عالم ساحر ينشد «مُنتهى الحب»، وشخوص مشحونة بمشاعر المودة والمحبة والإحساس بالألفة والسكينة، ألهمت جميعها الفنان المصري إبراهيم البريدي، في معرضه المقام الآن بغاليري «دروب» في القاهرة، الذي يأتي في توقيت متزامن مع مشارف «عيد الأم» في مصر، مستعيداً دفء الأسرة، وذكريات الزمن الجميل عبر لوحات استند فيها إلى أسلوب فني ابتكره هو «المرج خيط».
من لوحة إلى أخرى ننتقل معه إلى حالة وجدانية تفيض بالخيال والبساطة والسلاسة، وكأنه أراد أن يقدم للمتلقي «وصفة» مخلصة وخالصة للحب والسعادة، أبرز مكوناتها هي الرضا والقناعة والتخلص من تعقيدات الحياة؛ إذ تبدو شخوصه كما لو أنّها قد نجحت في التخلص من همومها ومشكلاتها، أو ربما واجهتها وتجاوزتها في مرحلة سابقة لكي «تعيش اللحظة» الآن بـ«مُنتهى الحب» والهناء والسلام النفسي، وكأنّها أيضاً جاءت في هذا التوقيت حتى تحمل رسالة طمأنينة و«طبطبة» للمشاهد الذي يتطلع إلى كسر حواجز الخوف والرتابة والنمطية التي يعيشها هذه الأيام بسبب الجائحة، يقول الفنان إبراهيم البريدي لـ«الشرق الأوسط»، «ما أحوجنا الآن إلى الإحساس بالأمل والأمان، وإلى من يؤكد لنا أننا سنستعيد في القريب العاجل تفاصيل حياتنا اليومية، لكن لكي نفعل ذلك علينا أن نتمتع بالحب، بل (مُنتهى الحب)، وهو عنوان معرضي الذي يأتي مواكبة لـ(عيد الأم) أو (عيد الأسرة) كما يحلو لبعض المصريين تسميته، حيث الالتفاف العائلي وفيض المشاعر في أسمى معانيها».
من خلال 42 لوحة نعيش مع شخصياته المرحة خفيفة الظل التي يحيكها بالخيوط والإبرة وقصاقيص القماش الملونة لتحكي لنا حواديت ومواقف درامية متعددة قوامها الحب بعناصره المختلفة، يتابع البريدي «للحب عناصر كثيرة رائعة مثل الاحتواء والتسامح والتعاون والمشاركة، إضافة إلى التواصل والتضحية في سبيل من نحب، لذلك لم أقصد من احتفائي به هو ذلك الحب التقليدي بين الرجل والمرأة فقط، لكن تعكس الأعمال مشاعر وعلاقات سامية وجميلة متنوعة، مثل حب الله، حب الوطن، حب الأم، حب الأبناء، حب الزوج للزوجة والعكس، حب الفن وحب الحياة نفسها، إلى جانب الاستلهام من القصص الشهيرة مثل حسن ونعيمة، عنتر وعبلة».
لكن لا يحتفي الفنان في معرضه المستمر حتى 22 مارس (آذار) الحالي بالحب بين البشر فقط، ولا يراه السبيل الوحيد للإحساس بالطمأنينة؛ إذ نجده يحتمي أيضاً بالتراث والفلكلور الشعبي «في حنين واضح للماضي» و«أخلاق القرية»، وفق الفنان الذي أخذنا إلى الحارة والريف لنبحث معه داخلهما عن قيم ومفردات نفتقدها، لعلنا نستعيدها ونعيدها إلى حياتنا المعاصرة.
من هنا تروي لنا شخوصه حكايات أبو زيد الهلالى وعاشق المداحين والست خضرة والسقا والأراجوز والحكواتى، وملوك المواويل، وتصحبنا معها لتناول الترمس والكنافة و«الدندورما» والبطاطا الحلوة الساخنة من العربات الخشبية، أو لركوب الأرجوحة ولعب الكرة في الشوارع، والأزقة في الأحياء الشعبية البسيطة، وسط البيوت التي تقع على مقربة من المساجد والأسواق. يقول الفنان «تأثرت في أعمالي بنشأتي الريفية، فقريتي (صرد بمحافظة الغربية) هي محور حياتي، فيها ولدت، وفيها نمت طفولتي، وفيها كل شيء جميل، لذلك استمد معظم أعمالي منها، حتى يتعرف الناس في كل مكان على ناسها (الحلوين)، أصحاب المواقف النبيلة أوقات الأزمة والفرح والحزن، تستقبلك بحب وتودعك بحب، إنّ زيارتك لقريتي تعني زيارتك للماضي الجميل».
وتأخذنا شخصيات وعناصر أخرى إلى أجواء فلكلورية مميزة عبر الاستلهام من الجذور، مثل أوبريت «الليلة الكبيرة»، وحتى حين أراد أن يمزج الكلمات بالرسوم اختار أغنيات قديمة أثيرة عند المتلقي مثل «ساكن في حي السيدة» و«تحت الشجر يا وهيبة». يُشكل الفنان شخصياته المبهجة باستخدام تقنية ابتكرها، وهي «المرج خيط» التي تعتمد على الرسم بقصاقيص القماش الملون، وهي تختلف عن فن الخيامية، حيث يتعمد في أعماله ظهور الخيوط، وليس إخفائها في التكوين، على العكس من الخيامية، وذلك إمعاناً في إبراز بساطتها وتلقائيتها، كما أنّه يقوم على التناسق الشديد بين ألوان قطع القماش، ما يتطلب جهداً مضاعفاً، لا سيما أنه يتم اختيار ألوان صارخة زاهية تتوافق مع أجوائه الشعبية والريفية، ويكون التحدي هو الاختيار الدقيق الواعي للألوان بحيث تأتي أنيقة متناغمة لا تسبب الإزعاج لعين المشاهد، يقول «المرج خيط فن سهل للغاية وشديد الصعوبة في الوقت ذاته، إنّه السهل الممتنع لما يتطلبه من روح طفولية تلقائية وانتقائية لونية، بجانب التمتع بالثقافة الشعبية؛ لذلك هو فن عميق ثري على بساطته».
أطلق البريدي عليه هذا الاسم بسبب المصادفة التي قادته إليه، حين كان يسير ذات يوم في سوق شعبية بحي «المرج» القديم في مصر، وشاهد سيدة تبيع قصاصات القماش، فجذبه تراكمها فوق بعضها بعضاً، وكأنّها بألوانها تشكل لوحات فنية، فقرر أن يشتريها لعله يستخدمها في أحد أعماله من دون أن يتوقع أنّها ستصبح «كل أعماله»!
بل تغير مساره التشكيلي من الكاريكاتير إلى فن «المرج خيط» المبتكر، يقول «أتذكر البداية حين حملت لوحاتي الأولى من هذا الفن، لأطلع أصدقائي في جمعية الكاريكاتير عليها من أجل مشاركتهم لحظات من الضحك والمرح، وفوجئت بالفنانين الكبار مصطفى حسين وتاج وفرحات جمعة يبدون إعجابهم الشديد بها، ويطالبونني بإنتاج المزيد من الأعمال، متوقعين أن تمثل فناً جديداً، وقد كان... وقطعت مشواراً توج بحصولي على جائزة الدولة التشجيعية لدوري في المحافظة على التراث والهوية عبر هذا الفن».
قصاصات القماش الملون تنشد بالفن «منتهى الحب»
في معرض يضم 42 لوحة للمصري إبراهيم البريدي
قصاصات القماش الملون تنشد بالفن «منتهى الحب»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة