مر نحو شهر منذ دبر قائد عسكري رفيع في ميانمار، الجنرال مين أونغ هليانغ (64 سنة) ثالث انقلاب عسكري في تاريخ البلاد. وخلال الأيام الـ30 الماضية، احتشد عشرات الآلاف من المتظاهرين في العديد من المناسبات عبر أرجاء ميانمار للتعبير عن رفضهم للانقلاب، رغم التهديدات الخطيرة التي يواجهونها من جانب العصبة العسكرية الحاكمة التي أظهرت استعدادها لاستخدام القوة لسحق ما وصفته بـ«الفوضى». إضافة إلى ذلك، فإنه منذ ذلك الحين انطلقت حملة عصيان مدني تسببت في خنق الكثير من العمليات الحكومية، بجانب عمل مؤسسات تجارية وبنوك. وفي الأسبوع الماضي، أصدر المجلس العسكري أخطر إشاراته حتى الآن حول أن صبره أوشك على النفاد. وفي تلك الأثناء، طرد «فيسبوك» خدمة «الأخبار الصحيحة» التي أطلقها المجلس العسكري في ميانمار، من على منصته.
دعا الجنرال مين أونغ هليانغ، في كلمة متلفزة وجهها إلى الأمة، الجماهير بإعطاء الأولوية للحقائق، وليس المشاعر، وكرر ادعاءه بأن ثمة انحرافات شابت انتخابات «نوفمبر (تشرين الثاني)، دون أن يقدم دليلاً يدعم هذا الادعاء. وفي الوقت ذاته، ندد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بما وصفه بـ«القوة الوحشية» التي جرى استخدامها خلف انقلاب ميانمار، وحث المؤسسة العسكرية على الوقف الفوري لأعمال القمع وإطلاق سراح السجناء. وفي خطابه المعتاد أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ذكر غوتيريش دولة واحدة بالاسم: ميانمار.
هليانغ يشغل أعلى منصب في المؤسسة العسكرية في ميانمار، ومع لا يحظى بالشهرة الدولية التي تتمتع بها أونغ سان سو تشي، غريمته السياسية الحائزة جائزة نوبل للسلام - التي أسقط هليانغ حكومتها - يعي العالم أنه صاحب السيطرة الفعلية، وهو من قاد الحملة القاسية ضد أقلية الروهينغا المسلمة.
- البداية والنشأة
ولد مينغ أون هليانغ في أسرة غير عسكرية، ودرس القانون والتحق بأكاديمية ميانمار للخدمات الدفاعية عام 1974 في ثالث محاولة له. واستطاع أن يشق طريقه ويترقى عبر صفوف الجيش.
أمضى هليانغ جزءاً كبيراً من حياته العسكرية ضابطاً هادئاً يكره الأضواء، وواصل صعوده حتى استولى على السلطة المطلقة في البلاد يوم 1 فبراير (شباط)، أي قبل تقاعده الإجباري عند بلوغه سن الـ65 في الثالث من يوليو (تموز) بخمسة أشهر. وتبعاً لتقرير نشرته «ستريتس تايمز» الصادرة في سنغافورة، استفاد من رعاية القائد السابق للجيش التايلندي الجنرال بريم تينسولانوندا - الذي كان على معرفة بوالده - له، وقد ربطت الاثنين «علاقة بين أب روحي وابن روحي». ويقال إنه خلال زيارة إلى تايلند عام 2012، طلب هليانغ (58 سنة في حينه)، من الجنرال بريم، الذي يعد رمزاً للنخبة الملكية - العسكرية الحاكمة في تايلند، أن يتبناه ويتخذه ابناً له. ووافق الجنرال التايلندي البالغ 95 سنة، والذي لم ينجب، عن طيب خاطر على هذا الطلب.
من جهة ثانية، لم يحظ هليانغ طوال حياته المهنية العسكرية بالكثير من الأوسمة العسكرية، وأمضى الجزء الأكبر من مسيرته في الجيش في قتال المتمردين على الحدود الشرقية لميانمار في صراعات اشتهرت بوقوع انتهاكات بحق الأقليات العرقية خلالها.
- بدايات التألق
عام 2009، أشرف هليانغ على عمليات عسكرية على امتداد الحدود بين ميانمار والصين وذلك للتخلص من رجل قوي بالمنطقة يدعى بينغ جياشينغ. واستغرقت تلك العملية أسبوعاً واحداً فقط، لكنها تركت تأثيراً كبيراً، ذلك أنها شكلت خرقاً لوقف إطلاق نار استمر 20 سنة، ودفعت 30.000 لاجئ للفرار نحو الصين، وقضت على وجود جماعة عرقية مسلحة في منطقة حدودية من المنتظر أن تصبح طريقاً تجارية محورية.
