إشكالية التجنيس بين الرواية والشعر والملحمة

«لبابة السر» لشوقي كريم نموذجاً

اللوح الأول من ملحمة جلجامش
اللوح الأول من ملحمة جلجامش
TT

إشكالية التجنيس بين الرواية والشعر والملحمة

اللوح الأول من ملحمة جلجامش
اللوح الأول من ملحمة جلجامش

تثير رواية «لبابة السر» للروائي شوقي كريم (2020) مجموعة من الإشكاليات منها: إشكالية تجنيس الرواية. فالرواية تهبط إلى القاع التاريخي لحضارة وادي الرافدين، وبشكل خاص في بابل وسومر، وتعيد بناء فضاء تأريخي تخييلي وافتراضي تتحرك فيه شخصيات الرواية، عبر تعالق خفي بين الماضي والحاضر، حتى لتتحول الرواية إلى مرموزة أليغورية تتخذ من التاريخ حاضنة لها، للتعبير عن سيرورة نسغ الاستبداد الممتد منذ أولى الحضارات وصولاً إلى العصر الحاضر، للوصول إلى «سر الأسرار» أو ما سماه المؤلف في عنوان الرواية «لبابة السر» في ملاحقة لتناسل أنماط الاستبداد والهيمنة والتحكم بمصائر الفرد العراقي عبر التاريخ.
تتخذ الرواية من بنية الميتاسرد إطاراً سردياً لها من خلال قصدية عملية التدوين على الرقم الطينية التي يقوم بها المدون أو «الرقّام» شوقياً، وهو اسم المؤلف الأول «شوقي» مكيفاً مع الأسماء التاريخية ليتنزل منزلة الآلهة، حتى ليذكرنا ببروميثيوس الذي سرق أسرار النار والمعرفة وسلمهما إلى الإنسان، أو بشخصية رسول الآلهة ومؤول خطاباتها (هرمس)، وربما ببطل رواية «أوراق معبد الكتبا» للروائي الأردني هاشم غرايبة المسمى «سفيان الثمودي»، رئيس النساخين في مملكة الأنباط في بترا.
كما أن الرواية عبارة عن متن مدون على رقم طينية كان يكتبها بانتظام الرقام (شوقياً) منذ نعومة أظفاره عندما كان حدثاً، إلى أن شبّ ونضج وراح يكتشف الحقائق والأسرار من خلال سلسلة الأسئلة التي كانت تحاصره، إلى أن حدث التحول الحاسم في شخصيته، وانكشفت له الرؤيا، بعد أن كان مجرد حدث تكنوقراط في مكاتب المعابد مطيع، ومنفذ لأوامر وتوجيهات الكهنة والآلهة كنموذج امتثالي إلى شاب ناضج متمرد رافض لكل هذا الإرث الكريه الذي أتاح حق الهيمنة على البشر واستغلالهم، وهو حق مزور وغير مشروع، ذلك أن البشر ليسوا بحاجة أصلاً إلى سلطة الكهنة، في ثورة فكرية وفلسفية رافضة لكل أشكال الميتافيزيقيا.
إن هذه النقلة في وعي البطل جعلت منه شخصية نامية ومتطورة. وقد أدى هذا الموقف المتمرد الرافض إلى تعريض المدون أو الرقّام (شوقياً) إلى صنوف من التعذيب والاستجواب، لكنه ظل حتى النهاية يحلم بغد أجمل لأرض السواد التي كانت دائماً عامرةً بالرجاء، وهذا ما اختتم به المدون كلمات الرواية الختامية:
«أنا شوقياً/ البابلي المنشأ... أدوّن ما يمكن تدوينه، لكني أبداً، أبداً أظل مشدوداً إلى فكرة قالها حلمٌ قد مضى:
- يا، لأرض السواد: كم أنت عامرة بالرجاء». (ص 46)
وربما، لأن الروائي اختار التاريخ الرافديني البابلي والسومري تحديداً، في زمن التدوين على الرقم الطينية فقد وجد نفسه قريباً من نمط الكتابة في ذلك العصر، وبشكل أخص الشكل الملحمي، واللغة التأملية والتضرعية، فجاءت الرواية تحاكي البنية الملحمية، تحديداً في «ملحمة جلجامش»، حيث نجد تناصات كثيرة بين النصين، فضلاً عن استثمار لغة التراتيل والتضرعات والطقوس الدينية في المعابد البابلية والسومرية. إلا أن رواية «لبابة السر» لا تخرج عن إطار تجنيسها رواية «فنية حداثية» تأخذ من الأسلوب الملحمي ولغته، دون أن تصبح جزءاً منه. ففي الصفحات الأخيرة من الرواية نجد تراتيل تمجد البطل، بأسلوب ملحمة جلجامش «هو الذي جاء ليعرف سر الخلود، فغني باسمه يا بابل... هو الذي رأى كل ما يؤذي النفوس». (ص438)
في مغامرة بطل الرواية (شوقياً) للكشف عن «لبابة السر» ولبابة المعرفة، يتخلى عن منظوره العرفاني، الميتافيزيقي الذي فرضته الآلهة على الناس، وينتقل إلى منظور برهاني متمرد ورافض لسلطتها على البشر، من خلال الدعوة لتحرير البشر وعقولهم من أي سلطة من سلطات الاستبداد والهيمنة. وتتحقق هذه النقلة الفكرية الجذرية عبر طرح سلسلة من الأسئلة الفلسفية والوجودية عن معنى الوجود الإنساني، حيث تظل لازمة البطل المتكررة «أريد أن أعرف معنى وجودي» لازمة متكررة في كثير من حوارات البطل وتأملاته ومدوناته. كما يقذف البطل بأسئلة محرقة بوجه معلمه الذي يدعوه إلى امتلاك ناصية المعنى:
«لن يكون لخطوتك وقعٌ في صحراء المعرفة إن لم تكن مصحوبة بالمعنى». (ص 2)
«يعني ماذا معلمي... وأنا جالسٌ دونما معنى؟
معنى نفسك، معناها!». (ص 29)
وهكذا يجد البطل الشاب، الباحث عن المعرفة، نفسه وجهاً لوجه أمام المقولة السقاطية «اعرف نفسك». ولم تكن عملية الوصول إلى حافة الرؤيا سهلة، فقد مر البطل بصيرورة وعي جديدة ومعاناة ومكابدة فكرية وصوفية عميقة. إذْ جاءته لحظة الكشف والرؤيا بعد تكريس خاص بمباركة «ديموزي» و«عشتار» و«سين»:
«من أين أتتك الرؤيا يا فتى؟
- لا أدري معلمي، لكنني رأيت!». (ص 24)
ويمكن القول إن رواية «لبابة السر» تنفرد عن روايات المؤلف الأخرى وربما عن المتن الأكبر من الروايات العراقية، بانشغالها بهذا الهم الفلسفي، ما يمنحها خصوصيةً وتفرداً في هذا المجال. لكننا نأخذ على الرواية افتقادها إلى حبكة مركزية نامية ومتصاعدة، وبناءها على محور فكري وذهني وفلسفي حواري، دون وجود فعل أو حركة داخلية، وربما تحاوري من خلال إقامة سلسلة من الحوارات الثنائية بين بطل الرواية (شوقياً) مع شخصيات ثانوية منها معلمه، تذكرنا إلى حد كبير بمحاورات سقراط مع تلامذته في «جمهورية أفلاطون». ولذا فقد ظلت الحبكة ساكنة زمنياً ومكانياً إلى حد كبير، ولم نجد إلا زحزحة جزئية، وربما مكانية في تضاريس الحبكة.
كما أن الرواية، من الجهة الأخرى ظلت تزاوج بين لغة السرد ولغة الشعر الملحمي. فعلى مستوى السرد، يمكن أن نعد الرواية بوصفها مدونة كتابية سردية تضم أحد عشر رقيماً، وهو عدد الألواح التي تتكون منها «ملحمة جلجامش»، لكننا نكتشف رقماً أخرى تحمل أرقاماً أعلى موزعة عشوائياً داخل الرواية مثل الرقيم الرابع عشر. وفضلاً عن ذلك لا يمكن أن نتجاهل وجود عدد من العتبات النصية منها «توضيح المقصد» الذي يقصد منه الإيهام أو للتمويه على القارئ والإيحاء بأن النص الروائي لا يمت بصلة إلى الحاضر وشخصياته.
