مسامرات الزمن والأمومة في رواية مغربية

ربيعة ريحان تستعيدها في مرايا «الخالة أم هاني»

مسامرات الزمن والأمومة في رواية مغربية
TT

مسامرات الزمن والأمومة في رواية مغربية

مسامرات الزمن والأمومة في رواية مغربية

يتسع فضاء الحكي ويتنوع عبر تخوم الماضي والحاضر ويبرز بتقاطعات سردية شيقة، كسيرة لطفولة الزمن والحياة، في رواية «الخالة أم هاني» للكاتبة ربيعة ريحان، الصادرة أخيراً عن «دار العين» بالقاهرة.
تدور الرواية في فضاء شبكة من العلاقات والأنساب العائلية المحيِّرة والمعقَّدة، تلمّ شتاتها بطلتها «أم هاني» بروح من بداهة الفطرة والخبرة الحميمة المرحة، والتقاط ما وراء الملامح والصور. فمنذ البداية وعلى مدار 326 صفحة وحتى الختام، تتجول الخالة بعينيها الزبرجيدتين وجمالها الفاتن الغض واسمها الأندلسي الأصيل، في مسارات السرد كنهر دافق لا يكفّ عن العطاء.
امرأة أمية في عباءة الثمانين تسكن في الضواحي الشعبية، بالكاد تعرف الأرقام، أدمنت النظر إلى تمثال محمد الخامس فوق حصانه الأبيض في بهو البلدية الفسيح بمدينة آسفي، وما يمثله في الوجدان العام كرمز للاستقلال ومكافحة الاستعمار الفرنسي للبلاد. تقف الخالة مشدوهة أمامه، وتتأمله من زاوية خاصة، حتى أصبح الأمر بمثابة هواية تحرص عليها وهي في الطريق لزيارة ابنة خالتها وأسرتها في بيتها المنيف (الفيلا) الذي يشي بترف أرستقراطي. لكنّ هذه الزيارة المعتادة سرعان ما تتحول إلى صراع من الألفة، بين أمومة مفتقَدة تمثلها الخالة العاقر صاحبة الميراث القاسي والمرير من اليتم، خصوصاً بعد وفاة والديها وأخويها الصغيرين، وهي طفلة، والتنقل للعيش عند الخالات والعمات، ما دفع بها إلى خمس زيجات صادمة مرّت بها في حياتها، وبين أمومة مزدوجة، تجسّدها «شيماء» الساردة الأساسية، حيث تتبناها الخالة كابنة لم تنجبها وهي بعد طفلة لم تتجاوز خمس سنوات، امتثالاً لوصية جدة شيماء لأمها، وهي على فراش الموت بأم هاني: «قالت لها بعد جهد وهي تنظر لعينيها، وتمسك بكفها: عار بنت خالتك عليك. خدي بالك منها يا ابنتي، ولا تتركيها وحدها فهي يتيمة. وهكذا منحتني أمي ألواناً إضافية، وعيشاً عبر خُطى، هنا وهناك، في بيتنا مرة وفي بيت الخالة مرات».
أسئلة ساذجة وبريئة في عين طفلة تستعيدها شيماء من غبار تلك اللحظة فيما يشبه النجوى الداخلية: «هل فكّرت والدتي في الأمر ملياً وهي تعرضني على أم هاني؟ ألم يراودها الإحساس الأمومي بأنها ستفقدني ولن تراني، أكنت رخيصة إلى ذلك الحد الذي سمح لها بأن تأخذني لتتبناني، وتضع حياتي بموازاة حياتها المتقلبة؟ لماذا لم تفعل ذلك بأختي لمياء الصغيرة، آخر العنقود التي تحب النوم ولا تستيقظ للذهاب إلى المدرسة إلا بالشجار؟». لكن سرعان ما تنقلب هذه الأسئلة إلى إحساس عارم بالنعمة، فتحب شيماء أم هاني، تتعلق بها وتتباهى بسعادتها بتلك النزوة غير المعهودة من أمها «نزوة امرأة عاقلة ووفية»... يعزز هذا ما تضمره الأم من حب مخلص للخالة، وتعاطف مع ظروفها القاسية، ثم إنها ابنة خالتها، على عكس الأب موظف البنك عاشق الفرنسية، الذي يضجر من اللغة العربية، فلا يبالي بها، ودائماً يصدمها بمشاعره الجافة تجاهها، خصوصاً حين تكون في زيارة لهم، كما أنه وافق على مضض على ذهاب ابنته شيماء للعيش معها، مشترطاً ألا تناديها «ماما».
