«أبو الشهداء»... سوري يريد العدالة بعدما أفقدته الحرب 13 ابناً وزوجة

عبد الرزاق خاتون يجلس وسط أحفاده الأيتام في مخيم بقرية حربنوش بريف إدلب الشمالي الغربي في سوريا (أ.ف.ب)
عبد الرزاق خاتون يجلس وسط أحفاده الأيتام في مخيم بقرية حربنوش بريف إدلب الشمالي الغربي في سوريا (أ.ف.ب)
TT

«أبو الشهداء»... سوري يريد العدالة بعدما أفقدته الحرب 13 ابناً وزوجة

عبد الرزاق خاتون يجلس وسط أحفاده الأيتام في مخيم بقرية حربنوش بريف إدلب الشمالي الغربي في سوريا (أ.ف.ب)
عبد الرزاق خاتون يجلس وسط أحفاده الأيتام في مخيم بقرية حربنوش بريف إدلب الشمالي الغربي في سوريا (أ.ف.ب)

خلال عشر سنوات من الحرب، خسر عبد الرزاق 13 ابناً وزوجة، ليجد نفسه في الثمانين من عمره مسؤولاً عن أسرة كبيرة بينها 11 حفيداً يتيماً. ورغم هول الفقدان، فإن لقب «أبو الشهداء» هو أكثر ما يعزيه، وجل ما يتمناه تحقيق العدالة.
بعد رحلات نزوح متعددة قادته من مسقط رأسه في محافظة حماة (وسط) إلى إدلب (شمال غرب)، يستقر عبد الرزاق محمد خاتون (83 عاماً) مع عائلة مؤلفة من ثلاثين فرداً، في أربع خيام شيدها على أرض زراعية استأجرها بين أشجار الزيتون في بلدة حربنوش القريبة من معرة مصرين في ريف إدلب الشمالي.
يفترش الرجل الأرض داخل خيمة، بينما يجلس أحفاده حوله مع كتبهم وخلفهم حقيبة معلقة زرقاء تحمل شعار منظمة الأمم المتحدة للطفولة. يطلب الجد من أحفاده إحضار حقائبهم وفتح كتبهم، فيمتثلون لطلبه، ثم يسألهم «ماذا درستم اليوم؟ هل حفظتم الدرس؟». يجيبون بصوت واحد «حفظناه».
قبل اندلاع الحرب، كان أبو محمد، الذي يرتدي عباءة ويضع كوفية تقليدية على رأسه، يهنأ بحياة سعيدة مع ثلاث زوجات و27 ولداً، عمر أكبرهم 38 عاماً وأصغرهم ثمانية أعوام. لكن عشر سنوات من النزاع، قلبت حياته رأساً على عقب.
ويقول بحسرة لوكالة الصحافة الفرنسية: «قدمت منذ بداية الثورة سبعة شهداء، قاتلوا مع الجيش الحر ضد النظام».
ويضيف: «بعدها قصفت طائرات مواقع في سراقب، فقدت سبعة آخرين، زوجتي وأولادي»، بعضهم أطفال.
عبثاً يحاول الرجل تذكر تواريخ مقتل أولاده خلال المعارك، لكن ذاكرته مثقلة بهموم وشجون تجعل ذلك مهمة صعبة.
وكان المرصد السوري لحقوق الإنسان وثق شن الطيران الروسي الداعم لقوات النظام غارة على محطة المحروقات المهجورة في سراقب في 23 يناير (كانون الثاني) 2020. هي التي تسببت بمقتل أفراد العائلة.
لا يتمكن الرجل الذي غزا الشيب ذقنه وحفرت التجاعيد عميقاً في وجهه من حبس دموعه، عند مشاهدته عبر هاتف ذكي، مقاطع مصورة تظهر عناصر من الدفاع المدني، الناشط في مناطق سيطرة الفصائل، يعملون على نقل الضحايا والمصابين من عائلته إثر الغارة.
ويقول: «الفراق صعب بلحظة واحدة خسرت الجميع. شعرت حينها أن ظهري انكسر»، لكن «الله أعانني على التحلي بالصبر والشجاعة».
