كيف خَسرَ «حزب الله» المسيحيين؟

TT

كيف خَسرَ «حزب الله» المسيحيين؟

سبعة أشهر على انفجار مرفأ بيروت كانت كفيلة بتهشيم صورة «حزب الله» ونفوذه السابقين بين المسيحيين اللبنانيين. تراجع موقع الحزب بين المسيحيين سبق كارثة المرفأ، بيد أن هذه كانت نقطة تحول في القضاء على آمال «التيار الوطني الحر»، حليف «حزب الله»، في إنقاذ عهد زعيمه رئيس الجمهورية ميشال عون، ما دفع العونيين إلى وضع مسافة بينهم وبين الحزب حفاظاً على حد أدنى من القدرة على تمثيل الشارع المسيحي.
لا ينفصل تدهور موقع الحزب بين المسيحيين عن تراجع حظوته بين سائر اللبنانيين. ظهور أثمان مغامراته خارج الحدود في سوريا واليمن وغيرهما، وارتداد تلك المغامرات عزلة عن العالم العربي وعقوبات غربية، لم تعد من التفاصيل والنوافل في حياة اللبنانيين الذين يرتبط الكثير منهم بصلات مهنية أو اجتماعية بالخارج، ما يجعلهم عرضة للتدقيق الأمني والتشدد في التعامل معهم في أسفارهم أو أعمالهم. بيد أن هذا أقل المشكلات. المقاطعة العربية الصريحة للبنان والحظر المعلن على مجيء المواطنين العرب إليه لأسباب أمنية، إضافة إلى رفض استقبال أكثرية السياسيين اللبنانيين في العواصم العربية حتى التي كانت أبوابها مشرعة في السابق لكل طالبي المساعدة أو النصح، كل ذلك أثر سلباً على الاقتصاد والسياحة. وفاقم من سوء هذا الواقع احتجاز المصارف اللبنانية لودائع عربية كبيرة خارج أي قانون.
من جهة ثانية، أدى تمسك «حزب الله» بعهد ميشال عون والدفاع عنه والحيلولة دون سقوطه في الشارع أثناء تظاهرات انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 إلى نتائج عكسية على الجمهور المسيحي. ذاك أن العديد من المسيحيين الذين تضرروا من الانهيار الاقتصادي في تلك السنة، رأوا في إصرار الحزب على بقاء عون ورئيس تياره، صهره جبران باسيل، في قمة السلطة، عائقاً أمام أي إصلاح اقتصادي وسياسي لا بد منهما إذا كان للأزمة الشاملة التي يعاني لبنان منها أن تنتهي. الحظر على إسقاط ميشال عون أعلنه أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله في خطاب ألقاه بعد يومين من اندلاع التظاهرات، ليرسم بذلك الحدود التي يسمح تنظيمه للمطالب الشعبية بأن تصل إليها. وهي حدود ليست بعيدة وتعكس انفصال الحزب الذي أعلن نصر الله مرات عدة أن تمويله وتسليحه وإمداداته كافة تأتي من إيران.
وكان العونيون الذين تمتعوا في مرحلة سابقة بأعرض تمثيل بين المسيحيين، قد رسموا لوحة وردية للتحالف مع الحزب أوهموا فيها أنفسهم أن التنظيم الشيعي المسلح قادر على ضمان أمن المسيحيين واستعادة حقوقهم التي خسروها في ظل الوصاية السورية التي استمرت بين 1990 و2005. وأقنعوا أنفسهم أن الحزب سيهمش الطائفة السنية التي تعرضت إلى سلسلة انتكاسات بدأت مع فقدان زعيمها رفيق الحريري، وهزائمها في كل المواجهات التي خاضتها بعد ذلك بسبب انعدام كفاءة زعامتها الجديدة وتفتت جمهورها. التسوية الضمنية التي سوّق العونيون لها مع «حزب الله» تقوم على مقايضة السلطة الداخلية التي ستكون محصورة في أيدي عون وأنصاره بالسياسة الخارجية والاندفاع إلى المشاركة في الصراعات التي تعني القيادة الإيرانية، حيث يتولى حسن نصر الله صوغ مصالح لبنان الاستراتيجية على المستويين الإقليمي والدولي كيفما شاء.
انفجار الرابع من أغسطس (آب) الذي تركزت أضراره المادية في المناطق المسيحية، وشكّل المسيحيون الجزء الأكبر من ضحاياه، وضع التبريرات العونية التي أعقبت انتفاضة «17 تشرين» تحت المجهر. فنصر الله ظهر على شاشات التلفزة قبل أن يُنتشل الضحايا ونفى أي علاقة لحزبه بالكارثة الجديدة، من دون أن يقدم تعزية لذوي القتلى أو يبدي الأسف للخسائر التي زادت قيمتها على ملياري دولار (بحسب التقديرات الدولية). كل ما كان يهم الرجل هو إبعاد نفسه وتنظيمه عن المسؤولية التي بدأت أسئلة وشكوك جدية وعميقة تتجه إلى ربطها بالحزب وبمشغليه الإقليميين.
في مظاهرة 8 أغسطس الحاشدة للاحتجاج على انفجار المرفأ وتلكؤ السلطة في علاج ضحاياه، برز مجسم لحسن نصر الله مرفوعا على أعواد المشانق من دون أن يتقدم أحد لإنزاله خلافاً لما جرت عليه العادة في مناسبات سابقة، حيث كان المتظاهرون ينقسمون وتندلع المشادات في صفوفهم عند تعرض نصر الله للشتائم أو للإساءات اللفظية. الحادثة، على هامشيتها، أشارت إلى تبدل في الوسط المسيحي الذي شكل الجسم الوازن في تلك المظاهرة التي ضمت خصوصاً أهالي المناطق المتضررة من الانفجار.
الانفجار والتحقيق فيه أو بالأحرى عرقلته وفرض مسار غير مهني فيه وتوجيهه لتحميل عدد من الموظفين تبعاته من دون العمل على كشف ملابسات وصول تلك الكمية الهائلة من نيترات الأمونيوم إلى لبنان ومن يقف وراءها والسبب في بقائها سبع سنوات في المرفأ وبروز أسماء رجال أعمال سوريين مقربين من نظام بشار الأسد كأصحاب للشركات المتورطة في استقدام النيرات، عوامل حفرت عميقة في الثقة التي كان المسيحيون حتى من أنصار التيار العوني يولونها لـ«حزب الله». وجاء وضع اسم رئيس التيار جبران باسيل على قائمة العقوبات الأميركية، وفق قانون ماغنيتسكي ليعلن أن العلاقة الحميمة مع الحزب باتت مكلفة.
يضاف إلى ذلك أن الأزمة الحكومية التي تبدو كتقاطع بين العجز عن الإصلاح الاقتصادي وإصرار العونيين على القبض على كل مفاصل السلطة، سمحت لهؤلاء بزيادة مطالبتهم «حزب الله» بإعلان دعمه الصريح لهم في مناكفاتهم مع الفرقاء الآخرين. ظهر ذلك في عدد من تصريحات مسؤوليهم التي انطوت على نقد واضح لسياسات الحزب ولنقض تأييده للعونيين في الملف الحكومي و«اتهامه» بالخشية من الانزلاق إلى مواجهة جديدة مع الطائفة السنية.
والحال أن عودة البطريركية المارونية لأداء دور رئيس في اقتراح الحلول سواء بالدعوة إلى الحياد أو بعقد مؤتمر دولي حول لبنان، ما كانت لتحصل لو لم ينكفئ التيار الوطني الحر انكفاء غير مسبوق في مجال تأييد المسيحيين له. لكن التجارب السابقة للعونيين تشير إلى عدم قدرتهم على قراءة التغيرات الجارية بالدقة المطلوبة وإلى أن اضمحلال التأييد المسيحي لـ«حزب الله» لن يمر من دون آثار ملموسة على مسار الكارثة الحالية.



