاقاً من البدايات الأولى لانتخابات مجلس الشورى القديم، مروراً بالنقابات والروابط والمجالس البلدية والغرف التجارية والجمعيات، ومدى أهمية الانتخابات وإقامة النقابات والروابط بما يمكن تسميته الحراك الاجتماعي قبل قرن، ليعود مجدداً بدخول المرأة لأول مرة إلى مجالس الشورى وإدارات الأندية الأدبية. وفي معارض الكتب التي احتضنتها أمكنة الإشعاع الفكري في طول الوطن العربي وعرضه وفي صالونات مثقفيها كان القشعمي حادياً فيها وهادياً لروادها، وفي مخافر وأرفف الكتب قُدمت بلاغات وشكاوى ضده بتهمة زحزحتها عن أماكنها وتصويرها دون إذن مسبق من محارمها وتوزيعها على طالبيها في ساحات البحث والتقصي.
لاحق القشعمي رائحة الكتب واستظل بورقها وبحث عن عش ذلك الطائر الذي قطع 70 عاماً وهو يلتقط حبات الملح في مدنها ثم يلفظها، ويواصل مسيرته بحثاً عن ملح قريته قصيباء وسط نجد بعد أن رحل عنها والده قبل 62 عاماً. بحث القشعمي آثار عبد الرحمن منيف حتى وجدها، ووضعها في قفص زجاجي ليطّلع عليها كل من يتابع هذا الروائي الكبير الذي ترك «أرض السواد» كآخر محطة توقف فيها في رحلته مع التأليف الروائي.
القشعمي الذي أرعبه منظر السيارة وهو يشاهدها لأول مرة وهي تطوي أرض قريته «معقرة» وتصعد إلى كثيب رملي قريب من القرية فيهرب منها، ويحذّر أحد أبناء عمه من الاقتراب من هذا القادم الضخم الغريب منادياً بأعلى صوته: «ابعد عنها لا تعضك»! تحوَّل إلى مثقف وراصد مميز وكاتب سير، لدرجة أن كاتباً وشاعراً مثل محمد العلي قال في تعليقه على كتاب «بدايات» للقشعمي: «هذا الإصدار ليس فقط، كما يقول هو (فصولاً من السيرة الذاتية)، بل هو فصول من سيرة البلد الواقعية، هذا الكتاب الفريد لا شأن له بالبلاغة، ولا طلاء الوجه بالصور الشعرية، أو تقديم الواقع على طبق من أخيلة. لا، أبداً... إنه مَسْك الواقع من يديه ووضعه أمام القارئ عارياً. صور متلاحقة للحياة بنكهتها (الخام) يصبّها أمامك صباً، وبتدفق كتدفق نار»، مضيفاً: «السؤال الذي كان يخترقني، عند قراءة الكتاب من أول سطر إلى آخر سطر... هو السؤال التالي: كيف نجا هذا الإنسان (القشعمي) من المآسي؟ كيف نجا من العُقد؟! كيف لم يصبح عدوانياً وحاقداً وناظراً إلى الحياة والأحياء بعينين من جمر وشَرَر؟! إنها نعمة كبرى أن تهوي المعاول على إنسان ثم تبقى روحه شديدة الإضاءة».
قدرة على التقاط الأشياء الجميلة وتوظيفها لصالح شخصياته الذين رصدهم، فقد أنجز كتاباً توثيقياً عن حياة سليمان بن صالح الدخيل، أول صحافي من منطقة نجد، تتبع من خلاله حياة الدخيل ابتداءً من مسقط رأسه بريدة حتى هجرته إلى العراق التي يقول عنها القشعمي: «لعل من العوامل التي وفّرت له أسباب التزود بالعلم والمعرفة وجود عمه جار الله الدخيل المقيم في بغداد، إضافةً إلى الأجواء الفكرية المتوافرة، فكان أن برز الدخيل في ميدان الصحافة وأصدر جريدة في بغداد عام 1910 اختار لها اسم (الرياض) تيمناً بحاضرة نجد، الرياض، كما أنه أول نجدي يؤسس داراً للنشر في بغداد ثم يصدر مجلة (الحياة) وجريدة أسبوعية سماها (جزيرة العرب)».
ولعل من الصعوبة أن نرصد كل ما كتبه أو ألّفه الباحث محمد القشعمي الذي بقدر ما هدّه البحث والتعلق بالكتب والتواصل مع المثقفين، محليين وعرباً، فقد هدّه الترحال والسفر منذ أن عمل قبل نحو نصف قرن موظفاً في قطاع الشباب في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، مروراً بإدارة مكاتب رعاية الشباب في كلٍّ من الأحساء وحائل والقصيم، ثم انتقاله للعمل في الإدارة العامة للشؤون الثقافية في الرئاسة العامة لرعاية الشباب، إلى أن تقاعد قبل عشرين عاماً مبكراً عن وظيفة مساعد مدير عام النشاط الثقافي في الرئاسة، ليتجه قبل سنوات إلى مكتبة الملك فهد الوطنية ويعمل فيها مديراً للشؤون الثقافية، وليكون قريباً من عشقه الأول والأخير؛ الكتاب، ليترجل قبل عامين ونصف من العمل الثقافي ويتفرغ لمواصلة التأليف والبحث والقراءة.
ولد محمد عبد الرزاق القشعمي عام 1945 في قرية «معقرة» إحدى قرى منطقة الزلفي داخل نفود الثويرات، وكانت تسمى القرى المحاطة بالرمال العُقل، ومفردها عقلة، والتحق وهو في الخامسة من عمره بكُتّاب القرية، وحصل على شهادة الثانوية العامة من معهد الرياض العلمي قبل 53 عاماً. ثم مارس العمل الحكومي موظفاً في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية (رعاية الشباب) وتنقل في عدة مدن سعودية مسؤولاً عن مكاتب رعاية الشباب، وسكرتيراً للأسابيع الثقافية السعودية في عدة دول، ورأس القسم الأدبي بالشؤون الثقافية بالرئاسة العامة لرعاية الشباب بالرياض قبل 33 عاماً. وبعدها أصدر سلسلة «هذه بلادنا»، وكُلف بعضوية الأمانة العامة لجائزة الدولة التقديرية للأدب، ومثّل بلاده في مناسبات ثقافية، والتحق بمكتبة الملك فهد الوطنية مسؤولاً عن الشؤون الثقافية فيها منذ 20 عاماً، وتبنى مشروع تسجيل «التاريخ الشفهي للسعودية» بلقاءات كبار الأدباء ورجال العلم والتعليم والمال والسياسة. وسجل حتى الآن سيرة أكثر من 300 شخصية من مختلف أنحاء بلاده.