في اكتشاف الكتابات غير المنشورة للمبدعين

هوس إيطالي يعم كل أوروبا

مونتالي  - روبرت موزيل
مونتالي - روبرت موزيل
TT

في اكتشاف الكتابات غير المنشورة للمبدعين

مونتالي  - روبرت موزيل
مونتالي - روبرت موزيل

بدأت حكاية اكتشاف الكتابات والأشعار غير المنشورة للشعراء والمبدعين في إيطاليا من خلال مفاجأة أحدثتها في الوسط الإيطالي آنا ليزا جيما التي ادعت أنها تمتلك تسجيلات تحمل قصائد للشاعر الإيطالي أوجينيو مونتالي (1866-1981)، الحائز سنة 1975 على جائزة نوبل للآداب، وكان في الثمانين من عمره.
وكانت هذه السيدة الجميلة تدخل بيت الشاعر في أحد شوارع مدينة ميلانو -كما تقول- وتفتح جهاز تسجيل صغير تخفيه في حقيبتها، ومن ثم تشرع في الحديث عن الشعر والحب وأمور الفن والثقافة وذكريات الطفولة، وغالباً ما كان الشريط ينتهي، لكن الحديث يظل مستمراً لساعات بينها وبين شاعر إيطاليا الكبير مونتالي. ونشرت آنا ليزا جيما أخيراً كتاباً يحمل أكثر من ستين قصيدة غير منشورة لمونتالي، وقصاصات ورقية بخط الشاعر كان يكتبها لها، إلى جانب كثير من آرائه بالشعر والشعراء.
هذه السيدة البرجوازية التي تمتلك مواهب متعددة في الرسم والشعر والموسيقى كانت قد ارتبطت بعلاقة مع الشاعر عندما كانت في العشرينيات من عمرها، حين كتب مقدمة ديوانها الشعري الأول «العالم الثالث». تقول: «قال لي مونتالي بعد صدور ديواني، لقد قرأت قصائدك ولم تدعني أخلد للنوم. كان يلح عليّ بالحديث معه باسمه الأول، ولكني استمررت أخاطبه بـ(حضرتكم)، وأعتقد أن مخاطبته بـ(حضرتكم) كانت تريحه كثيراً، فقد كان يحب أن يضع مسافة بينه وبين الآخرين».
هذا الكشف عن ذخيرة شعرية جديدة للشاعر مونتالي باغت الوسط الأدبي ودور النشر الإيطالية والأوروبية. وقاد الأمر إلى اهتمام يشبه الهوس بظاهرة الكشف عن الكتابات غير المنشورة لكثير من الأدباء والشعراء في إيطاليا وعدد كبير من دول أوروبا. وأبرز مثال البحث عن الكتابات المخفية للروائية الشاعرة الإيطالية إلزا مورانتي (1912-1985»، وعن أوراق سرية ومذكرات للكاتب الإيطالي إيتالو كالفيني (1923-1985» الذي كانت صحيفة «لاريبوبليكا» (الجمهورية) قد نشرت عدداً من قصص قصيرة له لم تنشر من قبل، وكانت بحوزة أصدقاء الروائي. ونشرت أيضاً فصولاً جديدة لرواية «بيترول»، للكاتب السينمائي الشاعر بيير باولو بازوليني (1922-1975» قبل سنوات، بعد أن وجدت بحوزة أحد أعضاء مجلس الشيوخ الإيطالي، السيناتور مارشيلو ديلا أوتري، الذي حكم عليه القضاء الإيطالي بعشر سنوات بتهمه ارتباطه بالمافيا، وأفرج عنه قبل انتهاء محكوميته لأسباب تتعلق بوضعه الصحي. وما زالت الصحافة الإيطالية تطلق عليه تسمية «أب الفضائح الأخلاقية»، فقد ادعى أن أحدهم اتصل به وعرض عليه بيع الفصل الأخير من رواية بازوليني التي لم يتسن له إكمالها، وادعى أنه اشتراها من عصابات المافيا، كما وجدت عشرات المقالات والقصائد للشاعر نفسه، وبعض الرسائل، التي صدرت بكتب مستقلة.