رغم حجم الخسارة وما رتبته من مسؤوليات، يؤكد أبو محمد أنه لم يشعر يوماً بالندم. ينفث بين الحين والآخر دخان سيجارته عالياً. ثم يشرح بفخر: «صحيح أن خسارة الأولاد كبيرة لكن الأرض تحتاج تضحية وأنا أرفع رأسي بهم. خسرت شباناً كالورود».
ويتابع: «حتى لو أصبحت في خيمة، لكنني أطالب بحقهم وبتحقيق العدالة، وسأعلم أطفالهم أن الحق والحياة الكريمة يحتاجان إلى تضحية ولا يقبلان الظلم، وأن الكريم يضحي بروحه فداء للحرية والكرامة».
ويخاطب الدول العربية والعالم: «نريد العدالة... مرت عشر سنوات، وعلى الدول كافة أن تقف اليوم مع سوريا وتدعمها».
ويدخل النزاع السوري الاثنين عامه الحادي عشر، مخلفاً دماراً هائلاً وحصيلة قتلى تخطت 387 ألفاً، عدا عن نزوح وتهجير الملايين داخل سوريا وخارجها.
وتؤوي مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً) وفصائل أخرى أقل نفوذاً في إدلب ومحيطها نحو ثلاثة ملايين نسمة، نصفهم تقريباً نازحون. ويقيم نصف هؤلاء تقريباً في مخيمات عشوائية مكتظة ومراكز إيواء، بينهم مئات آلاف الأطفال.
في وسط الخيمة، يلتف الأحفاد حول طبقين أو ثلاثة، أحدهم مملوء بحبات الزيتون. تضع طفلة شقيقها في حضنها، وتعطي شقيقتها قطعة من الخبز، بينما عُلقت خلفهم مناشف على حبل غسيل. وكُدست في إحدى الزوايا أغطية شتوية فوق بعضها البعض.
وفي الباحة بين الخيام، يضع الجد أحد أحفاده بحضنه ويكرر على مسامعه كلمة «جدي جدي»، فيعيدها الطفل خلفه. ويلهو حفيد آخر قربه.
يروي أبو محمد، الذي عمل في الزراعة قبل اندلاع الحرب، أن جل ما يريده هو الاستمرار في إعالة عائلته وتعليم الصغار، بعدما لجأ عدد من أبنائه الآخرين إلى دول الجوار وبالكاد يتمكنون من إعالة أنفسهم.
ويوضح بتأثر يطغى على تقاسيم وجهه المنهكة «أحلم أن يعيش أحفادي بكرامة وأن يكون لديهم منزل بدل الخيمة وسيارة نتنقل بها، وأن يعيشوا حياة سعيدة ويتذكروا قصص آبائهم في التضحية دفاعاً عن الأرض».
ويتحدث عن معاناة يومية لتأمين القوت مع تقدمه في السن. ويقول: «نجوع يوماً ونشبع يوماً، قلة من الناس تساعدنا أحياناً».
على بعد أمتار منه، تتحدث أرملة أحد أبنائه، بتول خطاب، عن حياة صعبة. وتقول: «تعذبنا كثيراً. مرارة النزوح واستشهاد زوجي جعلا حياتنا أكثر صعوبة».
وتضيف: «ذكرى زوجي تكوي قلبي. انتهى بنا الأمر نازحين بين الأشجار بينما يعمل عمي جاهداً ليؤمن لنا حياة كريمة».
لا يتوقف أبو محمد عن تكرار عبارة «لن أحرمهم شيئاً ما دمت على قيد الحياة»، مصراً على أن «دماء أولادي لم تذهب هدراً لأنهم دافعوا عن الأرض».
أما عزاؤه الوحيد، فهو كلمة «أبو الشهداء». ويقول: «هذا اللقب هو أكثر ما يخفف عني، فالله أخذهم لكن ذكراهم ترافقني حتى في نزوحي».