أحبت شيماء عالم الخالة، شبّت وترعرعت في كنفها، وأحسّت بأنها أصبحت مصدر سلام وحماية لها، حيث بدأ الجميع يتخلون عن نظراتهم المتدنية وأوصافهم المقززة لها، وأصبحوا ينادونها بـ«الخالة أم هاني»، وواصلت تعليمها بدأب، حتى درست التاريخ وتخرجت في الجامعة.
توفر فكرة الأمومة المزدوجة كقيمة معيشة، مساحة من الترحال في النص، والذهاب والإياب منه وإليه، كأنه مجموعة من المرايا والمحطات المتجاورة. تعززها لغة سردية سلسة، مفتوحة على حيوية المحكي الشفاهي اليومي ابن الروح الشعبية بتوتراتها العفوية الأليفة، والفصيح، ابن التراث في رسوخه السهل الممتنع، كما تلوّن مناخات السرد بنثار خاص من المحبة، يتوزع في مناخ الرواية بين كائنين (الأم والخالة) يشتركان في الصفة نفسها، ويبدوان أحياناً في سباق خفيّ على حب الابنة. التي تنصّب من نفسها «الصوت المعارض» لكل ما يحاك من أراجيف، خصوصاً على ألسنة نساء العائلة، فهي مادة التندر والمزاح المفضلة في مسامراتهن ولقاءاتهن، تشتد وتيرته حين تكون الخالة حاضرة، فتنبري شيماء بالرد والدفاع المستميت عنها، كأنها تدافع عن نفسها. يؤجج ذلك شخصية الخالة المتمردة الصلبة، وأطوارها ونوادرها الغريبة واعتدادها بذاتها، وقدرتها على السخرية والتهكم من الجميع، وشراستها ضد من يحاول التحرش بها. ناهيك بجمالها الذي لم يجر عليه الزمن. فدائماً لديها بصيرة ثاقبة وحاضرة، تضع عناوين وإشارات تلقائية مرحة وساخرة لنثريات الواقع المعيش، مفكِّكةً عقده وفواصله السميكة في البشر والأشياء بنزق طفولي باذخ. ورغم وعيها بالانتماء لشجرة هذه العائلة المترفة في أرستقراطيتها النمطية، لكنها دائماً تحتفظ بمسافة بينها... تسكن في الضواحي في المناطق الشعبية الهامشية، لا تعرف القراءة ولا اللغة، لكنها تعرف أن المكان ليس مجرد حوائط وجدران صلدة، إنه كائن حي يتنفس، تجب رعايته والحفاظ على بهائه ونظافته، كما أن تراكم الخبرة أكسبها منطقاً حياً من الفطرة، تستخدمه كلما لزم الأمر، وتركنه جانباً خشية أن تعتريه رخاوة الثرثرة وفساد الكلام.
تحت هذه المظلة تتوغل «شيماء» في طوايا الخالة، وبحكم المؤانسة والعشرة ترسم ملمحاً من شخصيتها المتقلبة: «حين يكون مزاج الخالة سيئاً، من الأفضل ألا يقترب منها أحد، (المود) التي تكون عليه يجعلها تُبدي طرائق مغيظة، من أجل ألا تُقتحَم، ألّا ينغص أحد عليها عزلتها، وعندما يصر الآخرون على العكس، كانت تتظاهر بأنها لا ترى، ولا تسمع، ثم تهرول بطريقة هزلية إلى الجانب الآخر من الطريق، مدّعية أنها ليست هي، رغم بريق الزبرجد في عينيها الساحرتين»... حدث هذا مع خالها وهو ينادي عليها في الشارع كي يسلم عليها، فهرولت مسرعة، وكادت تستغيث برجال الشرطة، مدّعية أن رجلاً يطاردها، مما يخلف رذاذاً من السخرية المرحة، يعد أحد مقومات السرد الشيقة في الرواية.
تتابع شيماء: سألتها مرة ضاحكة: «ألا توجد طريقة أنسب لاتّقاء اقتحام الناس، ألا يكفي أن تعتذري مثلاً، تقولي إنكِ في حاجة إلى السير وحدك، والإنصات إلى مخك؟! أبداً أخرج من بيتي لأتمشى فأجدهم في وجهي»... أدركت شيماء بفطنتها أن وراء كل هذا سراً في حياة الخالة، وحين حاولت أن تغريها بالبوح والفضفضة: «افتحي قلبك سرك في بئر، في الحفظ والصون»... ردت عليها: «ماذا نفعل بالأسرار المخبأة في البئر، وفي ماذا ستفيدنا؟».
في كل هذا لا تنصرف الرواية عن النظر إلى الواقع ومحاولة استكناه تحولاته وتقلباته، فبعين تمتزج فيها بداهة الجغرافيا بوقائع التاريخ، ترصد الرواية الواقع المزري في الأحياء الشعبية الفقيرة الهامشية، كاشفة فداحة البون الشاسع واللا إنساني الذي يظللها اجتماعياً وطبقياً، وفي رقعة زمنية تستعيد أجواء النصف الأول من القرن العشرين حتى تخوم اللحظة الحاضرة وزمن الميديا والإنترنت. كما تكشف عبر شجارات الشخوص، ومكائدهم الضاجّة بالسخرية والنميمة عن مدى التناقض والتشقق في واقعهم العائلي ومحيطهم الاجتماعي، حيث فضاء المجتمع المغربي، بعاداته وتقاليده وأعرافه العتيقة، وهو ما يثير صراعاً مكبوتاً ما بين إرث ينتمي للماضي بثباته ورسوخه، وإرث ينتمي للحاضر بحيويته وانفتاحه على آفاق المغامرة والتجريب... في هذه الفجوة الزمنية يبرز زمن الخالة كنقطة وصل حية ومتنامية بين الزمنين، وأكثر انفتاحاً على تخوم اللحظة الحاضرة، ما يجعلها بمثابة المثال الهارب من زمن وواقع النسوة الثرثارات، بل من شيماء المسكونة بهوس التوازن في لعبة المتناقضات، فرغم سنّها التي تخطت الثلاثين لم تَخُض تجربة حب واحدة.
أيضاً نلمح ظلالاً لصراع خفيٍّ بين العائلات، محكوم بسياقات تاريخية واجتماعية، بين المهاجرين والوافدين، وأسياد الأرض في مدينة آسفي بتاريخها العريق وموقعها الجغرافي المتميز، وهو صراع هوية: يبرز فيه سؤال «مَن أنت؟» كتميمة وجود وتميز مراوِغة، تشاغب من خلالها «صباح» أستاذة الفلسفة تلاميذها، وترى السؤال نوعاً من التعصب والهبل. فالفرح بالمكان يتجسد بمعايشته والحفاظ عليه وتنميته جمالياً وإنسانياً، وليس بالنكش في جذور ماضٍ عفا عليه الزمن.
تبلغ الرواية ذروتها بحنوٍّ بالغ الرهافة مشكِّلة خلاصة مسامرات الخالة لمرايا ماضيها وحاضرها، ومؤانستها لطفلتها المتبناة، التي كبرت في طفولة الزمن والحياة، كاشفةً لها في سياق تحقيق صحافي قررت شيماء أن تُجريه معها عن وقائع زيجاتها الخمس، والمناطق المحرَّمة الملتبسة والشائكة التي عاشتها في ظلالها، وكيف لم تصل إلى الحب وتستمتع به كما هو معتاد، وكما وعدتها مسبقاً بأنها سوف تكشف لها عنه في أوانه حين تكبر، وتصبح مؤهلة لاستيعابه... تطوي الخالة دفترها وهي تحكي بشجن آسر عن لحظة الحب الوحيدة في حياتها، عن ثمرتها المحرَّمة التي توحَّدت بها جسداً وروحاً، ولم تدم سوى أسبوع فقط؛ لحظة فارقة، ابنة المصادفة المحضة مع ابن جارتها الطالب الشاب النابغة في دراسته، والذي خانته عبقريته، فانطفأت روحه وشبابه، وأصبح منزوياً في حجرته، فاقداً أي شهوة للحياة. بضغط ملحٍّ من أمه تفك الخالة أسره، وتعيده إلى طبيعته بجمالها الفاتن، ثم يَلقى حتفه في حادث سير. ليظل هذا العقد غير المكتوب المنفلت من قبضة الزمان ديناً في عُنق الخالة، وهو السر الكامن وراء تعطرها وتجملها في ثوبها الأسود الأنيق مثل شابة في ليلة العرس، كلما همّت بزيارته بين الحين والآخر في مقابر «بويس» الفقيرة القابعة في أطراف المدينة.
هكذا، بذبذبة درامية شفيفة تصل هذه الرواية الممتعة إلى لطشتها الأخيرة فكأننا نعيش زيارة أُمٍّ محروقة على فلذة كبدها، وعاشقة اختصرت العمر كله في بضعة أيام، لكن حلمها لم يستطع أن يعبر الشارع بأمان.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