ومن هنا يمكننا الجزم بأن رواية «لبابة السر» هي رواية عن الحاضر العراقي، بقدر ما هي رواية عن الماضي، تحديداً عن الواقع العراقي الرافديني في عصور آشور وبابل وأوروك ونفر، والوركاء، وهي تهدف إلى الكشف عن جوهر أو «جرثومة» الاستبداد التي تناسلت وتواصلت عبر تاريخ العراق الطويل والمتمثلة في سلطة الآلهة والأرباب والكهنة على مقدرات الناس. وخلال ذلك تعلو صرخة بطل الرواية (شوقياً) لرفض هذه السلطة، لأن الناس ليسوا بحاجة إليها لتقرير مصيرهم، وإدارة شؤونهم بحرية، بعيداً عن أي تدخل عرفاني أو ميتافيزيقي، كأن المؤلف يطرح ميثاقاً جديداً للفصل بين سلطة الكهانة الميتافيزيقية وسلطة السياسة الزمانية، التي هي برهانية في جوهرها.
وفي هذه المدونة نرى هيمنة بنية السرد الروائي، المبأر، في الغالب من خلال السرد المدون على الرقم الطينية الذي دوّنه بطل الرواية شوقياً، الذي يتحدث فيه أحياناً بضمير المتكلم الأوتوبيوغرافي (أنا):
«كنت أبصر الأكباد تطير بتثاقل». (ص 13)
وقد يعمد المؤلف إلى توظيف ضمير الغيبة (هو) للحديث عن شخصية البطل بوصفه ذلك الفتى الذي يحترق بالسؤال، وهو توظيف فني مبأر يعبر عن «أنا الراوي الغائب» بتعبير تودوروف: «ولكن ليس ثمة من يسمع همس فتى يحترق بالسؤال، فتى كان ذات يوم صبي معلم يكتب حكايات الأزمنة الغابرة».
كما وجدنا مواضع كثيرة يهيمن فيها سرد الراوي العليم، غير المبأر، لكنها لم تؤثر على مركزية السرد المبأر للراوي المركزي بطل الرواية (شوقياً).
وإلى جانب هذه البنية السردية، نجد حضوراً قوياً لبنية الشعر، وبشكل خاص الشعر الملحمي، في صياغات فيها الشيء الكثير من الشعرية والخيال والأساليب البلاغية، ومنها الاستعارة والتشبيه والصورة والانزياح وما إلى ذلك. وإذا كانت بعض هذه المقاطع الشعرية تقيم تناصات واضحة، أسلوبياً ورؤيوياً، مع الشعر الرافديني، وبشكل خاص مع شعر ملحمة جلجامش و«نشيد الإنشاد»، فإن ثمة مستويات أخرى للخطاب الشعري تبرز في ثنايا الرواية تنطوي على مقاطع لقصيدة النثر، وأحياناً لشعر التفعيلة، فضلاً عن وجود أناشيد وأغانٍ متنوعة.
رواية شوقي كريم هذه مغامرة في الكتابة السردية حاولت أن تصنع شكلاً سردياً خاصاً بها، تزاوج فيه بين البنية السردية والبنية الشعرية، وبنية الملحمة الرافدينية، وتقيم في الوقت ذاته تعالقاً بين الحاضر والماضي، في لعبة سردية ماكرة، توهم القارئ، وتدفعه إلى التأمل والمراجعة لاكتشاف لعبة الإيهام هذه. ولذا فالرواية بحاجة إلى قارئ من نوع خاص يمتلك معرفة بتاريخ الحضارات العراقية القديمة، فضلاً عن تاريخ العراق السياسي وتناسل أشكال الاستبداد والقمع والعنف فيه. كما يتعين على هذا القارئ أن يدرك الفواصل الفنية بين الأجناس الأدبية وحدود تداخلها ويضع ذلك كله نصب عينيه، وهو يفك بصعوبة أسرار هذه اللعبة السردية مثلما حاول الروائي ذاته أن يفك الأسرار أو «لبابة السر» في محنة الوجع العراقي المتواصل عبر التاريخ.