وأمام هذه السيل من «تكاثر» المقاطع غير المنشورة، فإن بين المعنيين بهذا الحقل من يتهم وهناك من يدافع، وهناك من يفضل الصمت، إلا أن أرملة الكاتب إيتالو كالفينو أعلنت «أن القضية حين تتعلق برسائل شخصية، فعليها أن تتفحصها بدقة قبل إعطاء حكم عليها»، وأضافت أن «ما يحدث ليس إلا اصطياد جنوني من أجل الكشف عن رسائل لربما لم تكن موجودة... سأقف بإصرار بالضد من أي شيء ينشر إذا لم يكن كالفينو نفسه قد رغب في نشر ذلك».
أما آنا ليزا جيما التي رحلت قبل أيام قليلة، فكانت قد قالت: «لربما لم أتجرأ مطلقاً على نشر هذه القصائد، لولا أن الشاعر مونتالي نفسه قد طالبني بأن أقوم بذلك بعد سنوات من وفاته لأنه كان يفكر بأنه سوف يكون من المؤلم أن أقوم بالعمل مباشرة بعد وفاته». وهذا التبرير لا يقنع الناقد الإيطالي الشهير دومينيكو بورتزيو الذي يقول: «أهلاً بالشابات الحسناوات اللواتي يسمحن للشعراء الكبار بالتعبير حتى آخر لحظة، ألم يكن الأحرى بالسيدة، من دون أو مع تخويل الشاعر، أن تقدم هذه القصائد إلى ناشر أو ناقد متخصص بشعر مونتالي... إن السيدة ترغب في الظهور كأنها إلهام الشعر، والحورية الشخصية للشاعر الكبير مونتالي».
وكان قبل ذلك قد كشف النقاب عن وجود كتابات صحافية على هيئة عمل روائي للكاتب الأميركي إرنست همنغواي، تحمل عنوان «الصيف الخطر»، وهي بمثابة ريبورتاجات حول عالم «الكوريدا» أو مصارعة الثيران. وقد حققها الكاتب لمجلة أميركية مرموقة، ونشرت ثلاث حلقات منها، وبعد سنوات نشرت كاملة. ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل إن بعض دور النشر ادعت أنه توجد كتابات أخرى لهمنغواي سوف يعلن عنها، وبالفعل صدرت بعد سنوات في كتاب.
وحدث الأمر نفسه مع الكاتب الفرنسي أندريه جيد، والشاعر الإيطالي تشيزره بافيزي. إن رسائل المشاهير هي من دون شك أرض ملغومة، ذلك لأن الملكية المادية لرسالة ما لا تستجيب من الناحية القانونية للملكية الأدبية التي هي دوماً تبقى لمن يكتب، وبعد موته لمن يرثه. إلا أنه توجد استثناءات في هذا المجال، فالأوراق السرية الثمينة التي كانت تمتلئ بها حجرات الروائي فرانس كافكا (1883- 1924» كان يمكن للعالم أن يحرم منها بافتراض تلبية ماكس برود لرغبة صديقه كافكا البوهيمية في حرق كل أعماله بعد وفاته، وعندها كنا سنخسر «المحاكمة» و«القصر» و«أميركا»، تلك الأعمال التي نشرت بعد وفاة كافكا عام 1927. وهذا هو ربما الفصل الأكثر مخاطرة في حكاية الكتابات غير المنشورة الذي باستطاعته أن يقنع كثيراً من الصامتين بحب الظهور، وهو الاتهام الموجه في أغلب الأحيان، لكن السؤال بشكل عام هو: هل يشكل ذلك خدمة للثقافة حقاً أم أنه خدمة يقوم بها المكتشف لنفسه لأجل إعلاء شأنه؟
على العموم، فإن التغيرات والتعديلات تبدو أشياء لا يمكن تحاشيها من قبل أي كاتب يترك خلفه أوراقاً غير مكتملة، وواحد فقط عرف كيف يفلت من ذلك، وهو الكاتب النمساوي روبرت موزيل (1880-1942) الذي أنهى حسابه بشكل شخصي حين قال: «لقد قررت نشر أعمالي شخصياً قبل أن يفوت الأوان لأني أستطيع شخصياً معالجتها». وهذا ما كتبه في المقدمة لأعماله: «أوراق تنشر بعد الموت نشرت في الحياة، وأوراق ما بعد الموت تنشر في الحياة».



مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.