الانقسام الفلسطيني يصل إلى «البوكر» ويطرح تحديًا للثقافة والمبدعين

أبو سيف صاحب «حياة معلقة» ممنوع من مغادرة غزة إلى معرض الدار البيضاء

عاطف أبو سيف  -  غلاف «حياة معلقة»
عاطف أبو سيف - غلاف «حياة معلقة»
TT

الانقسام الفلسطيني يصل إلى «البوكر» ويطرح تحديًا للثقافة والمبدعين

عاطف أبو سيف  -  غلاف «حياة معلقة»
عاطف أبو سيف - غلاف «حياة معلقة»

وصل الانقسام الفلسطيني ما بين حركتي فتح وحماس إلى الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، بمنع الأجهزة الأمنية التابعة لحركة حماس في قطاع غزة، منذ الثلاثاء الماضي، الروائي الفلسطيني د.عاطف أبو سيف، الذي وصلت روايته «حياة معلقة» إلى القائمة الطويلة للجائزة، في الدورة الحالية، من مغادرة قطاع غزة، عند وصوله إلى حاجز بيت حانون (إيرز)، متوجها إلى الضفة الغربية، من ثم إلى معرض الكتاب الدولي في المغرب، الذي يقام في «الدار البيضاء»، حيث من المقرر أن يشارك في حفل إعلان القائمة القصيرة للجائزة في الثالث عشر من الشهر الحالي، علما بأن المنع تم من دون إعطاء مسوغات أو مبررات.
وقال صاحب «حياة معلقة» لـ«الشرق الأوسط»: «هذا المنع يأتي على الرغم من ترشح روايتي (حياة معلقة)، لجائزة البوكر الأدبية، وهي الرواية الفلسطينية الوحيدة التي ترشحت لها من بين 180 رواية من دول أخرى، ضمن 16 رواية للقائمة الطويلة، في حين سيتم إعلان قائمة المرشحين القصيرة في معرض الدار البيضاء للكتاب بعد أيام»، مشددا على أهمية مشاركته في المعرض، خاصة أنه بروايته يمثل فلسطين، ويتحدث عن غزة المحاصرة وتحولاتها على أكثر من صعيد، وعلى مدار عقدين من الزمن، خاصة أن المعرض يشتمل على سلسلة من الفعاليات الأدبية من ضمنها توقيع روايته.
وأضاف أبو سيف «جهات عديدة تدخّلت لمحاولة إلغاء المنع، لكن موقف الأمن على الحاجز كان واضحا، وهو أن هنالك أمرا بمنعي من السفر، من دون توضيح السبب وراء ذلك أو شرحه»، مشددا على أن «المناكفات السياسية لا يجب أن تكون على حساب المواطن الذي كان ولا يزال يدفع فاتورة الانقسام الفلسطيني الداخلي.. لا يمكن أن نقوم بمنع المبدعين من المشاركة بنشاطات علمية وثقافية وأدبية بسبب المناكفات بين الضفة وقطاع غزة.. المواطن الفلسطيني هو الضحية الأولى للانقسام الفلسطيني، وأكثر هذه الضحايا ألما.. لا يقتصر الموضوع على شخصي، بل إن حماس قامت بمنع العديد من الشخصيات للتوجه والمشاركة بنشاطات وفعاليات دولية، آخرها ما حدث معي وزميلي مأمون سويدان، الذي كان متوجها للمشاركة في ورشة عمل في الضفة الغربية حول محكمة الجنايات الدولية».
وأدان كتاب ومثقفون فلسطينيون في قطاع غزة، في بيان تلقت «الشرق الأوسط» نسخة عنه، مساء الجمعة، منع عناصر الأمن التابع لحماس في غزة الكاتب أبو سيف من التوجه إلى الضفة الغربية في طريقه إلى المغرب.
وعدّ البيان منع الروائي أبو سيف أمرا خطيرا، ويشكل اعتداء صارخا على الثقافة الفلسطينية، وانتهاكا كبيرا لحق المواطنين في التنقل والسفر، كما أنه يعني حرمان غزة المحاصرة من حضور هذه الفعالية الثقافية المهمة، مضيفا أن «سياسات حماس تشكل تحديا كبيرا للثقافة الفلسطينية ولازدهارها وتطورها». وتابع الكتاب والمثقفون في بيانهم «على الكل الوطني وعلى حكومة الوفاق أن يقفوا أمام مسؤولياتهم في وقف مثل هذه الإجراءات وتعزيز روح العمل المشترك وصون الثقافة الوطنية وحماية الكتاب والمثقفين من بطش وسياسات الأمن في غزة، معتبرين وصول رواية فلسطينية إلى البوكر العربية ومن غزة تحديدا هو مصدر فخر واعتزاز للفلسطينيين، لا يمكن محاربته والوقوف في وجهه».
والرواية، التي تقع في 407 صفحات من القطع المتوسط، تحاول رسم حياة رجل في مخيم في قطاع غزة، يدعى نعيم، يملك مطبعة اعتاد في عمله فيها ومنذ الانتفاضة الأولى على طباعة «بوسترات» لشهداء غزة، يموت برصاصة إسرائيلية أمام مطبعته ذات صباح، حين يكون متجها لممارسة عمله اليومي كالمعتاد. وحياة نعيم محصورة بين حربين، حيث ولد في حرب عام 1948 عند هجرة أسرته من يافا، ومات في حرب في غزة، قبل أن تنتقل الرواية لترصد الصراع الداخلي لابنه سليم المقيم في الخارج، والذي يرفض أن يطبع ملصقا لوالده الذي لطالما طبع ملصقات الشهداء، وكأنه يرفض أن يتحول والده (وفيها رمزية للشهيد عموما) إلى رقم أو مجرد صورة على حائط. من هنا يفتح أبو سيف في روايته المدهشة على مستوى السرد والموضوع والتقنية السينمائية «الفلاش باك» على حياة المخيم وأزمات ساكنيه.
وتستعرض الرواية، بشكل أو بآخر، التحولات التي طرأت، في أكثر من مجال، وعلى أكثر من مستوى في قطاع غزة في الأعوام العشرين الأخيرة، حيث تطفو شخصيات المخيم، أو حارة نعيم فيه، خلال جنازته، من المختار إلى ناظر المدرسة والحاج المبروك (خليل)، والذي تنتهي الرواية بجنازته، في حين بدأت بجنازة صاحب المطبعة، وفيها رصد لحيوات غزية متعددة ما بين الجنازتين.
والرواية التي تتعملق مع كل صفحة بل كل فقرة، وربما كل سطر فيها، على مستوى السرد والتشويق، لم تفوت «شاردة أو واردة» في حيوات أهل غزة وسكان مخيماتها في العقدين الأخيرين، التي انتصر الروائي لها وللمكان الذي يجد أنه مهمل في الروايات الفلسطينية عموما، خاصة حين يكون المكان غزة.
ومع ذلك فإن الرواية ترصد حقائق يعرفها الفلسطينيون، ربما ليسوا جميعهم، وربما ليس بكامل تجلياتها، ولكن بأسلوب رشيق يجعلك تتوقف كثيرا أمام الإبهار الذي ينفر مع الحروف ومنها.. «الناس في غزة ضحايا آلة القتل التي تعمل رصاصها في أجسادهم وتحصدهم بين وقت وآخر، مثل سنابل في بيدر قمح تنهال تحت مقص آلة الحصاد.. ليست لهم رغبة في رحيلهم المفاجئ أو في اختيار موتهم. نعيم كان واحدا منهم.. لقد مات دون قصد منه، دون أن يكون راغبا في الموت، دون أن يبحث عنه.. جاءه الموت صدفة.. اخترقت الرصاصة جسده وهو يمنّي نفسه بيوم جميل».