الاقتصاد اليمني في مواجهة انهيارات كارثية وشيكة

طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)
طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)
TT

الاقتصاد اليمني في مواجهة انهيارات كارثية وشيكة

طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)
طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)

يتضاعف خطر انعدام الأمن الغذائي في اليمن بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية، وانهيار سعر العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، بفعل الحرب الحوثية على الموارد الرئيسية للبلاد، وتوسيع دائرة الصراع إلى خارج الحدود، في حين تتزايد الدعوات إلى اللجوء للتنمية المستدامة، والبحث عن حلول من الداخل.

وبينما تتوالي التحذيرات من تعاظم احتياجات السكان إلى المساعدات الإنسانية خلال الأشهر المقبلة، تواجه الحكومة اليمنية تحديات صعبة في إدارة الأمن الغذائي، وتوفير الخدمات للسكان في مناطق سيطرتها، خصوصاً بعد تراجع المساعدات الإغاثية الدولية والأممية خلال الأشهر الماضية، ما زاد من التعقيدات التي تعاني منها بفعل توقف عدد من الموارد التي كانت تعتمد عليها في سد الكثير من الفجوات الغذائية والخدمية.

ورجحت شبكة الإنذار المبكر بالمجاعة حدوث ارتفاع في عدد المحتاجين إلى المساعدات الإنسانية في اليمن في ظل استمرار التدهور الاقتصادي في البلاد، حيث لا تزال العائلات تعاني من التأثيرات طويلة الأجل للصراع المطول، بما في ذلك الظروف الاقتصادية الكلية السيئة للغاية، بينما تستمر بيئة الأعمال في التآكل بسبب نقص العملة في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية، وانخفاض قيمة العملة والتضخم في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة.

وبحسب توقعات الأمن الغذائي خلال الستة أشهر المقبلة، فإنه وبفعل الظروف الاقتصادية السيئة، وانخفاض فرص كسب الدخل المحدودة، ستواجه ملايين العائلات، فجوات مستمرة في استهلاك الغذاء وحالة انعدام الأمن الغذائي الحاد واسعة النطاق على مستوى الأزمة (المرحلة الثالثة من التصنيف المرحلي) أو حالة الطوارئ (المرحلة الرابعة) في مناطق نفوذ الحكومة الشرعية.

انهيار العملة المحلية أسهم مع تراجع المساعدات الإغاثية في تراجع الأمن الغذائي باليمن (البنك الدولي)

يشدد الأكاديمي محمد قحطان، أستاذ الاقتصاد في جامعة تعز، على ضرورة وجود إرادة سياسية حازمة لمواجهة أسباب الانهيار الاقتصادي وتهاوي العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، منوهاً إلى أن عائدات صادرات النفط والغاز كانت تغطي 70 في المائة من الإنفاق العام في الموازنة العامة، وهو ما يؤكد أهميتها في تشغيل مؤسسات الدولة.

ويضيف قحطان في حديث خص به «الشرق الأوسط» أن وقف هذه الصادرات يضع الحكومة في حالة عجز عن الوفاء بالتزاماتها، بالتضافر مع أسباب أخرى منها الفساد والتسيب الوظيفي في أهم المؤسسات الحكومية، وعدم وصول إيرادات مؤسسات الدولة إلى البنك المركزي، والمضاربة بالعملات الأجنبية وتسريبها إلى الخارج، واستيراد مشتقات الوقود بدلاً من تكرير النفط داخلياً.

أدوات الإصلاح

طبقاً لخبراء اقتصاديين، تنذر الإخفاقات في إدارة الموارد السيادية ورفد خزينة الدولة بها، والفشل في إدارة أسعار صرف العملات الأجنبية، بآثار كارثية على سعر العملة المحلية، والتوجه إلى تمويل النفقات الحكومية من مصادر تضخمية مثل الإصدار النقدي.

توقف تصدير النفط يتسبب في عجز الحكومة اليمنية عن تلبية احتياجات السكان (البنك الدولي)

ويلفت الأكاديمي قحطان إلى أن استيراد مشتقات الوقود من الخارج لتغطية حاجة السوق اليمنية من دون مادة الأسفلت يكلف الدولة أكثر من 3.5 مليار دولار في السنة، بينما في حالة تكرير النفط المنتج محلياً سيتم توفير هذا المبلغ لدعم ميزان المدفوعات، وتوفير احتياجات البلاد من الأسفلت لتعبيد الطرقات عوض استيرادها، وأيضاً تحصيل إيرادات مقابل بيع الوقود داخلياً.

