بدأت المجر قبل أيام توزيع الجرعات الأولى على مواطنيها من اللقاح الصيني ضد «كوفيد 19» الذي تنتجه شركة «سينوفارم» بعد أن تسلمّت منه نصف مليون جرعة. وفي نفس الوقت تقريباً كانت تحطّ في مطار العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس طائرة تحمل 900 ألف جرعة من نفس اللقاح هبة من الحكومة الصينية، بينما في مطار مانيلا كان الناطق بلسان الرئاسة الفلبينية هاري روكيه يصرّح أمام الصحافيين بعد استقباله الشحنة الأولى من اللقاح الصيني «سينوفاك» بقوله: «لا بد من الاعتراف أننا لو أصررنا على استخدام اللقاحات الغربية، لكنا الآن ما نزال في انتظار وصولها».
هذه عيّنة من «دبلوماسية اللقاحات» التي تمارسها الصين في عصر «كورونا» بعد أن أصبحت المصدر الأساسي الذي تعتمد عليه غالبية الدول النامية التي يتعذّر عليها الحصول على اللقاحات لأسباب لوجستية أو اقتصادية. وقد أبرمت الحكومة الصينية اتفاقات مع 80 دولة في جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا وأوروبا الشرقية لتزويدها باللقاحات ضد الفيروس الذي ظهرت إصاباته الأولى في أراضيها. وأفادت وزارة الخارجية الصينية أن 27 من هذه الدول ستشتري اللقاح، بينما الدول الأخرى ستحصل عليه مجاناً. ويبلغ عدد الجرعات التي اتفقت الصين على توزيعها هذا العام 500 مليون جرعة، منها 10 ملايين جرعة لمنظمة الصحة العالمية عبر آليّة «كوفاكس» التي من المقرر أن توزّع 210 ملايين جرعة على البلدان النامية الفقيرة.
لا شك أن اللقاحات الصينية تساعد بنسبة كبيرة على تلبية الطلب المتزايد على اللقاحات وحاجة البلدان للحصول عليها للخروج من الأزمة الصحية واستئناف أنشطتها الاقتصادية، لكنها تحوّلت أيضاً إلى فرصة ذهبية أمام الصين لتعزيز قدراتها الإنتاجية في قطاع صناعة الأدوية والظهور كقوة عظمى مسؤولة، خاصة بعد الانتقادات الكثيرة التي تعرّضت لها «دبلوماسية الكمامات» خلال موجة الوباء الأولى، بعكس الدول الغربية التي تتنافس منذ أشهر على شراء أكبر كمية ممكنة من اللقاحات، غالباً ما تزيد عن احتياجاتها.
ويعترف مسؤولون في منظمة الصحة العالمية أن الصين بإمكانها استخدام اللقاحات لتتصدّر الجهود الدولية التي تُبذل لتأمين توزيعها العادل على جميع البلدان وردم «الفجوة اللقاحية» التي تفصل اليوم بين الدول النامية والمتطورة. ويقول يازونغ هوانغ، الباحث في مجلس العلاقات الخارجية، إن الصين ستسعى بكل الوسائل لملء الفراغ الذي أحدثه انكفاء الولايات المتحدة عن الزعامة الدولية، ولا شك أن «دبلوماسية اللقاحات» اليوم هي من أهم هذه الوسائل.
ويقول الجنرال شين واي، المسؤول عن تطوير لقاح ضد «كوفيد 19» في مختبرات الجيش الصيني: «منذ ظهور الجائحة تحوّل إنتاج لقاح ضد الفيروس إلى أولوية مطلقة بالنسبة إلينا. والنجاح الذي حققته التجارب السريرية على اللقاحات التي تعود جعائل ملكيتها الفكرية للصين هو ثمرة التقدم الذي بلغناه في مجال العلوم والتكنولوجيا ويجسّد صورة الصين كدولة عظمى مسؤولة». وكان الرئيس الصيني شي جينبينغ قد أكد مراراً من جهته أن اللقاحات التي تطورها وتنتجها بلاده هي ملكية عامة.
وتجدر الإشارة أن الصين التي كانت أولى الدول التي باشرت بتطوير لقاحات ضد فيروس كورونا المستجدّ مطلع العام الماضي، ثم وافقت على الاستخدام الطارئ لأول لقاح مطلع الصيف الفائت، بدأت بتوزيع اللقاحات الأكثر تقدماً على الفئات الأكثر تعرّضاً للوباء بين سكانها مثل أفراد الجيش والأطباء والطواقم الصحية وعمّال النقل. وفي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي أعطت السلطات الصحية الصينية الموافقة العامة الأولى لاستخدام لقاح تنتجه شركة «سينوفارم» بفعالية تبلغ 79 في المائة، تلتها بعد شهر موافقة على استخدام لقاح من إنتاج «سينوفاك» بفعالية 50.6 في المائة. وكان عدد الصينيين الذين تلقّوا اللقاح ضد «كوفيد 19» قد بلغ 22 مليوناً مطلع الشهر الماضي، أي بنسبة 3 في المائة من مجموع السكان.
وفي الأسبوع الماضي أعطت السلطات الصينية الضوء الأخضر للمباشرة باستخدام اللقاح الثاني الذي تنتجه «سينوفارم» بفعالية 72.5 في المائة، ولقاح آخر تنتجه «كانسينو» بالتعاون مع القوات المسلحة الصينية بفعالية 65.8 في المائة. ومع تسريع توزيع اللقاحات في المدن الكبرى، بدأت الصين بإرسال الشحنات الأولى خارج حدودها إلى بلدان مثل كولومبيا والمكسيك وتشيلي وأوروغواي والسنغال ومصر والجزائر وسيراليون وتايلاند وسنغافورة. وتفيد الهيئة الوطنية لصناعة اللقاحات أن الشركات الصينية ستنتج هذا العام ما مجموعه ملياري جرعة لقاح وضعف هذه الكمية في العام المقبل.
ويقول الخبراء إن اللقاحات الصينية التي يتّم إنتاجها باستخدام تقنية الفيروس المعطَّل، باستثناء اللقاح الذي تنتجه «كانسينو»، هي الأنسب لاحتياجات الدول النامية، إذ يمكن حفظها في ثلاجات عادية، وبعضها تكفي منه جرعة واحدة. يضاف إلى ذلك أن الاتفاقات الموقعة بين الحكومة الصينية وبلدان أخرى، مثل الإمارات العربية والمتحدة وإندونيسيا، تسمح لهذه البلدان بإنتاج اللقاحات، ما يتيح لها تلبية الطلب المتزايد في البلدان المحيطة بها. لكن الصين تنفي وجود أي أهداف جيوسياسية في استراتيجيتها اللقاحية، وتقول وكالة الأنباء الصينية في إحدى افتتاحياتها: «الصين لن تستخدم اللقاح ضد (كوفيد 19) كسلاح سياسي أو أداة دبلوماسية، وترفض استخدام اللقاحات لأغراض سياسية».
ومن جهتها، تقول صحيفة الحزب الشيوعي الصيني: «إن الصين تحاول حل مشكلة توفير اللقاحات أمام غياب العالم الغربي». وكان الرئيس السنغالي ماكي سال قد اشتكى منذ أيام من عدم توفّر اللقاحات عبر آلية «كوفاكس» ليشرح لجوء بلاده إلى تناول اللقاحات الصينية، كما فعل عدد من المسؤولين في بلدان أخرى. ومن جهته، ناشد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الدول الغربية تقديم مزيد من اللقاحات إلى الدول النامية عبر «كوفاكس»، مشيراً إلى أن الوضع الراهن سيزيد الفجوة بين الدول النامية والمتطورة، ويفتح الباب على حرب نفوذ، بدأت تستغلّها الصين وروسيا.
وبالإضافة إلى المردود الاقتصادي العالي الذي تحققه اللقاحات، تسعى الصين إلى تعزيز قطاع صناعة الأدوية الذي ما زال أقل تطوراً من خصومها الاستراتيجيين مثل الهند التي بادرت من جهتها إلى عرض لقاحاتها على الدول التي تحاول الصين تعزيز نفوذها فيها مثل سريلانكا وميانمار وكمبوديا.
الصين تطلق «دبلوماسية اللقاحات» في عصر «كورونا»
الصين تطلق «دبلوماسية اللقاحات» في عصر «كورونا»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة