شعرية ملامسة الحواف في «ما لم يذكره الرسام»

الشاعرة عزة حسين تناوش فضاءاتها في ديوانها الجديد

غلاف الديوان
غلاف الديوان
TT

شعرية ملامسة الحواف في «ما لم يذكره الرسام»

غلاف الديوان
غلاف الديوان

تتنوع صور الذات وأسئلتها في ديوان الشاعرة عزة حسين «ما لم يذكره الرسام»، بين فضاءات الطفولة والأسطورة والواقع المعيش. وفي كل فضاء تبحث الذات عن تشكيل خاص لوعيها بالنص الشعري والعالم والعناصر والأشياء، وإيجاد ملامح إدراك جديدة لها، تجعلها أكثر امتلاء بالنص وبالذات معا.
وعلى عكس ديوانها الأول «على كرسي هزاز» الذي اختبرت فيه الأشياء في عجينتها الرخوة، وبعين مسكونة بمجاز المفارقة وفجوات اللغة والرموز والدلالات، تضع الشاعرة في ديوانها الصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، خطوطا تحت هذه الفجوات، تتسم بقدر من الحدة، وتدفع نصوصه إلى منطقة شائكة يتبادل فيها الحلم والذاكرة الأدوار، ويراوحان تداعيات الزمان والمكان، بحثا عن لغة خاصة للنص وطرائق أخرى للمعرفة والإدراك.
في ظل هذه المراوحة تخشى الذات الشاعرة من فكرة الإقامة الطويلة داخل الأشياء، وما تخلفه من رتابة العادة والتكرار، وهروبا من كل هذا تلجأ إلى نوع من السفر الخاص العابر، داخل النص، وداخل العناصر والأشياء، يوفر لها حيوية الدخول والخروج، من الداخل إلى الخارج والعكس أيضا، وكأن النص، بل كأن فعل الكتابة نفسه، هو بمثابة محطات متقطعة على جسد الكون والشعر واللغة والحياة.
ومن ثم، تتشكل نقطة الانطلاق الأساسية لفضاء الرؤية في الديوان، وتبرز فيما أسميه، «شعرية ملامسة الحواف والأطراف»، فليس ثمة قبول منطقي لدى الذات الشاعرة بفكرة الهدم الناقص، أو إشاعة نوع من العبثية الفارغة في التعامل مع العناصر والأشياء. هناك دائما هاجس المناوشة، مناوشة الأسطورة في حافتها وأطرافها الخرافية والمجازية، لتظل محض علامة وإشارة في النص، مفتوحة بخفة على تخوم البدايات والنهايات معا.
فالنص لا يقيم في الأسطورة، لا يتماهى معها، وإنما يتقاطع مها بشكل خاطف، يصل أحيانا إلى حد السخرية منها، وإبرازها كسؤال ناقص، لا يزال يبحث عن حكمة ضالة، عن سر مشوه، وصراع مبتور، لا يزال قابعا في ظلالها كنافذة إدراك خاصة للوجود والأشياء.
ومنذ النصوص الأولى للديوان تطالعنا هذه المناوشة لمجاز الأسطورة، ففي نص بعنوان «جحيم» تسبقه عبارة استهلالية لآرثر رامبو، تتناثر خيوط الأسطورة، ما بين الميثولوجيا الإغريقية ممثلة في الإلهة «هيرر» زوجة زيوس، كبير آلهة الإغريق، ثم جان بول سارتر، فيلسوف الوجود والعدم، ثم سانشو صديق دون كيخوته، وحامل درعه في الملحمة السردية الشهيرة «طواحين الهواء» لسيرفانتس، حتى إبليس رمز الشر والغواية، في الميثولوجيا الإسلامية، ولو تساءلنا: ما الذي يوحد بين كل هذه العناصر الأسطورية أو التي يكتسي بعضها بزي الأسطورة: هل هو الوجود والعدم، مدار فلسفة سارتر الشهيرة، أو الشر المطلق كما في رمز إبليس، أو الشر المعلَّق كما في رمز هيرا الحمقاء التي عاقبها زوجها زيوس بتقييد أرجلها بخلخال من الذهب لتظل معلقة بين الأرض والسماء، لا إجابة محددة يمكن الركون إليها في النص، بل أيضا تتناثر الإجابة، وتومض بشكل خاطف في جماع كل هذه الدلالات والرموز. وهو ما يشير ضمنيا إلى أن نص الشاعرة لا يسعى لأن يكون كتلة واحدة مصمتة وفي اتجاه معين، وإنما يشكل كتلته من خلال تنوع مدارات الرؤية، والعلامات والإشارات والأسئلة والرموز، ليحتفظ النص بزوايا متعددة لفعل الرؤية، لعملية الدخول والخروج، فلا يسجن هذا الفعل في ثبات الرأس أو فوضى الأطراف، ولا يتعامل مع العناصر والأشياء باعتبارها حقائق مجردة مكتفية بذاتها، وإنما هي أشياء تبحث عن تكاملها داخل النص وفي الوقت نفسه، يبحث النص عن تكامله فيها، وسيلته الوحيدة في ذلك، هي أن تظل الأشياء نفسها صالحة لإثارة الدهشة والأسئلة.
