مسكونة قصيدة نوري الجراح بشكل خاص بـ«التغريبة السورية»، وخاصة منذ مجموعته «صعود أبريل»، الصادرة قبل أربع عشرة سنة من اندلاع الثورة السورية عام 2011. التي مرت ذكراها العاشرة يوم أمس، لترتفع التغريبة معها إلى مستواها المأساوي الأقصى. وجد كل ذلك، وبالتوازي، انعكاسه الفني في مجموعات الجراح المتعاقبة، وآخرها «لا حرب في طروادة». من هنا يمكن القول إن المختارات الجديدة للشاعر، التي ضمت سبع مجموعات شعرية ابتداء من 1997. هي قصيدة واحدة، تتنوع إيقاعاتها وأشكالها ومناخاتها تنوع الوجع السوري، وتضاريس التغريبة السورية وتعرجاتها. لكن هذه القصائد تنطلق من المكان، والمحسوس، والخاص، إلى الزمن المطلق، والمجرد والعام، مستلهمة التراجيديا الإنسانية، وخاصة الإغريقية، لتعبر عن الألم الإنساني عبر التاريخ، والاقتلاع الروحي، والموت، والانبعاث مرة أخرى أيضاً.
صدرت المختارات بعنوان «رسائل أوديسيوس» في 236 صفحة، عن دار «خطوط وظلال» الأردنية، وضمت «صعود أبريل»، 2001 و«طريق دمشق»، 1997، و«الحديقة الفارسية»، 2001 و«يوم قابيل»، 2012 و«قارب إلى لسبوس»، 2016. و«الخروج من شرق المتوسط»، 2018، و«حرب في طروادة»، 2019.
وهي، كما كتب الشاعر، هي «إعادة نظر في الطبعة الأولى الصادرة في القاهرة سنة 2009. واستدراك لقصائد كتبت في وقت لاحق».
واختار الناقد والباحث السوري د. خلدون الشمعة قصائد المختارات، وقدم لها بدراسة مطولة وافية غطت مراحل تطور القصيدة عند الجراح، وخاصة في المجموعات المختارة. وجاء في المقدمة:
تذكرت ابن عربي وهيغل لدى قراءتي لـ«رسائل أوديسيوس» مراراً وتكراراً.
ولا تقتصر هذه الاستعادة على المقارنة بين عالمية التصوف لدى الشيخ الأكبر، وبين مركزية أوروبا لدى الفيلسوف الألماني فحسب، بل تتسع لتشمل ما أشار إليه راسل وبرنال وبيركرت حول تتلمذ اليونان على السوريين القدماء الذين تعلمت منهم الأبجدية. ففي الأساطير اليونانية - كما هو معروف - أن قدموس السوري أخذ بيد شقيقته يوروبا (أوروبا) ليعلِّمها الكتابة.
كما تتسع الاستعادة من طرف آخر إلى ما هو معروف أيضاً من أمر الميراث الثقافي المشترك بين التراث المصري والبابلي القديم من جهة، والتراث اليوناني من جهة أخرى.
وعندما يستعير نوري الجراح رمز أوديسيوس وعوليس (اسمه باللاتينية) فإنه ينضم بذلك إلى لائحة طويلة أدرجها هارولد بلوم في كتابه The Western Canon وتشمل الذين استعادوا بطل هوميروس، بدءاً من بندار وسوفوكل ويوربيدس وهوراس وفرجيل وأوفيد وسينيكا ودانتي وكالديرون وشكسبير وغوته وتنيسون وشللي وصولاً إلى جويس وكازانتزاكيس.
هذه الاستعادة في مثال الشاعر نوري الجراح تنحصر في حدود ما يسمى بـ«الإلماعة» Allusion أي الإشارة الموحية إلى شخصيات تحيل القارئ إلى حقل دلالي هو الملحمة الهوميرية ومحورها أوديسيوس (عوليس).
والإلماعة كما سيلاحظ القارئ معي، وسيلة لتحريك سلسلة من التداعيات التي تمتح من مخزون اللاوعي لدى المتلقي من الأفكار والصور والمعاني التي تتصل برحلة خائبة.
والحال أنه لا يمكن النظر إلى رحلة بطل هوميروس، وهي رحلة خيبة دائرية الشكل إلا باعتبارها إحدى أبرز الأمثلة على نظرية الأنماط الأسطورية العليا Archetypes كما عرضها «يونغ» في بحثه حول اللاشعور الجمعي.
هذا المفهوم للرحلة الدائرية الإيكاروسية المنزع، يظهر في رسائل نوري الجرّاح إلى أوديسيوس على شكل تقمص تراجيدي لشخصية بطل الملحمة الهوميرية في حقل دلالي مباشر حيناً، وغير مباشر حيناً آخر.
وفي هذا الأفق تدور شخصيات أسطورية أخرى يستبطنها الشاعر قناعاً، يقلبها على وجوهها، مستقصياً دلالاتها التي تتجاوز ألعاب المجاز، في إلماعات (مفردها إلماعة) Allusion ترمز إلى أنماط أسطورية عليا ثاوية صار الإلمام بوجودها جزءاً وثيقاً من بنية كوزموبوليتانية للأدب الحديث تصدر عن رؤية محددة للعالم. لكن الإلماعة إلى أوديسيوس على وجه الخصوص تبدو أشبه بموسيقى خلفية خافتة الصوت، أو قل موسيقى غير صائتة، موسيقى ذات نزوع أنطولوجي ثاوٍ في الأعماق.
قصيدة «لا موت في الموت» تبرز شعرية الكينونة هذه كبؤرة يحركها مزاج رابسودي ترتد إليه قصائد المختارات التي لا ينتظمها تتابع خطي، وإنما هي تتحرك على نحو دائري (صعوداً أو هبوطاً) لتعترضك على حين غرة باستمرار.
وتبعة هذا المزاج الأنطولوجي - كما أسلفت - بروز كينونة شعرية تنسج بلاغتها الخاصة... كينونة شرنقة تتحشرج بصوت كارل كراوس: «لقد تمرست بلغة الآخرين... وأما لغتي فهي التي تفعل بي ما تشاء».
لغة نوري الجرّاح، إذن، هي بلاغته الخاصة التي تكتبه (لا يكتبها). انظر مثلاً إلى مونولوغ «صعود أبريل» الدائري البارع والذي يذكر بعود «نيتشه» الأبدي، أو زئبقية الكلمات الرجراجة في «نهار آخر»، أو محاولة الخلق من عدم Creation Ex Nihilo في «موت نرسيس»، أو إلماعة السقوط المدوي في «إيكاروس»، أو الحس الفجائعي في قصيدته «خفة محترقة»:
«أنا يا ربُّ فمي ممسوك بالصمغ
وكلمتي مرساة ثقيلة
من هنا، من هذه الأعماق
رأيتُ صرختي في فِراشٍ وجسدي في فِراشٍ،
ولمْ أبرحْ
مسحوراً، أطوفُ حيثُ هلكتُ»...
أو البلاغة الشخصية جداً في قصيدته «حفيف يموت»:
«إلي بالشُّعلة
السُّهادُ يملأ عيني
لكأنني فُتاتُ شخصٍ في تُرابٍ.
اليَرَقَة قُصاصَة تهبُّ
لكنَّ جسدي معتمٌ وثقيلٌ
لستُ هنا، ولستُ هناك
لستُ في أرض لأتحرَّكَ
الحافَّة ترسلُ الإشارة، والصَّمتُ يستطلعُ...
رئتي، أيضاً، مكسورة
وما أحسُّ...
الهواءُ همسُ أوراقٍ تَتَكَسَّرُ،
حفيفٌ يموتُ.
لكأنني نَفحة،
شخصٌ يلهو في هاوية ملوَّنة»...