كذلك أدى نجاحه هذا في إبهار الجنرال تهان شوي الذي تنحى وعيّن هليانغ مكانه لمنصب القائد الأعلى الجديد. عام 2011، وهكذا تولى مهمة إدارة شؤون المؤسسة العسكرية مع بدء المرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية. وحسب دبلوماسيين في العاصمة يانغون، فإنه مع بداية الفترة الأولى في عهد سو تشي عام 2016، نجح هليانغ في التحول من جندي قليل الكلام إلى سياسي وشخصية عامة.
وأشار دبلوماسي هندي رفيع المستوى عمل في ميانمار خلال تلك الفترة، إلى أنه في عام 2016 أصبح هليانغ أول قائد للقوات المسلحة منذ عقود يشارك في احتفالات يوم الشهيد إلى جوار سو تشي. وجرى تفسير ظهوره على نطاق واسع باعتباره مؤشراً على تنامي العلاقات الودية بين المؤسسة العسكرية وسو تشي وحكومتها المدنية. وبعد الاحتفال، الذي يجري لإحياء ذكرى أبطال الاستقلال ومن بينهم والد سو تشي، بدل زيه العسكري وارتدى لباساً مدنياً بورمياً، وشارك في احتفالية بوذية في منزل سو تشي. واستمر تودد هليانغ إلى الشخصيات الدينية الرفيعة، مع توليه تمويل بناء أكبر تمثال من الرخام لبوذا في البلاد، لكن تظاهره بالتقوى لم يفلح في إخفاء ما يسعى خلفه قائد الجيش. وعبر شبكات التواصل الاجتماعي، نجح هليانغ في حشد ملايين الأنصار، لكن حساباته في «فيسبوك» و«تويتر» أغلقت بعد اضطهاد الجيش لمسلمي الروهينغا. وعام 2016، أرجأ تقاعده لخمس سنوات.
- العلاقة مع سو تشي؟
في إطار المشهد السياسي المكيافيلي في ميانمار، يعتقد البعض أن العلاقة بين مين أونغ هليانغ وأونغ سان سو تشي لم تكن جيدة رغم تصويرها على عكس ذلك. وحقاً، شهدت العلاقات بين الاثنين توتراً شديداً لدى طرح تغييرات مقترحة على الدستور. وتوقفت الاجتماعات الدورية بين الاثنين منذ عام 2018.
وفي هذا الصدد، يقول الصحافي الهندي مانيش تشيبار، إن هليانغ لم يكن متعاوناً على الإطلاق مع الحكومة المدنية، وشعر بسخط إزاء شعبية سو تشي وتفاقمت التوترات بينهما عندما مني حزب «اتحاد التضامن والتنمية» المدعوم من الجيش، في الانتخابات العامة في نوفمبر، بهزيمة مذلة أمام حزب «الاتحاد الوطني من أجل الديمقراطية» بقيادة سو تشي. وثارت مزاعم بالتزوير والتلاعب في مواجهة الفوز الساحق لسو تشي، وظهرت مطالبات بإعادة فرز الأصوات.
- العقل المدبر للتطهير العرقي ضد الروهينغا
أما فيما يتعلق بالروهينغا، فإن هذا الشعب المسلم عانى منذ عقود من الاضطهاد في ظل جيش ميانمار. ومع ذلك، كان الجنرال هليانغ على وجه التحديد العقل المدبر وراء حملة الرعب ضد الروهينغا عام 2017، التي أجبرت أكثر عن ثلاثة أرباع ملايين منهم على الفرار من البلاد. ومع تعرّض قرى الروهينغا للحرق وابتهاج القوميين بطرد المسلمين الذين كان يجري النظر إليهم كدخلاء أجانب، صعدت شعبية قائد الجيش إلى عنان السماء مع أن العملية العسكرية التي نفذتها ميانمار - وفق محققين دوليين - تضمنت أعمال قتل واغتصاب جماعية وحرق ممتلكات على نطاق واسع وإعدامات بهدف الإبادة الجماعية.
ومن ثم، فرضت واشنطن عقوبات ضد هليانغ وثلاثة عسكريين آخرين عام 2019، وجرى تجميد الأصول المملوكة للقائد الميانماري داخل الولايات المتحدة وحضرت واشنطن الدخول في نشاطات تجاربه معه. وفي يوليو 2020، فرضت بريطانيا عقوبات مماثلة.