وسيتبع ذلك إمكانية إدارة البنك المركزي لتلك المبالغ لدعم العرض النقدي من العملات الأجنبية، ومواجهة الطلب بأريحية تامة دون ضغوط للطلب عليها، ولن يكون بحاجة إلى بيع دولارات لتغطية الرواتب، كما يحدث حالياً، وسيتمكن من سحب فائض السيولة النقدية، ما سيعيد للاقتصاد توازنه، وتتعافى العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية، وهو ما سيسهم في استعادة جزء من القدرة الشرائية المفقودة للسكان.

ودعا الحكومة إلى خفض نفقاتها الداخلية والخارجية ومواجهة الفساد في الأوعية الإيرادية لإحداث تحول سريع من حالة الركود التضخمي إلى حالة الانتعاش الاقتصادي، ومواجهة البيئة الطاردة للاستثمارات ورجال الأعمال اليمنيين، مع الأهمية القصوى لعودة كل منتسبي الدولة للاستقرار داخل البلاد، وأداء مهاهم من مواقعهم.

الحكومة اليمنية تطالب المجتمع الدولي بالضغط على الحوثيين لوقف حصار تصدير النفط (سبأ)

ويؤكد مصدر حكومي يمني لـ«الشرق الأوسط» أن الحكومة باتت تدرك الأخطاء التي تراكمت خلال السنوات الماضية، مثل تسرب الكثير من أموال المساعدات الدولية والودائع السعودية في البنك المركزي إلى قنوات لإنتاج حلول مؤقتة، بدلاً من استثمارها في مشاريع للتنمية المستدامة، إلا أن معالجة تلك الأخطاء لم تعد سهلة حالياً.

الحل بالتنمية المستدامة

وفقاً للمصدر الذي فضل التحفظ على بياناته، لعدم امتلاكه صلاحية الحديث لوسائل الإعلام، فإن النقاشات الحكومية الحالية تبحث في كيفية الحصول على مساعدات خارجية جديدة لتحقيق تنمية مستدامة، بالشراكة وتحت إشراف الجهات الممولة، لضمان نجاح تلك المشروعات.

إلا أنه اعترف بصعوبة حدوث ذلك، وهو ما يدفع الحكومة إلى المطالبة بإلحاح للضغط من أجل تمكينها من الموارد الرئيسية، ومنها تصدير النفط.

واعترف المصدر أيضاً بصعوبة موافقة المجتمع الدولي على الضغط على الجماعة الحوثية لوقف حصارها المفروض على تصدير النفط، نظراً لتعنتها وشروطها صعبة التنفيذ من جهة، وإمكانية تصعيدها العسكري لفرض تلك الشروط في وقت يتوقع فيه حدوث تقدم في مشاورات السلام، من جهة ثانية.

تحذيرات من مآلات قاتمة لتداعيات الصراع الذي افتعلته الجماعة الحوثية في المياه المحيطة باليمن على الاقتصاد (أ.ف.ب)

وقدمت الحكومة اليمنية، أواخر الشهر الماضي، رؤية شاملة إلى البنك الدولي لإعادة هيكلة المشروعات القائمة لتتوافق مع الاحتياجات الراهنة، مطالبةً في الوقت ذاته بزيادة المخصصات المالية المخصصة للبلاد في الدورة الجديدة.

وكان البنك الدولي توقع في تقرير له هذا الشهر، انكماش إجمالي الناتج المحلي بنسبة واحد في المائة هذا العام، بعد انخفاضه بنسبة 2 في المائة العام الماضي، بما يؤدي إلى المزيد من التدهور في نصيب الفرد من إجمالي الناتج الحقيقي.

ويعاني أكثر من 60 في المائة من السكان من ضعف قدرتهم على الحصول على الغذاء الكافي، وفقاً للبنك الدولي، بسبب استمرار الحصار الذي فرضته الجماعة الحوثية على صادرات النفط، ما أدى إلى انخفاض الإيرادات المالية للحكومة بنسبة 42 في المائة خلال النصف الأول من العام الحالي، وترتب على ذلك عجزها عن تقديم الخدمات الأساسية للسكان.

وأبدى البنك قلقه من مآلات قاتمة لتداعيات الصراع الذي افتعلته الجماعة الحوثية في المياه المحيطة باليمن على الاقتصاد، وتفاقم الأزمات الاجتماعية والإنسانية.