ربما تكون «أميركا قد عادت» إلى الساحة الدولية، على ما قال الرئيس جو بايدن في كلمته أمام مؤتمر ميونيخ للأمن، وربما ستعمل بجد على إحياء الشراكة والتحالف مع دول حلف شمال الأطلسي ومع الاتحاد الأوروبي. لكن العالم الذي تعود واشنطن إليه قد تغيّر في الأعوام الأربعة الماضية.
تناول الرئيس الأميركي أيضاً مسائل دولية ملحة مثل العلاقات مع روسيا والصين واستئناف المفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي. خطاب بايدن في المؤتمر الافتراضي الذي جمع كبار المعنيين بشؤون الأمن والسلام في العالم، كانت قد سبقته كلمة أمام اجتماع عبر شبكة الإنترنت لزعماء الدول الصناعية السبع الكبرى ركّز المشاركون فيه على جهود مكافحة وباء كورونا وزيادة المساهمات المالية لبرنامج «كوفاكس» الدولي الذي يشارك في تأمين اللقاحات لاثنين وتسعين بلداً من الدول النامية والفقيرة.
اللافت للانتباه في كلمة بايدن أمام مؤتمر الأمن في ميونيخ إصراره على استعادة موقع بلاده القيادي في التحالف الأطلسي ومع الاتحاد الأوروبي. ومن دون أن يشير إلى إدارة سلفه دونالد ترمب بالاسم، كان بايدن واضحاً تمام الوضوح في إدانة سياسات ترمب على المستويين الداخلي الأميركي والخارجي محملاً إياه جزءاً من المسؤولية عن تفشي ظواهر الشعبوية والحكم التسلطي الأوتوقراطي.
وقال: «نحن وسط جدال تأسيسي حول مستقبل عالمنا والوجهة التي سيسير فيها. بين أولئك الذين يجادلون - آخذاً في الاعتبار كل التحديات التي تواجهنا، من الثورة الصناعية الرابعة إلى الوباء العالمي - بأن الحكم التسلطي الأوتوقراطي هو الطريق الأفضل للمضي قدماً وبين الذين يفهمون أن الديمقراطية ضرورية لمواجهة التحديات تلك... وأؤمن بكل ذرة من كياني أن الديمقراطية ستنتصر». الفقرة هذه تلّخص «الفلسفة» (إذا جاز التعبير) التي خاض بايدن وحزبه الديمقراطي الحملة الانتخابية الأخيرة على أساسها. فلا بد، من وجهة النظر هذه، اعتماد الديمقراطية في السياسات الأميركية الداخلية وفي علاقات الولايات المتحدة بالعالم، كمعطى مقرر وحاسم عند رسم الخطط للتقدم نحو المستقبل الذي قال بايدن إنه ينظر إليه «ولا ننظر إلى الماضي»، في إشارة إضافية إلى تقييمه السلبي لنهج ترمب.
لكن، وعلى ما سلفت الإشارة، أن العالم قد تغيّر في الأعوام الأربعة الماضية. ونشاطات إيران «المزعزعة للاستقرار» بحسب قول بايدن في كلمته أمام مجموعة السبع، والتي يتعين التعامل معها أثناء المفاوضات قد شبّت عن طوق المعالجات التي تعتمد الحوار، بحيث أصبحت المصالح الإيرانية وتدخلات طهران في شؤون الدول العربية، من لبنان إلى اليمن، حقيقة صلبة تتطلب مقاربة أكثر واقعية. وهذه حقيقة فهمها أصدقاء سابقون لإيران مثل فرنسا التي نددت مرات عدة بممارسات إيران سواء في تخليها عن التزاماتها النووية أو في تمددها في الإقليم على حساب أمن الدول العربية جميعها.
روسيا التي وصف بايدن سياستها بـ«التنمر» تمثل معضلة إضافية أمام العودة الأميركية إلى قيادة العالم. ليس لأن القيم التي يدفع الرئيس فلاديمير بوتين تضاهي قيم الديمقراطية الليبرالية السائدة في الغرب والتي يراها بايدن والقادة الأوروبيون قيماً عالمية لا بديل عنها، بل لأن موسكو عرفت كيف تستغل نقاط الضعف في سياسات الإدارات الأميركية السابقة ونجحت في توظيف تردد باراك أوباما وادعاءاته الإنسانية، في الفوز بنقاط ارتكاز قوية سواء في سوريا أو القرم، وأخيراً في القوقاز بعد الحرب الأرمنية - الأذربيجانية، على المستوى الميداني الجيو - سياسي، أو بعقد اتفاقيات لمد المزيد من خطوط أنابيب النفط والغاز مع أوروبا وتركيا وغيرهما، على المستوى الاقتصادي الذي تستخدمه موسكو كرافعة لسياساتها في المنطقة. وذلك من دون أن يكون في محتوى «القيم» التي يتبناها بوتين ما يشبه البديل عن الديمقراطية الليبرالية الغربية، وفي الوقت الذي لم تبدِ موسكو فيه أي علامة على توقفها عن التدخل في الشؤون الأميركية سواء من خلال التلاعب بالانتخابات أو اختراق الحواسيب الرسمية والخاصة في الولايات المتحدة.
ولا يقل تعقيد العلاقة مع الصين عن نظيرتها الروسية أو الأوروبية. فالحرب التجارية التي أعلنها ترمب لم توصل إلى مكان خصوصاً بعد تفشي «كوفيد - 19». وليس واضحاً إذا كانت الحرب تلك قد عدلت الميزان التجاري المختل لمصلحة بكين أو أعادت فرص العمل إلى السوق الأميركية. هاتان المسألتان ليستا ما تناولهما بايدن في كلمته في ميونيخ، حيث أبدى اهتمامه بالاستثمار المشترك مع الحلفاء لإنجاز التجديد التقني والعلمي وحض الشركات الغربية الكبرى على إبداء المزيد من الانفتاح لمواجهة الفساد والممارسات الاحتكارية وفرض اعتماد المعايير ذاتها على الشركات الصينية. بكلمات ثانية، يؤيد بايدن التراجع عن الحرب التجارية لمصلحة منافسة علمية واقتصادية مع الصين، معتقداً بقدرة الحكومات والمؤسسات الغربية على التفوق في هذا المجال مرة جديدة رغم النجاحات الضخمة التي حققتها الصين التي يعيقها، برأي بايدن ومستشاريه، اتباعها للنظام التسلطي الأوتوقراطي، حيث يكبح القمع والقسر قدرات الصين على الإبداع وتجاوز ميزات الغرب التنافسية.
سياسة جديدة يبشر بايدن بها ويراهن عليها في عالم ازداد عنفاً وقسوة واضطراباً، بفعل السياسة والوباء والتغير المناخي وغيرها من المعضلات التي تواجهها البشرية. مع ذلك، يصر الرئيس الأميركي على قدرة الديمقراطية الليبرالية المأزومة على النجاح في تجاوز هذه المرحلة.
«عادت أميركا»... لكن العالم تغيّر (تحليل إخباري)
«عادت أميركا»... لكن العالم تغيّر (تحليل إخباري)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة