بداية يمكن القول إن جيل كيبل يمثل واحداً من أفضل العقول التي أنجبها التنوير الفرنسي منذ فولتير حتى مكسيم رودنسون، مروراً بعشرات الآخرين. ويمكن القول أيضاً إن تفكيكه الجريء لعقلية الحركات «الجهادية» الظلامية يمثل أفضل خدمة قدمها للتنوير العربي. تشهد على ذلك جميع كتبه المتلاحقة على مدار أربعين سنة متواصلة، التي توجها مؤخراً بكتاب جديد صادر عن «دار غاليمار» الباريسية الشهيرة، بعنوان «النبي والجائحة». وفيه، يحلل الأحداث الكبرى التي حصلت في هذه السنة الرهيبة (2020)، معتبراً إياها سنة حاسمة تفصل ما قبلها عما بعدها، خاصة بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط.
وبهذا الصدد، يرى جيل كيبل أن الصراع السني - الشيعي فقد زخمه وتراجع إلى المواقع الخلفية، قياساً إلى صراع من نوع آخر: ذلك الجاري بين أتباع الإسلام السياسي من جهة وخصوم الإسلام السياسي من جهة أخرى. وهذا صحيح إلى حد كبير، ولكن لا تنبغي الاستهانة بالصراع السني - الشيعي، فعمره أكثر من 1300 سنة، ولا يمكن أن ينحسر بين عشية وضحاها. وحده انتصار التنوير العربي يمكن أن يقلصه أو يمحوه، ونحن لا نزال بعيدين جداً عن ذلك. وبالتالي، فأمام الطائفية والمذهبية مستقبل طويل عريض للأسف الشديد. ولكن إذا كانت الأممية الأصولية السنية - الشيعية قد توحدت ضد الحداثة، فينبغي على الأممية التنويرية العربية - الإسلامية أن تتوحد لمواجهتها. وهذه الأممية الجديدة لها مستقبل عظيم في رأينا، وهي تضم التيارات التنويرية التي تخترق كل القوميات والمذاهب والطوائف، من عربية وكردية وتركية وإيرانية وإسلامية ومسيحية وسنية وشيعية... إلخ. وعندئذ، لن يعود السؤال: هل هذا الشخص سني أم شيعي؟ عربي أم كردي؟ مسلم أم مسيحي؟... إلخ، وإنما سيصبح هو التالي: هل هذا الشخص حداثي تنويري في فهمه للدين أم تقليدي ظلامي؟ هل يشد إلى الأمام أم يشد إلى الخلف؟ هل يستوعب الدين الإسلامي بشكل عقلاني واسع متسامح أم بشكل طائفي ضيق متعصب؟ وهل أنت من أتباع طه حسين ونجيب محفوظ أم من أتباع حسن البنا وسيد قطب؟ باختصار شديد: هل أنت من أتباع إسلام الأنوار أم إسلام الظلام؟ هذا هو السؤال المركزي الذي سوف يهيمن على المثقفين العرب طيلة العشرين أو الثلاثين سنة المقبلة.
- تياران كبيران متناقضان
المعركة مندلعة، إذن، بين تيارين كبيرين: الأول يريد أسلمة الحداثة، والثاني يريد تحديث الفكر الديني. الأول يريد إبقاءنا إلى الأبد سجناء ما يدعوه محمد أركون بالسياجات الدوغمائية المغلقة، والثاني يريد إخراجنا منها، ولكن بصعوبة شديدة وألم مرير. فنحن قد ولدنا فيها، وتعودنا عليها، ورضعناها مع حليب الطفولة، وتربينا عليها في البيوت والمدارس والجوامع والجامعات والفضائيات... إلخ، فكيف يمكن أن ننفصل عنها؟ نفضل أن تُزهق روحنا على أن يحصل ذلك! هنا تكمن المشكلة بالضبط. سوف أطرح التساؤل بطريقة أخرى: هل يمكن الخروج من الباراديغم اللاهوتي الأعظم للقرون الوسطى؟ وهو النموذج الديني الأعلى المعصوم المقدس الذي هيمن علينا على مدار ألف سنة متواصلة؛ أي منذ انتصار الحنابلة على المعتزلة، وتكفير الغزالي للفلسفة والفلاسفة. من هو المثقف العربي الذي يتجرأ على الخروج منه أو عليه؟ لم تلده أمه بعد! ما عدا أركون والمازري حداد وعبد الوهاب المؤدب والعفيف الأخضر وعبد النور بيدار وكمال داود وخالد المنتصر، وبعض الآخرين من أقطاب التنوير العربي، لا أرى أحداً. أحيل هنا إلى نظرية البارديغمات اللاهوتية التي بلورها هانز كونغ بشكل مقنع، وطبقها على المسيحية واليهودية، بل والإسلام؛ انظروا كتبه الضخمة عن الأديان التوحيدية الثلاثة. وضمن هذا التوجه الواسع المتسامح تم تأسيس بيت «العائلة الإبراهيمية» في أبوظبي، وتوقيع وثيقة الأخوة الإنسانية التي قالت للجميع ما فحواه: لا سلام في العالم من دون سلام بين الأديان! وهو ما نصت عليه وثيقة مكة المكرمة أيضاً. وهذا ما يغيظ جماعات الإخوان والإسلام السياسي إلى أقصى حد ممكن، وذلك لأن مفهومهم للإسلام قائم على الانغلاق والتكفير، لا على التسامح والتعايش مع الأديان الأخرى؛ إنهم لا يزالون غاطسين كلياً في اللاهوت الظلامي القديم للقرون الوسطى... المعركة مفتوحة!
