لم تكن مساءلة الرئيس الأميركي السابق محاكمة تقليدية، فهي تندرج ضمن آلية دستورية نادرة الاستخدام لم يلجأ إليها الكونغرس الأميركي سوى أربع مرات في تاريخه، وخصّصها مرتين لمساءلة الرئيس نفسه: دونالد ترمب.
وخلال محاكمة ترمب الثانية التي استمرت خمسة أيام فقط وانتهت أول من أمس (السبت)، بتبرئته، أمضى ثلاثة من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين ساعة في مناقشات مع فريق الدفاع عن المتهم، وتحول أعضاء مجلس الشيوخ المائة إلى هيئة المحلفين في المحاكمة رغم أنهم كانوا أنفسهم مستهدَفين بالجريمة، كما لم يجرِ استدعاء أيٍّ من الشهود.
وكشفت محاكمة العزل الثانية بحق الرئيس السابق دونالد ترمب عن أوجه القصور العميقة في الآلية الدستورية الوحيدة المعنية بمحاسبة سيد البيت الأبيض في حال ارتكب جرائم أو جنح جسيمة، وفق تقرير لوكالة «أسوشييتد برس». ولم تكن المحاكمة مساءلة قانونية حول أحداث السادس من يناير (كانون الثاني) التي وقعت في مبنى الكابيتول وما أدّى إليها، إنما كانت عملية سياسية بامتياز، أتت بنتائج غير مفاجئة في نهاية المطاف.
وعقب قرار عزل سريع في مجلس النواب بقيادة المعسكر الديمقراطي، عقد مجلس الشيوخ محاكمة في فترة قياسية لم تتجاوز خمسة أيام، وكانت الإدانة بحاجة إلى انضمام 17 عضواً جمهورياً إلى زملائهم الديمقراطيين في المجلس. إلا أن سبعة جمهوريين فقط صوّتوا لإدانة ترمب، وهو عدد غير كافٍ ولكنه يعد رقماً قياسياً قياساً بالمحاكمات السابقة في التاريخ الأميركي.
قال البروفسور بريان كالت، أستاذ القانون الدستوري لدى جامعة ميشيغان: «لقد رأينا أن حالة الاستقطاب بين الأحزاب سمحت بسهولة الحصول على أغلبية قرار العزل في مجلس النواب، فيما زادت في المقابل من صعوبة الحصول على أغلبية الثلثين للإدانة في مجلس الشيوخ. وعلى هذا النحو، صارت محاسبة الرؤساء من دون جدوى تُذكر بالنسبة لكلا الحزبين الكبيرين في الكونغرس».
ومن المعروف أنه من النادر استخدام الكونغرس سلطاته في محاسبة الرؤساء على الجرائم أو الجنح المرتكَبة من طرفهم، ومن الأمثلة على ذلك محاولات عزل الرئيس أندرو جونسون في عام 1868، ثم محاولة عزل الرئيس بيل كلينتون في عام 1999، وأخيراً محاولتا عزل الرئيس دونالد ترمب في 2020 و2021. كما شرع مجلس النواب أيضاً في إجراءات عزل الرئيس ريتشارد نيكسون، ولكنه تقدم باستقالته من منصبه قبل التصويت على الاتهامات الموجهة إليه. وانتهت كل محاولات العزل سالفة الذكر ببراءة الرئيس.
صرح السيناتور الجمهوري جون ثون، من ولاية ساوث داكوتا، في هذا الصدد: «سنعرف المزيد من التفاصيل (حول الاعتداء) مع مرور الوقت، ولكن هذه المحاكمة لم تكن ستقود لنتيجة جيدة لأي من الأطراف».
ويبدو أن الاعتبارات السياسية عصفت بمحاكمة مجلس الشيوخ حتى قبل أن تبدأ. ففي الأيام الأخيرة في منصبه كزعيم للأغلبية الجمهورية، استعان السيناتور ميتش ماكونيل، بصلاحياته البرلمانية في تأخير المحاكمة إلى ما بعد مغادرة دونالد ترمب لمنصبه الرسمي، الأمر الذي منح عدداً من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين «مخرجاً إجرائياً» للتصويت ضد إدانته، إذ يمكنهم الاستناد إلى فكرة «عدم دستورية» إجراء محاكمة العزل بحق رئيس سابق بدلاً من الفصل في القضية وفق وقائعها الموضوعية.