تقول الشاعرة في قصيدة «جحيم»:
«أيهما أكثر وخزا يا «سانشو»
الحقيقةُ أم زبدُ السخرية
أنا أعرف أن الطواحين أطيبُ من القتل
وأنك أطوعُ من المصارحة
لكنه الدُّوار..
الدُّوار يا «سانشو»
والرأس الـ«إبليس»
يتستر على أنين القنبلة»
هذا الدّوار الذي يكتنز في ثناياه صرخةً مكتومة أو مقموعة في جراب الذاكرة الإنسانية، يتردد صداه كحلم، يناوش معظم نصوص الديوان. فيما تخفف فكرة ملامسة الحواف، من أحادية وجع الذات، وتدفع النص لأن يصبح نقطة التوازن المركزية، بين تعارضات الجسد والروح، الحلم والواقع، الذات والموضوع، وهنا يحيل النص إلى مفارقته الخاصة النابعة من نسيجه الداخلي، بعيدا عما هو مقحم عليه من الخارج.. متشبثا بمراوحة الحواف، وإمكانية العيش في ظلالها، حيث تبدو الظلال هي منطقة الحياد الساكنة المحببة لمغامرة الكتابة لدى الشاعرة، بحثا عن بقعة ضوء خافتة، ربما لأن في الخفوت تستطيع الذات أن تنصت إلى نفسها، وهو ما تشير إليه الشاعرة في مقطع لافت من قصيدة بعنوان «ثالوث» في الديوان، تقول فيه:
«سأسمي القصيدة روحا مشتعلة بخفوت
وأسمي روحي قصيدة
وسأقضي ليلة كاملة
في محاولة إقناعكم
بأنه كان لدي شيءٌ خافت»
وترشح فكرة ملامسة الحواف دائما بأن هناك تسميات أولية للأشياء، هي المجال الأوفر حظا للعب مع الشعر والحياة، مع الذات والموضوع، حيث تصبح اللغة ثمرة من ثمرات الطفولة، وأحيانا يصبح التكيف مع إمكانية فعل قطف الثمرة بديلا أقوى دراميا من مغامرة ارتكابه. وهو ما تتجسد مظاهره شعريا بشكل لافت في نص بعنوان «نورا»، تشف فيه اللغة، وتتخلص من ربكة المواضعات البلاغية التقليدية، وتصبح مفردة حياة تمشي بحيوية وسلاسة على أرض الواقع، تاركا للقارئ مساحة متوترة، ليؤول في ربكتها ما هو مهمش ومنزاح ومسكوت عنه.. تقول الشاعرة في هذا النص:
«بلا ثرثرة
بلا كراهية
بلا محبة
سأتركك..
سأترك الكرسي الهزاز
والستار
وزجاجة العطر الجديدة
وساعة الحائط
ساترك الوداع أيضا
وسلة الخبز والخوخ المسلوق
سأترك التلفاز مشعلا
وحاوية الأحذية ينقصها زوج لي..
سأترك خاتم زواجنا
ومشطي الخشبي
والدولاب مفتوحا على غيابي
والملاءة الزرقاء لفراغ جسدي عليها».
وتغلف الذات الشاعرة صراعها أو حيرتها بين الفعل ورد الفعل، بغلالة تناص شفيفة، مع ديوانها الأول «على كرسي هزاز»، ثم مع «نورا» بطلة مسرحية هنريك إبسن، الشهيرة «بيت الدمية»، كرمز للتحرر والانعتاق من قسوة الزمن والبشر، فتأتي لطشة النص الأخيرة على هذا النحو:
«سآخذ جسدي نظيفا من وخزك
وأصفع الباب
بنشوة (نورا) بطلة هنريك إبسن
في وجهي»..
وتبرز الذاكرة، كوعي النص المستتر في عنوان الديوان، فلم تقل الشاعرة مثلا «ما لم يقله أو يشكله أو يرسمه الرسام»، لتستدعي وبشكل ضمني الطرف الغائب في واحدة من أعقد ثنائيات الوجود، وأعني بها ثنائية «الذاكرة والنسيان»، ثم تتجاوز هذه الثنائية، مقدمة لها حلا جماليا ناصعا، حيث تصبح طفولة الذات الشاعرة والعناصر والأشياء، هي الآخر، أو بمعنى أدق، هي الأنا التي تحولت إلى آخر، وهو أمر يصعب أن تلتقط حيواته ريشة الرسام.. تقول في النص نفسه الذي وسم عنوان الديوان:
«على صدري الآن كرةُ رماد
وهمٌ لم يعد – بعد - ذكرى
كان دخانٌ طعمه حلو
والنسوة يرتدين العرقَ خلف أواني الطهي
أنا جائعة لألوانك يا أمي
ورائحتي أقلام رصاص
المدرسة أعلى اللوحة
وظهري للماء والجسر
بقرة مبهجة لا تخيفني
في الحواديت..
عجوز تقرص خدي
وتشد رباط الحذاء».
ومن ثم ينفتح النص، على مناخات الطفولة، كمرآة، مفتوحة على فضاء الحلم والذاكرة معا، لا ينعكس عليها النص كحقيقة مجردة، وإنما كفعل حياة مبثوث بحيوية في مفردات الطبيعة، وتراث ومقومات البيئة الخاصة، ليس فقط باعتبارها حاضنة للذات، بل محطة طفولة لن ينتهي السفر منها وإليها.



مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟
TT

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

صدر العدد الجديد من مجلة الفيصل وتضمن العديد من الموضوعات والمواد المهمة. وكرست المجلة ملف العدد لموضوع إقصاء المرأة من حقل الفلسفة، وعدم وجود فيلسوفات. شارك في الملف: كل من رسلان عامر: «غياب المرأة الفلسفي بين التاريخ والتأريخ». خديجة زتيلي: «هل بالإمكان الحديث عن مساهمة نسائية في الفلسفة العربية المعاصرة؟» فرانك درويش: «المرأة في محيط الفلسفة». أحمد برقاوي: «ما الذي حال بين المرأة والتفلسف؟» ريتا فرج: «الفيلسوفات وتطور الأبحاث الحديثة من اليونان القديمة إلى التاريخ المعاصر». يمنى طريف الخولي: «النساء حين يتفلسفن». نذير الماجد: «الفلسفة نتاج هيمنة ذكورية أم نشاط إنساني محايد؟» كلير مثاك كومهيل، راشيل وايزمان: «كيف أعادت أربع نساء الفلسفة إلى الحياة؟» (ترجمة: سماح ممدوح حسن).

أما الحوار فكان مع المفكر التونسي فتحي التريكي (حاوره: مرزوق العمري)، وفيه يؤكد على أن الدين لا يعوض الفلسفة، وأن الفلسفة لا تحل محل الدين، وأن المفكرين الدينيين الحقيقيين يرفضون التفلسف لتنشيط نظرياتهم وآرائهم. وكذلك تضمن العدد حواراً مع الروائي العربي إبراهيم عبد المجيد الذي يرى أن الحزن والفقد ليس مصدرهما التقدم في العمر فقط... ولكن أن تنظر حولك فترى وطناً لم يعد وطناً (حاوره: حسين عبد الرحيم).