يوهان هيس وموهق الغنامي... صداقة إنسانية كبيرة

يوهان هيس وموهق الغنامي... صداقة إنسانية كبيرة
TT

يوهان هيس وموهق الغنامي... صداقة إنسانية كبيرة

يوهان هيس وموهق الغنامي... صداقة إنسانية كبيرة

نشرت «الشرق الأوسط» في صفحة «ثقافة وفنون»، بتاريخ 13 أكتوبر 2024، مادة مهمة للباحث السعودي قاسم الرويس عن اكتشاف قاموس خاص بلهجة البدو في نجد بجامعة زيوريخ، يوثق لهجات محكية في السعودية قبل أكثر من 100 عام. هذا القاموس هو جزء من الجهود العلمية العظيمة للباحث الكبير يوهان جاكوب هيس (1866 - 1949) عالم اللغة السويسري المتخصص. نحن نعرف عن هيس أنه المستشرق الذي كتب قصة حياة شاعرنا الفارس الشهير مُوهِق بن عَجاج الغنّامي، ووضع صورة الشاعر على غلاف كتابه، فضمنّا بذلك ألا يغيب وألا يكتسحه النسيان. صورة معبرة للغاية يظهر فيها موهق بملامحه البدوية الخشنة وجدائله الطويلة وسمرة الصحراء التي رسمت ملامحه، ولكن الناس لا يعرفون الكثير عن صاحب الكتاب.

لذلك لعله من المناسب هنا أن نأخذ تصوراً كافياً عن هذا المستشرق الذي تخرج في جامعتي برلين وستراسبورغ مختصاً بعلم المصريّات والآشوريّات واللغات الساميّة، وعلم الصينيّات، وحصل على درجة الدكتوراه بين عامي 1889 و1891، ثم عمل معلّماً خاصاً، ودرّس علم المصريّات والآشوريّات بين عامي 1891 و1908 في جامعة فرايبورغ السويسرية. هذا ما منحه فرصة السفر إلى مصر والنوبة لمدة 4 سنوات ليستقر في القاهرة أثناء قيامه بوظائف في هيئة المساحة البريطانية بالمكتب البريطاني في مصر. في هذه الفترة التقى هيس بشاعرنا موهق الغنامي وابتدأت بينهما صداقة إنسانية عظيمة.

ثم عاد الأستاذ إلى سويسرا عام 1918، ليعمل في معهد الاستشراق؛ حيث ترقى إلى مرتبة أستاذ فخري عام 1936، وهو في عمر يناهز 70 عاماً. تزوج هيس مرتين وتوفي في زيورخ 29 أبريل 1949، عن عمر يناهز 83 عاماً.

إذا كان هيس قد غادر مصر في 1918 فهذا يعطينا نوعاً من التحديد لزمن ذلك اللقاء، لكن ماذا كان الشاعر يفعل في مصر خلال هذه الفترة، في نهاية الحرب العالمية الأولى؟ هذا ما يحيّر كثيرين إلى هذه اللحظة. فقد عاش الشاعر موهق الغنامي معظم حياته في مصر يكتب القصائد العذبة شوقاً لنجد وأهلها من أبناء عمومته ويتساءل شعراً، هل يسألون عنه الحجيج القادمين من مصر، أم أنهم قد نسوه؟ وكيف أنه يشتاق إليهم لدرجة أن يرى وجوههم في الأحلام، ليستيقظ فيجد نفسه وحيداً في دار غريبة، وأن قلبه لرقته تجاههم يهفو إليهم كالطير المنحدر من قمم الجبال. ومما شابه هذا من الصور البديعة واللغة الرقيقة التي لا شك في كونها صادرة عن عاطفة عميقة.

يرجح الرويس أن من ورد ذكره في الرسالة القادمة من سويسرا وأسماه الشاعر «العم محمد» هو محمد العلي الذي يعمل موهق عنده. وفي الرسالة يتحدث الشاعر عن الخواجة والست، وكما هو واضح، يقصد هيس وزوجته، وأن وجوده في سويسرا كان لزيارة صديقه هيس في فترة قيام الأخير بالتدريس في جامعة زيورخ بعد تركه مصر؛ مما يعني أن صداقتهما لم تنتهِ في مصر. وفي الرسالة يصف الشاعر رحلته الشاقة من الإسكندرية بالباخرة، ثم إكمال الرحلة بالقطار ماراً بالنمسا وإيطاليا وصولاً إلى سويسرا.

موهق الغنامي الذي لا نعرف - نحن أبناء عمومته - على وجه اليقين سبب انتقاله إلى مصر في الربع الأول من القرن العشرين، قد هُيئ له هيس لكي يكتب عنه، بل إنه مرجعيته الأولى في كل ما يتعلق بالجزيرة العربية. وسُخر لمؤلفات هيس مستشرق آخر هو البروفيسور مارسيل كوربرشوك الذي خدم هيس وأبرز أهمية إنتاجه، وها نحن نرى الباحث قاسم الرويس وهو يسخر جهده لأعمال مارسيل وحكاية هيس وموهق، من ضمن اهتماماته بالتراث السعودي وحكاياته المهمة.

لقد وثق هيس بموهق مصدراً معرفياً عن عرب الجزيرة، فصار ينقل عنه أجوبة على أسئلته عن عادات عرب الجزيرة وكل ما يتعلق بحياتهم، ونقل عنه أيضاً شيئاً من أخباره الشخصية وقصص فروسيته وبطولته، بل إنه كتب سيرة موهق في كتابه «von den beduinen».

والجديد، الذي نشرته صحيفة «الشرق الأوسط»، معلومة قد لا يعرفها بنو عمومته، ألا وهي أن موهق قد زار سويسرا في تلك الفترة المبكرة. فكل ما نعرفه أنه عاش حياته في مصر ولم يعقب، لا أبناء ولا بنات. هناك من كان يداعب المستشرق مارسيل كوربرشوك بالقول إن مارسيل ربما يكون ابناً لموهق لكثرة ما يطرح من الأسئلة عنه ويتثبت من قصصه، لكن المؤكد أنه لم يعقب وقيل لم يتزوج. ولأنه لم يخلف ذرية يوضحون لنا كيف عاش، فستبقى حياة الشاعر لغزاً بالنسبة لمن يهمّهم أمره.

هناك مَن تَصور أن ثمة أسباباً سياسية وراء سكن الشاعر في مصر، لكن أغلب الباحثين الجادين ينفون العامل السياسي، فقد وفد موهق إلى السعودية في آخر حياته وألقى قصيدة بين يدي الملك فيصل. والدليل الأوضح أنه لا يوجد في شعره ما يدل على أدنى معارضة سياسية، ولا في القصص المحكية عنه. كما أن بعض أشعاره تدل على عدم ابتهاجه بالعيش في القاهرة. إذن ما الذي أبقاه فيها معظم حياته؟ الأغلب على ظني أنه كان يقيم هناك طلباً للرزق لا أكثر. لماذا لم يَعُد بعد رحلة طلب الرزق؟ لا تفسير إلا أنه على الرغم من أبيات الهجاء التي ترد أحياناً في شعره لمصر والمصريين، فقد أحب مصر والمصريين، ويبدو أنه تزوج منهم واختار أن يعيش بينهم. وفي ظني، لا يوجد تفسير آخر.