ملاهي سوريا وحاناتها تعيد فتح أبوابها بحذر بعد انتصار فصائل المعارضة

سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
TT

ملاهي سوريا وحاناتها تعيد فتح أبوابها بحذر بعد انتصار فصائل المعارضة

سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)

احتفل سكان دمشق بسقوط نظام بشار الأسد بعد حرب وحشية استمرت 13 عاماً، لكن أصحاب أماكن السهر في المدينة اعتراهم القلق وهم يعيدون فتح أبواب حاناتهم وملاهيهم.

فقد قادت «هيئة تحرير الشام» فصائل المعارضة التي أطاحت بنظام الأسد، وكانت هناك خشية لدى بعض الناس من أن تمنع الهيئة شرب الكحول.

ظلت حانات دمشق ومحلات بيع الخمور فيها مغلقة لأربعة أيام بعد دخول مقاتلي «هيئة تحرير الشام» المدينة، دون فرضهم أي إجراءات صارمة، والآن أعيد فتح هذه الأماكن مؤقتاً.

ما يريده صافي، صاحب «بابا بار» في أزقة المدينة القديمة، من الجميع أن يهدأوا ويستمتعوا بموسم عيد الميلاد الذي يشهد إقبالاً عادة.

مخاوف بسبب وسائل التواصل

وفي حديث مع «وكالة الصحافة الفرنسية» في حانته، اشتكى صافي، الذي لم يذكر اسم عائلته حتى لا يكشف عن انتمائه الطائفي، من حالة الذعر التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي.

فبعدما انتشرت شائعات أن المسلحين المسيطرين على الحي يعتزمون شن حملة على الحانات، توجه إلى مركز الشرطة الذي بات في أيدي الفصائل في ساحة باب توما.

وقال صافي بينما كان يقف وخلفه زجاجات الخمور: «أخبرتهم أنني أملك حانة وأود أن أقيم حفلاً أقدم فيه مشروبات كحولية».

وأضاف أنهم أجابوه: «افتحوا المكان، لا مشكلة. لديكم الحق أن تعملوا وتعيشوا حياتكم الطبيعية كما كانت من قبل»، فيما كانت الموسيقى تصدح في المكان.

ولم تصدر الحكومة، التي تقودها «هيئة تحرير الشام» أي بيان رسمي بشأن الكحول، وقد أغلق العديد من الأشخاص حاناتهم ومطاعمهم بعد سقوط العاصمة.

لكن الحكومة الجديدة أكدت أيضاً أنها إدارة مؤقتة وستكون متسامحة مع كل الفئات الاجتماعية والدينية في سوريا.

وقال مصدر في «هيئة تحرير الشام»، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، طلب عدم كشف هويته، إن «الحديث عن منع الكحول غير صحيح». وبعد الإلحاح عليه بالسؤال شعر بالغضب، مشدداً على أن الحكومة لديها «قضايا أكبر للتعامل معها».

وأعيد فتح «بابا بار» وعدد قليل من الحانات القريبة، لكن العمل محدود ويأمل صافي من الحكومة أن تطمئنهم ببيان يكون أكثر وضوحاً وقوة إلى أنهم آمنون.

في ليلة إعادة الافتتاح، أقام حفلة حتى وقت متأخر حضرها نحو 20 شخصاً، ولكن في الليلة الثانية كانت الأمور أكثر هدوءاً.

وقال إن «الأشخاص الذين حضروا كانوا في حالة من الخوف، كانوا يسهرون لكنهم في الوقت نفسه لم يكونوا سعداء».

وأضاف: «ولكن إذا كانت هناك تطمينات (...) ستجد الجميع قد فتحوا ويقيمون حفلات والناس مسرورون، لأننا الآن في شهر عيد الميلاد، شهر الاحتفالات».

وفي سوريا أقلية مسيحية كبيرة تحتفل بعيد الميلاد، مع تعليق الزينات في دمشق.

في مطعم العلية القريب، كان أحد المغنين يقدم عرضاً بينما يستمتع الحاضرون بأطباق من المقبلات والعرق والبيرة.

لم تكن القاعة ممتلئة، لكن الدكتور محسن أحمد، صاحب الشخصية المرحة والأنيقة، كان مصمماً على قضاء وقت ممتع.

وقال لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «كنا نتوقع فوضى عارمة في الموقف»، فيما كانت الأضواء تنعكس على ديكورات المطعم، مضيفاً: «لكننا عدنا سريعاً إلى حياتنا، حياتنا الليلية، وحقوقنا».

حفلة مع مغنٍ

وقال مدير المطعم يزن شلش إن مقاتلي «هيئة تحرير الشام» حضروا في ليلة إعادة الافتتاح ولم يغلقوا المكان.

وأضاف: «بدأنا العمل أمس. كانت الأمور جيدة جداً. كانت هناك حفلة مع مغنٍ. بدأ الناس بالتوافد، وفي وسط الحفلة حضر عناصر من (هيئة تحرير الشام)»، وأشار إلى أنهم «دخلوا بكل أدب واحترام وتركوا أسلحتهم في الخارج».

وبدلاً من مداهمة المكان، كانت عناصر الهيئة حريصين على طمأنة الجميع أن العمل يمكن أن يستمر.

وتابع: «قالوا للناس: لم نأتِ إلى هنا لنخيف أو نرهب أحداً. جئنا إلى هنا للعيش معاً في سوريا بسلام وحرية كنا ننتظرهما منذ فترة طويلة».

وتابع شلش: «عاملونا بشكل حسن البارحة، نحن حالياً مرتاحون مبدئياً لكنني أخشى أن يكون هذا الأمر آنياً ولا يستمر».

ستمارس الحكومة الانتقالية الجديدة في سوريا بقيادة «هيئة تحرير الشام» عملها حتى الأول من مارس (آذار). بعد ذلك، لا يعرف أصحاب الحانات ماذا يتوقعون.