في مكان آخر، يقول لنا جيل كيبل ما معناه: لا يعتقدن أحد أن الإسلام السياسي يعيش الآن أجمل لحظاته، فالواقع أنه فقد شعبيته إلى حد كبير من بغداد إلى تونس. قبل عشر سنوات فقط، كان مترعرعاً مسيطراً على ما يدعى «الربيع العربي». ولكن الثورات التي اندلعت مؤخراً في العراق ولبنان والجزائر والسودان لم تندلع باسمه أبداً قط، ولم تكن له فيها مشاركات تذكر، على عكس ما حصل سابقاً. وهذا شيء مفرح بالنسبة لقضية التنوير العربي، وهو دليل محسوس على أنه يمكن تجاوز جماعات الإخوان المسلمين، وبقية جماعات الإسلام السياسي، وهو كذلك يثبت صحة مقولة هيغل عن مكر العقل في التاريخ. فالعقل الكوني يستخدم الشر لتحقيق الخير، أو قل لا يمكن أن يتوصل إلى الخير إلا بعد المرور بمرحلة الشر. وهذا ما اكتشفه المتنبي قبل هيغل بزمن طويل: ولا بد دون الشهد من إبر النحل. ينبغي أن ندفع ثمن التقدم عداً ونقداً. ينبغي أن ندفع ثمن كل خطوة إلى الأمام دماً ودموعاً. وهذا أذكى أنواع «المكر»؛ بالمعنى الإيجابي النبيل للكلمة، لأنه يعكس الشر ضد ذاته. بمعنى آخر، لولا الفظاعات التي ارتكبتها حركات الإسلام السياسي في الجزائر إبان العشرية السوداء، لما فقد الأصوليون السيطرة على الشارع في «الحراك» الذي حصل مؤخراً؛ هذه أشياء ينبغي أن تقال. قبل ذلك، كانت الجماهير مخدوعة بالإسلام السياسي، بل كانت تعتقد أنه الحل والخلاص والترياق، فإذا بها بعد عشر سنوات فقط تكتشف الخيبة والمرارات. فالإسلام بصيغته التكفيرية الظلامية لا يمكن أن يكون حلاً، وإنما فقط بصيغته التنويرية. ولكن الانتقال النهائي من هذه إلى تلك قد يستغرق عشرات السنوات المقبلة، كما علمتنا تجربة أوروبا ذاتها. وبالتالي، فنحن لا نعتقد أن المسألة قد حسمت تماماً؛ هذه قضية كبيرة، هذه قضية القضايا ومعضلة المعضلات، ولكن حصل تقدم في السنوات الأخيرة، والشعوب العربية سائرة نحو الاستنارة لا محالة.
على أي حال، كان ينبغي أن تحصل كل هذه الأحداث والتضحيات الجسام لكي «تمتص» القوى التقدمية المستنيرة هيبة الإسلام السياسي، وتحجم مشروعيته، وتقلص شعبيته. كان ينبغي أن يصل إلى الحكم في مصر وتونس والسودان، ويفشل فشلاً ذريعاً لكي تزول هالة القداسة الضخمة عنه أو المحيطة به؛ ما كان يمكن تجاوزه قبل المرور به... تداويت منها بها! هنا يكمن مكر العقل في التاريخ.
- النموذج الصيني
أخيراً، ربما لن تقوم المرحلة المقبلة على شعار الديمقراطية، وإنما على شعار الاستبداد المستنير، على طريقة الصين: أي رأسمالية فعالة من جهة، واستبداد كونفشيوسي - شيوعي من جهة أخرى. ولكن هذه ستكون مرحلة مؤقتة لا نهائية؛ المرحلة النهائية هي الديمقراطية والشفافية. ويبدو أن بعض الدول العربية أصبحت مسحورة بالنموذج الصيني الذي أدى إلى الرفاهية الاقتصادية من دون ديمقراطية! فإذا كان هذا النموذج قد نجح في الصين، فلماذا لا ينجح في أماكن أخرى. المهم حالياً هو الحكم الرشيد العادل الذي تفرضه النخبة المستنيرة الرائدة من فوق. بعدئذ، تجيء الديمقراطية والمشاركة الشعبية على مراحل تدريجية، بصفتها تحصيل حاصل.
وعلى أي حال، فإن الديمقراطية صيرورة طويلة صعبة عويصة جداً لأنها تتطلب أولاً تنوير الشعوب العربية وإلا فسوف تصوت كلها لـ«الإخوان المسلمين» وجماعات الولي الفقيه. ومن يصوت ضدها (أي ضد جماعات الإسلام السياسي) يعدونه عدواً للدين! هل يمكن أن تصوت ضد الدين أو ضد رموزه ومشايخه؟ أعوذ بالله! معاذ الله! هذا هو السلاح الفعال الفتاك الذي تمتلكه جماعات الإسلام السياسي: إنه الهيبة الدينية اللاهوتية العظمى. ولذلك أقول إن الاستبداد اللاهوتي الكهنوتي أخطر أنواع الاستبداد؛ إنه الاستبداد الظلامي الأسود القاتل، وأنا أعرف عم أتحدث بالضبط. لقد عانيته في بيتي، ورأيته بأم عيني، وحدقت فيه وجهاً لوجه، وسوف أظل أقاومه كالتنين حتى أصرعه في نهاية المطاف أو يصرعني!