وبدت هذه الاستراتيجية واضحة في تصويت ماكونيل، ثم التصريحات التي أدلى بها عقب تبرئة ترمب. فصوّت بـ«غير المذنب» وفق الأسس الإجرائية، ثم وجّه من مجلس الشيوخ انتقاداً لاذعاً وشديد اللهجة إلى دونالد ترمب بوصفه مسؤولاً من الناحيتين العملية والأخلاقية عن أحداث التمرد في مبنى الكابيتول. إلا أن غطاء ماكونيل الإجرائي بدا ضعيفاً، إذ إن مجلس الشيوخ صوّت في وقت سابق على دستورية محاكمة العزل. إلا أن زعيم الجمهوريين في المجلس اختار تجاهل هذه السابقة البرلمانية في معرض تبرير تصويته لبراءة دونالد ترمب.
وكان الديمقراطيون مقيدين أيضاً بالواقع السياسي الغالب عليهم، إثر رغبة إدارة جو بايدن في تسريع وقائع المحاكمة حتى لا تشكل عائقاً على التقدم في تمرير أجندته السياسية والاقتصادية. ورغم أن مرافعات مديري المساءلة في مجلس النواب كان مقنعة للغاية ومفعمة بالصور القوية لأعمال الشغب والخطابات التي وصفوها بالتحريضية للرئيس ترمب، فإنه لم يكن هناك شيء جديد لم يطّلع عليه الناس في المجال العام من قبل.
ومن بين التساؤلات التي تبقى بلا إجابة: هل كان الرئيس ترمب على دراية بالتقييمات الاستخباراتية بشأن مخاطر أعمال العنف في العاصمة واشنطن يوم السادس من يناير؟ متى علم بالخطر المحدق بنائب الرئيس مايك بنس والمشرعين الآخرين عندما اقتحم أنصاره مبنى الكابيتول؟ كيف كانت استجابته للأمر بمجرد وضوح هذا الخطر؟
عندما أُتيحت فرصة في الساعات الأخيرة لاستيضاح هذه الأسئلة عبر استدعاء الشهود، تراجع الديمقراطيون في خطوة مفاجئة خشية أن يسفر الأمر عن إطالة مدة المحاكمة، فضلاً عن تعقيد جهود الرئيس بايدن الرامية إلى تمرير حزمة الإغاثة الشاملة بشأن وباء «كورونا» سريعاً.
وكانت هناك حقيقة أخرى أمام الديمقراطيين، وهي إدراكهم أن حتى مع استدعاء الشهود والاستماع إليهم، لم تكن هناك فرصة سانحة تقريباً لتصويت عدد كافٍ من الأعضاء الجمهوريين على إدانة ترمب. وطغت حقيقة نفوذ دونالد ترمب الكبير في الحزب الجمهوري على مشاعر الغضب العميقة التي لازمت بعض الجمهوريين تجاهه في بادئ الأمر. وأوضح آخرون، لا سيما أولئك الذين يحاولون رفع شعارات ترمب في الانتخابات الرئاسية المستقبلية، أنهم ليسوا محلّفين محايدين.
يملك الكونغرس حفنة قليلة من الخيارات الأخرى لتوبيخ دونالد ترمب على دوره في تمرد الكابيتول، بما في ذلك التصويت بتوجيه اللوم إليه. غير أن عدداً قليلاً من المشرعين الرئيسيين أبدوا استعدادهم للمضي قدماً في هذا المسار. وأشار السيناتور ماكونيل إلى أنه مع اعتبار دونالد ترمب مواطناً أميركياً عادياً الآن، فينبغي ترك مصيره لتقرره المحاكم، حيث يمكن للمحاكمة المدنية أن تشتمل على الكثير مما لم تتضمنه محاكمة العزل البرلمانية: عملية الإثبات القوية، واستدعاء الشهود، وهيئة محلفين غير منحازين.
يقول الباحث صلاح الدين أمبار، من معهد «إيغلتون» للسياسات لدى جامعة «روتغرز - نيو برونزويك»، إنه يأمل ألا تسفر تبرئة دونالد ترمب عن تردد المشرعين في الدفع بإجراءات العزل مجدداً كمحاولة لعلاج أخطاء الرؤساء في المستقبل، والمتهمين بانتهاك اليمين الدستورية لتولي المنصب الرئاسي. واستطرد أمبار: «الكونغرس في حاجة إلى إثبات أنه فرع متساوٍ في الحكومة الأميركية، عبر ممارسة مهام رقابة حقيقية على الرئيس»، وأضاف أخيراً: «ستتفاقم المشكلات كثيراً إذا تخلى الكونغرس عن مسؤولياته مع مرور الوقت. وينبغي عليه العناية بمهامه الرقابية في المستقبل».
«محاكمة الشيوخ» تكشف قصور آلية العزل الدستورية
عززت الاستقطاب الحزبي وأضعفت دور الكونغرس الرقابي
«محاكمة الشيوخ» تكشف قصور آلية العزل الدستورية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة