الزعتري.. الصور الفوتوغرافية حين تتحول إلى لوحات أرشيفية

معرض يستضيفه غاليري «تيت مودرن» في لندن بعد مركز {بومبيدو} بباريس

إحدى صور المعرض
إحدى صور المعرض
TT

الزعتري.. الصور الفوتوغرافية حين تتحول إلى لوحات أرشيفية

إحدى صور المعرض
إحدى صور المعرض

كم استوقفتني الصور الفوتوغرافية الأرشيفية بالأبيض والأسود، التي تؤرخ لأناس عاديين من جنوب لبنان لعقود الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن المنصرم، حينما زرتُ معرض المصور الفوتوغرافي اللبناني أكرم الزعتري في غاليري «التيت مودرن»، وكم استوقفتني لاحقا صور أكرم الزعتري بمركز جورج بومبيدو في باريس كجزء من معرض فوتوغرافي عن الشرق الأوسط. ترى لماذا يحظى أكرم الزعتري بكل هذا التقدير في أكبر المعارض في العواصم العالمية؟
يمزج أكرم الزعتري، المولود في صيدا عام 1966، مهارات المؤرخ والفنان والدليل الفني، ليجري فحصا دقيقا للصور الفوتوغرافية القديمة والمهملة ربما، ومدى قدرتها وقابليتها لعرض الماضي بحيادية ونقده. لوحاته الفوتوغرافية تتحدى الصور النمطية للتاريخ القريب، في محاولة لتقويم هذا التاريخ والتركيز على الفردانية إلى درجة تضخيم هذه الفردانية في أحيان كثيرة. عام 1997، أسس مؤسسة الصورة العربية، وهي منظمة غير ربحية متخصصة لدراسة وحفظ الصور الفوتوغرافية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبحوزة هذه المؤسسة الآن ما يعادل 300 ألف صورة فوتوغرافية.
بدأ أكرم الزعتري عبر هذه المؤسسة مشروعا لإثارة انتباه الناس والرأي العام لأرشيف استوديو شهرزاد للمصور الفوتوغرافي هاشم المديني، وهو استوديو للفوتوغراف بدأ عمله في مدينة صيدا جنوب لبنان منذ عام 1948. اللقطات الفوتوغرافية التي التقطها مصورو استوديو شهرزاد تمثل صورا لأناس من مختلف الفئات العمرية غير معروفين، فردية أو في مجموعات أو صورا ثنائية.. أناس مغيبين ومجهولين غالبا، لكننا نراهم بملابسهم البسيطة وتسريحات الشعر ونظراتهم التي يواجهون بها الكاميرا بشكل متعمد حينما تعلق هذه الصور المنسية في كبرى الغاليريهات في العواصم العالمية. الصورة الفوتوغرافية إذن هي اللغة الوحيدة المفهومة في كل أرجاء العالم والتي تصل بين الأمم والثقافات وتربط حياة البشر بتضامن عاطفي غالبا، والفوتوغراف إذا ما استقل عن الخطاب السياسي يعكس الحياة ومجرياتها بصدق ويتيح لنا مشاطرة الآخرين آمالهم وآلامهم، ويلقي بضوء ساطع على الأوضاع السياسية والاقتصادية في لحظة الصورة، ونصبح نحن المتلقين أينما نكون شهود عيان على إنسانية ولا إنسانية البشر.
تضج هذه الصور بحياة حيوية كاملة الوجود: صورة لفتاتين ترتديان عوينات شمسية كبيرة كتلك التي سادت في تلك الحقبة، تحضنان بعضهما بعضا.. صورة أخرى لرجلين ومسدسين في أيديهما، ويمثلان مشهدا للقبض على رجل ثالث بينهما.. صورة أخرى لرجلين أحدهما يرتدي برقعا على رأسه في محاولة لتمثيل دور عروس، بينما يلف الرجل الثاني ذراعه حول كتف الأول. الكاميرا تحنط الابتسامات والإيماءات وحركات الجسد ونظرة العين، بل يخيل لنا أننا نسمع الناس ونشعر بهواجسهم الداخلية وننصت للضوضاء خلف جدران الاستوديو في الشوارع، نلمس أحلامهم ورعبهم وآمالهم ووضعهم والاقتصادي وتطلعاتهم.