ونطالع مقالات لكل من المفكر المغربي عبد العزيز بومسهولي «الفلسفة وإعادة التفكير في الممارسات الثقافية»، والكاتب والأكاديمي السعودي عبد الله البريدي «اللغة والقيم العابرة... مقاربة لفك الرموز»، وضمنه يقول إننا مطالبون بتطوير مناهج بحثية لتحليل تورط اللغة بتمرير أفكار معطوبة وقيم عدمية وهويات رديئة. ويذهب الناقد سعيد بنكراد في مقال «الصورة من المحاكاة إلى البناء الجمالي» إلى أن الصورة ليست محاكاة ولا تنقل بحياد أو صدق ما تمثله، لكنها على العكس من ذلك تتصرف في ممكنات موضوعاتها. وترجم ميلود عرنيبة مقال الفرنسي ميشال لوبغي «من أجل محبة الكتب إمبراطورية الغيوم».

ونقرأ مقالاً للأنثروبولوجي الفرنسي فرانك ميرمييه بعنوان «مسار أنثربولوجي فرنسي في اليمن». ومقال «لا تحرر الحرية» (أريانا ماركيتي، ترجمة إسماعيل نسيم). و«فوزية أبو خالد... لم يزل الماء الطين طرياً بين أصابع اللغة» (أحمد بوقري). «أعباء الذاكرة ومسؤولية الكتابة» (هيثم حسين). «العمى العالمي: غزة بين فوضى الحرب واستعادة الإنسانية» (يوسف القدرة). «الطيور على أشكالها تقع: سوسيولوجيا شبكة العلاقات الاجتماعية» (نادية سروجي). «هومي بابا: درس في الشغف» (لطفية الدليمي).

ويطالع القارئ في مختلف أبواب المجلة عدداً من الموضوعات المهمة. وهي كالتالي: قضايا: سقوط التماثيل... إزاحة للفضاء السيميائي وإعادة ترتيب للهياكل والأجساد والأصوات (نزار أغري). ثقافات: «هل يمكن أن تحب الفن وتكره الفنان؟» ميليسا فيبوس (ترجمة خولة سليمان). بورتريه: محمد خضر... المؤلف وسرديات الأسلوب المتأخر (علي حسن الفواز). عمارة: إعادة تشكيل الفضاءات العامة والخاصة في جدة بين التراث والحداثة (بدر الدين مصطفى). حكايتي مع الكتب: الكتب صحبة رائعة وجميلة الهمس (فيصل دراج). فضاءات: «11 رصيف برنلي»... الابنة غير الشرعية لفرنسوا ميتران تواجه أشباح الحياة السرية (ترجمة جمال الجلاصي). تحقيقات: الترفيه قوة ناعمة في بناء المستقبل وتنمية ثقافية مؤثرة في المجتمع السعودي (هدى الدغفق). جوائز: جوائز الترجمة العربية بين المنجز والمأمول (الزواوي بغورة). المسرح: الكاتبة ملحة عبد الله: لا أكتب من أجل جائزة أو أن يصفق لي الجمهور، إنما كي أسجل اسمي في تاريخ الفن (حوار: صبحي موسى).

وفي باب القراءات: نجوان درويش... تجربة فلسطينية جسورة تليق بالشعر الجديد (محمد عبيد الله). جماليات البيت وسردية الخواء... قراءة في روايات علاء الديب (عمر شهريار). «أغنية للعتمة» ماتروشكا الحكايات والأنساب تشطر التاريخ في صعودها نحو الأغنية (سمية عزام). تشكيل: مهدية آل طالب: دور الفن لا يتحقق سوى من خلال الفنان (هدى الدغفق). مسرح: المنظومة المسرحية الألمانية يؤرقها سوء الإدارة والتمييز (عبد السلام إبراهيم)

ونقرأ مراجعات لكتب: «وجه صغير يتكدس في كل ظهيرة» (عماد الدين موسى)، «مروة» (نشوة أحمد)، «خاتم سليمي» (نور السيد)، «غراميات استثنائية فادحة» (معتصم الشاعر)، «أبناء الطين» (حسام الأحمد)، «حساء بمذاق الورد» (جميلة عمايرة).

وفي العدد نطالع نصوص: «مارتن هيدغر يصحو من نومه» (سيف الرحبي)، «مختارات من الشعر الكوري» (محمد خطاب)، «سحر الأزرق» (مشاعل عبد الله)، «معرض وجوه» (طاهر آل سيف)، «سارقة الذكريات» (وجدي الأهدل)، «أوهام الشجر» (منصور الجهني).