«مُستعد للرحيل»... سردية تشكيلية عن الهجرة ونوستالجيا القاهرة

ثيمات مسرحية وأغراض متنوعة في العمل التركيبي (الشرق الأوسط)
ثيمات مسرحية وأغراض متنوعة في العمل التركيبي (الشرق الأوسط)
TT

«مُستعد للرحيل»... سردية تشكيلية عن الهجرة ونوستالجيا القاهرة

ثيمات مسرحية وأغراض متنوعة في العمل التركيبي (الشرق الأوسط)
ثيمات مسرحية وأغراض متنوعة في العمل التركيبي (الشرق الأوسط)

تستقبل زائر معهد جوته الألماني بالقاهرة سيارة حمراء قديمة، فوق سقفها أغراض ومتعلقات شخصية متراصة بصورة تدعوك للتوقف وتأملها في محاولة لاستكشاف مغزى ما يطرحه الفنان المصري - الألماني سامح الطويل، بهذا التكوين في معرضه «مُستعد للرحيل»، الذي يستمر حتى 12 ديسمبر (كانون الأول) المقبل.

تبدو السيارة القديمة كما يشي عنوان المعرض مُتأهبة للرحيل والمغادرة، لتكون بما يعلوها من أغراض تشبه المنحوتة أو أعمال التشكيل في الفراغ، ليصنع الفنان حالة تتقاطع مع تجربته الشخصية وانفعالاته بقرار الهجرة الذي اتخذه منذ سنوات، وكأن المشروع الفني ينطلق من سؤال: «ما الذي أريد أن أصطحبه معي من وطني وأنا أرحل بعيداً عنه؟»

يشير فنان الوسائط المتعددة سامح الطويل إلى السيارة التي تم اختيارها بموديل شركة نصر «128» التي تعد أكثر سيارة شعبية في تاريخ مصر، ويقول إنها تُعادل سنوات عمره، فهي تنتمي لفترة السبعينات التي وُلد فيها، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «السيارة تُعادل الانتقال الذي قمت به، والأغراض التي أحملها معي تُمثل هُويتي وتاريخي الشخصي الذي أريد أن أحمله معي وأنا أنتقل إلى بلد جديد بثقافة جديدة مُغايرة تماماً لما تربيت عليه».

مفردات شعبية وأغراض قديمة في العمل التركيبي «مستعد للرحيل» (الشرق الأوسط)

تبدو التفاصيل التي تحملها السيارة مُنتزعة من سياقات شخصية متعددة، بداية من أصابع البيانو، إلى قطعة خشب الأرابيسك، وهناك قماش الخيامية الشهير الذي يقول الفنان إنه «في مفارقة لافتة يُستخدم في مصر خلال مناسبات الفرح والعزاء على السواء، بالإضافة إلى استخدام مصابيح الإضاءة، في عملي التركيبي لتكسبه انفعالات لونية متباينة»، كما يشير إلى كرسي خشبي يرتبط عادة بالمقاهي الشعبية في مصر تحمله السيارة على سطحها، ويقول: «أردت لو أنني أصطحب معي القهوة البلدي التي لا يشبهها شيء، كما اصطحبت معي تفاصيل شرقية كالتي ارتبطت بها منذ سنوات طفولتي في منطقة الإمام الشافعي»، وصولاً إلى استخدام مُكبرات صوت، تبدو وكأنها تبعث نداءات المؤذنين، أو ربما الصوت الخاص للفنان الذي يحمله معه أينما ارتحل.

وتنتشر مفردات الطفولة في تفاصيل عديدة في العرض، منها الدُمى القطنية، وحتى لعبة «الديناصور» التي تحوّلت إلى أيقونة فنية يوظفها الفنان المصري الألماني في أعماله، ومن اللافت أيضاً استخدامه أقنعة مُجردة تستعيد روح المسرح، وكذلك «مانيكان» بشري مُفكك أعلى سطح السيارة، الذي يقول إنه «كان يريد توظيفه بوصفه عنصراً بشرياً في العمل التركيبي»، فيما تظل دلالة كل عنصر في العمل متروكة للمتلقي الذي يمكنه تفسير العمل بوصفه تجربة سفر أو هجرة أو حتى انتقال للعالم الآخر: «رغم ذاتية الفكرة فإنها تظل لها تأويلاتها الخاصة عند كل متلقٍ، فبمجرد أن انتهيت منه صار مفتوحاً للتلقي الفني الخاص بكل متفرج على حدة». هكذا يقول الفنان الذي حصل على دبلوم عالٍ من أكاديمية الفنون الجميلة فى ميونيخ بألمانيا، وتابع دراسات الماجستير الحرة فى تاريخ فنون الوسائط في جامعة الدانوب كرمس في النمسا.

وسائط جديدة في معرض «مستعد للرحيل» (الشرق الأوسط)

ويضفي عرض العمل التركيبي «مستعد للرحيل» داخل الساحة المفتوحة لمعهد جوته (وسط القاهرة) ملامح عرض مسرحية على العمل الذي يتحاور مع المحيط المفتوح من عمارات قديمة تحيط بالمعهد الألماني العريق، لتبدو السيارة بوصفها جزءاً من هذا السياق الثقافي المُتسع.

ويبحث الفنان عن طرق متعددة للتعبير عن فلسفته الفنية عبر وسائط مختلفة، منها النحت والرسم والتصوير والقوالب الفنية التجريبية، وكذلك تقنيات الفيديو، ومنها مشروعه الذي يتم عرضه بعنوان «باتجاه عقارب الساعة» الذي يطرح من خلاله أفكاراً حول الوجود والموت والحياة بوصفها دائرة غامضة متصلة، دون أن يستخدم حواراً منطوقاً في فيلمه القصير، فيما يعتمد على لغة الجسد ودراما أشخاص الفيلم الذين يجسدون مرادفات أخرى لثيمة الرحيل.