- المكانة الدولية
مع هذا، ورغم المعاملة الوحشية من جانب ميانمار للروهينغا عبر السنوات، لا يعد هليانغ من الشخصيات المنبوذة على الساحة العالمية. وكانت رحلاته للخارج قد بدأت ببكين، وأعقبها مشاركته في اجتماعات مع ممثلين عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ونيوزيلندا. كذلك، سبق أن شاركت قيادات من اليابان والهند في مآدب بصحبته وحاشيته، بينما رحب المسؤولون العسكريون الأستراليون به ونظموا له عرضاً لحرس الشرف في أبريل (نيسان) 2020. أضف إلى ذلك، أن لديه اتصالات دولية واسعة لدرجة أن الكثير من الدول مثل اليابان والصين والهند وتايلند ودول أخرى بالمنطقة لم توجه إليه انتقادات علانية بسبب الانقلاب العسكري الذي قاده.
- ما مدى قوته؟
ترأس القائد الأعلى للقوات المسلحة في ميانمار حتى فبراير ثلاث وزارات مهمة، هي الدفاع وشؤون الحدود والشؤون الداخلية. ومع أن الحكومة المدنية التي قادتها سو تشي امتلكت سلطة سن التشريعات، كان للقائد الأعلى للقوات المسلحة الكلمة الأخيرة بخصوص تنفيذ هذه التشريعات. وتخضع الشرطة وحرس الحدود ووزارة الإدارة العامة لسلطته المباشرة. والجدير بالذكر في هذا الصدد أن المؤسسة العسكرية البورمية تموّل نفسها بالاعتماد على شركتين قابضتين تتولى إدارتهما: «يونيون أوف ميانمار إيكونوميك هولدينغز» و«ميانمار إيكونوميك كوربوريشن». ولا تخضع حسابات الشركتين لرقابة عامة، بل تفرضان سيطرة احتكارية على العديد من القطاعات الجوهرية من الاقتصاد، مثل صناعة المشروبات والتبغ. ويعتبر هليانغ شريكاً رئيساً في «يونيون أوف ميانمار إيكونوميك هولدينغز».
أيضاً، لدى قائد القوات المسلحة سلطة تعيين 25 في المائة من أعضاء البرلمان؛ الأمر الذي يمنح المؤسسة العسكرية حق «الفيتو» في مواجهة أي تغييرات مقترحة على الدستور، الأمر الذي يتطلب موافقة 75 في المائة من أعضاء البرلمان. وللعلم، يحظر الدستور على سو تشي تولي منصب الرئيس لأن لديها أبناءً من زوجها الذي يحمل مواطنة أجنبية هو والأبناء. ومع هذا، يجري النظر إليها باعتبارها الحاكمة المدنية والتي يتعين عليها التشارك في السلطة مع المؤسسة العسكرية.
- الكسب غير المشروع والعقوبات
يبدو واضحاً أن أحد الأهداف الأخرى التي سعى قائد القوات المسلحة لإنجازها، حماية نفسه وأسرته وأعوانه العسكريين في مواجهة تحقيقات محتملة حول الصفقات المالية والممتلكات الضخمة التي تخصهم. وأكد عدد من النشطاء يطلقون على أنفسهم «حملة العدالة من أجل ميانمار» في بيان لهم أنه يجب النظر إلى مصالحه المالية كدافع وراء الانقلاب الذي نفذه. وتشير الأرقام إلى أنه خلال السنة المالية 2010 – 2011، امتلك هليانغ 5.000 سهم وحصل على أرباح سنوية بقيمة 250.000 دولار. وفي المقابل، يقال، يُتهم أفراد من أسرته بينهم ابنه وابنته وزوجة ابنه بالفساد. وبعد تسليط الأضواء على دوره في مذبحة الروهينغا عام 2012، تعرض هليانغ وأربعة جنرالات عسكريين آخرين وأقاربهم من الدرجة الأولى لقيود على السفر. واليوم، تشير تقارير في ميانمار إلى أن هذه القيود ربما أضرت بشكل خاص بابنة هليانغ التي استثمرت أموال ضخمة في صناعة الإنتاج السينمائي الناشئة في البلاد.
أخيراً، لو أن هليانغ تقاعد بدلاً من تدبير الانقلاب في الأول من فبراير، من المحتمل أنه كان سيخضع لتحقيقات مالية في ظل قيادة حكومة بقيادة سو تشي، الذي حقق فوزاً ساحقاً في انتخابات نوفمبر في مواجهة حزب يعمل بالوكالة عن المؤسسة العسكرية.