* الصورة الفوتوغرافية تصافح الآخرين
كان استوديو شهرزاد ملاذا آمنا في مجتمع محافظ، يسمح للناس بأن يمارسوا خيالاتهم وأحلامهم أمام الكاميرا للوصول إلى صورة مثالية لهم (من وجهة نظرهم)، وهي ممارسة كانت شائعة ومقبولة داخل استوديوهات التصوير في تلك الحقبة، كأن الاستوديو يفصل الناس عن محيطهم ليصبحوا بطريقة ما أكثر انتماء لأنفسهم وأحلامهم. كان الناس في تلك الحقبة من الزمن يذهبون للاستوديو لأخذ الصور الفوتوغرافية كنوع من الموضة مثلما يذهبون إلى قارئ البخت لمعرفة طالعهم، لذا فهم يعتمدون على المصور كي يحررهم من واقع خاذل أغلب الأحيان.
عرض غاليري «التيت مودرن» في لندن مجموعة لوحات أرشيفية تستقرئ وجوه ومواقف الناس العاديين في لبنان للفترة من 1950 - 1970، مصنفة حسب الفئات، تعكس هذه الصور وتبرز المكانة الاجتماعية والسياسية التي يعيشها من يجلس أمام الكاميرا. الصور بالأبيض والأسود تثير فينا حنينا جارفا، وتستنفد غريزة الفضول إلى أقصاها. ويقترح أكرم الزعتري طريقة لقراءة الصور الفوتوغرافية بالتمعن في لباس ودوافع الناس الذين يجلسون لالتقاط الصور، كما لو أن الاستوديو يروي فيلما متسلسلا لأناس مجهولين والمصور هو مخرج هذا الفيلم.
الزعتري يركز على الذكريات والأحداث اليومية التي تعيد تفسير سلوك الناس وأفعالهم وردود فعلهم في أوقات الحرب والمنفى ضمن نطاق المسموح به. في مقابلة لابنة هاشم المديني صاحب استوديو شهرزاد قالت إنها ما زالت تحتفظ بالديكورات والأزياء التي كان والدها يحتفظ بها في الاستوديو كي يلبسها الناس ليتشبهوا بنجوم السينما. الزعتري صانع صورة وجامع لها، لكن حقوق عرض الصور الشخصية بمعارض عامة للجمهور قد يثير فينا تساؤلا: هل يسمح أصحاب هذه الصور بنشرها علنا؟ هناك صور مخربة عن قصد لامراة شابة تدعى زوجة الباقري، طلب زوج هذه المرأة من المصور أن يتلف نيجاتيف صورها لأنها ذهبت إلى الاستوديو دون موافقته. لكن أكرم الزعتري يبدع صورا جديدة من نيغاتيف الصور المخربة عمدا، تصبح الخطوط المتعجلة التي تتقاطع على وجه المرأة الفاتنة جزءا من جمالية الصورة ودليلا كافيا على أن تخريب الجمال عمدا يزيده بهاء.

* الكاميرا لا تكذب
هناك قاعة أخرى خصصت لعرض صور لأطفال فلسطينيين من إحدى مدارس الأونروا وهم يجلسون جميعا على الكرسي ذاته بالتعاقب وخلفهم حائط مخربش.. يعود تاريخ هذه الصور لسنة 1960.. الفاقة جلية على الوجوه جدا، لا ابتسامات ولا ملابس مرتبة. أطفال غادروا طفولتهم قبل أن يولدوا ربما.
في صالة أخرى صور أرشيفية لرجال من المقاومة الفلسطينية والسورية، بعضهم شباب يرتدون الملابس العصرية في تلك الحقبة يوجهون بنادقهم إلى زاوية منحرفة عن الكاميرا بفرح يطفر من ملامحهم كأنهم يحملون حبيباتهم بين أيديهم. ونستطيع أن نخمن بسهولة أن حمل البندقية في تلك الحقبة هو جزء مكمل لرجولة الرجل الفلسطيني. بينما يظهر رجال المقاومة السورية بشكل أكثر صرامة تلف رقابهم وصدورهم الغترة العربية ولا يحملون أسلحة بين أيديهم.
بينما علقت في مركز جورج بومبيدو صورة أرشيفية جميلة ضمن مجموعة صور أخرى لأكرم الزعتري، لصياد لبناني يرتدي الطربوش وتقف خلفه ابنتاه، يرتسم على محيا إحداهما عبوس العنوسة، بينما تلون وجه الأخرى ابتسامة الأمل. ويبدو أن الصورة قد التقطت في منزل الصياد لأن خلفية الصورة هي بطانية داكنة تخفي تفاصيل البيت البسيط، لكن يد طفل تمسك البطانية في زاوية الصورة وتفضح ضوضاء الدار.
صور أكرم الزعتري شفوقة ومهذبة رغم بلاغتها، وشخصية تميل إلى ترك المشاهد يرى بنفسه صورا لا تتظاهر بكونها فنا، كما أنها ليست عظة.. هي أثر الواقع فقط مثل طبع القدم أو بصمات الأصابع أو مثل أقنعة الموتى.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.