مسامرات الزمن والأمومة في رواية مغربية

ربيعة ريحان تستعيدها في مرايا «الخالة أم هاني»

مسامرات الزمن والأمومة في رواية مغربية
TT

مسامرات الزمن والأمومة في رواية مغربية

مسامرات الزمن والأمومة في رواية مغربية

يتسع فضاء الحكي ويتنوع عبر تخوم الماضي والحاضر ويبرز بتقاطعات سردية شيقة، كسيرة لطفولة الزمن والحياة، في رواية «الخالة أم هاني» للكاتبة ربيعة ريحان، الصادرة أخيراً عن «دار العين» بالقاهرة.
تدور الرواية في فضاء شبكة من العلاقات والأنساب العائلية المحيِّرة والمعقَّدة، تلمّ شتاتها بطلتها «أم هاني» بروح من بداهة الفطرة والخبرة الحميمة المرحة، والتقاط ما وراء الملامح والصور. فمنذ البداية وعلى مدار 326 صفحة وحتى الختام، تتجول الخالة بعينيها الزبرجيدتين وجمالها الفاتن الغض واسمها الأندلسي الأصيل، في مسارات السرد كنهر دافق لا يكفّ عن العطاء.
امرأة أمية في عباءة الثمانين تسكن في الضواحي الشعبية، بالكاد تعرف الأرقام، أدمنت النظر إلى تمثال محمد الخامس فوق حصانه الأبيض في بهو البلدية الفسيح بمدينة آسفي، وما يمثله في الوجدان العام كرمز للاستقلال ومكافحة الاستعمار الفرنسي للبلاد. تقف الخالة مشدوهة أمامه، وتتأمله من زاوية خاصة، حتى أصبح الأمر بمثابة هواية تحرص عليها وهي في الطريق لزيارة ابنة خالتها وأسرتها في بيتها المنيف (الفيلا) الذي يشي بترف أرستقراطي. لكنّ هذه الزيارة المعتادة سرعان ما تتحول إلى صراع من الألفة، بين أمومة مفتقَدة تمثلها الخالة العاقر صاحبة الميراث القاسي والمرير من اليتم، خصوصاً بعد وفاة والديها وأخويها الصغيرين، وهي طفلة، والتنقل للعيش عند الخالات والعمات، ما دفع بها إلى خمس زيجات صادمة مرّت بها في حياتها، وبين أمومة مزدوجة، تجسّدها «شيماء» الساردة الأساسية، حيث تتبناها الخالة كابنة لم تنجبها وهي بعد طفلة لم تتجاوز خمس سنوات، امتثالاً لوصية جدة شيماء لأمها، وهي على فراش الموت بأم هاني: «قالت لها بعد جهد وهي تنظر لعينيها، وتمسك بكفها: عار بنت خالتك عليك. خدي بالك منها يا ابنتي، ولا تتركيها وحدها فهي يتيمة. وهكذا منحتني أمي ألواناً إضافية، وعيشاً عبر خُطى، هنا وهناك، في بيتنا مرة وفي بيت الخالة مرات».
أسئلة ساذجة وبريئة في عين طفلة تستعيدها شيماء من غبار تلك اللحظة فيما يشبه النجوى الداخلية: «هل فكّرت والدتي في الأمر ملياً وهي تعرضني على أم هاني؟ ألم يراودها الإحساس الأمومي بأنها ستفقدني ولن تراني، أكنت رخيصة إلى ذلك الحد الذي سمح لها بأن تأخذني لتتبناني، وتضع حياتي بموازاة حياتها المتقلبة؟ لماذا لم تفعل ذلك بأختي لمياء الصغيرة، آخر العنقود التي تحب النوم ولا تستيقظ للذهاب إلى المدرسة إلا بالشجار؟». لكن سرعان ما تنقلب هذه الأسئلة إلى إحساس عارم بالنعمة، فتحب شيماء أم هاني، تتعلق بها وتتباهى بسعادتها بتلك النزوة غير المعهودة من أمها «نزوة امرأة عاقلة ووفية»... يعزز هذا ما تضمره الأم من حب مخلص للخالة، وتعاطف مع ظروفها القاسية، ثم إنها ابنة خالتها، على عكس الأب موظف البنك عاشق الفرنسية، الذي يضجر من اللغة العربية، فلا يبالي بها، ودائماً يصدمها بمشاعره الجافة تجاهها، خصوصاً حين تكون في زيارة لهم، كما أنه وافق على مضض على ذهاب ابنته شيماء للعيش معها، مشترطاً ألا تناديها «ماما».
أحبت شيماء عالم الخالة، شبّت وترعرعت في كنفها، وأحسّت بأنها أصبحت مصدر سلام وحماية لها، حيث بدأ الجميع يتخلون عن نظراتهم المتدنية وأوصافهم المقززة لها، وأصبحوا ينادونها بـ«الخالة أم هاني»، وواصلت تعليمها بدأب، حتى درست التاريخ وتخرجت في الجامعة.
توفر فكرة الأمومة المزدوجة كقيمة معيشة، مساحة من الترحال في النص، والذهاب والإياب منه وإليه، كأنه مجموعة من المرايا والمحطات المتجاورة. تعززها لغة سردية سلسة، مفتوحة على حيوية المحكي الشفاهي اليومي ابن الروح الشعبية بتوتراتها العفوية الأليفة، والفصيح، ابن التراث في رسوخه السهل الممتنع، كما تلوّن مناخات السرد بنثار خاص من المحبة، يتوزع في مناخ الرواية بين كائنين (الأم والخالة) يشتركان في الصفة نفسها، ويبدوان أحياناً في سباق خفيّ على حب الابنة. التي تنصّب من نفسها «الصوت المعارض» لكل ما يحاك من أراجيف، خصوصاً على ألسنة نساء العائلة، فهي مادة التندر والمزاح المفضلة في مسامراتهن ولقاءاتهن، تشتد وتيرته حين تكون الخالة حاضرة، فتنبري شيماء بالرد والدفاع المستميت عنها، كأنها تدافع عن نفسها. يؤجج ذلك شخصية الخالة المتمردة الصلبة، وأطوارها ونوادرها الغريبة واعتدادها بذاتها، وقدرتها على السخرية والتهكم من الجميع، وشراستها ضد من يحاول التحرش بها. ناهيك بجمالها الذي لم يجر عليه الزمن. فدائماً لديها بصيرة ثاقبة وحاضرة، تضع عناوين وإشارات تلقائية مرحة وساخرة لنثريات الواقع المعيش، مفكِّكةً عقده وفواصله السميكة في البشر والأشياء بنزق طفولي باذخ. ورغم وعيها بالانتماء لشجرة هذه العائلة المترفة في أرستقراطيتها النمطية، لكنها دائماً تحتفظ بمسافة بينها... تسكن في الضواحي في المناطق الشعبية الهامشية، لا تعرف القراءة ولا اللغة، لكنها تعرف أن المكان ليس مجرد حوائط وجدران صلدة، إنه كائن حي يتنفس، تجب رعايته والحفاظ على بهائه ونظافته، كما أن تراكم الخبرة أكسبها منطقاً حياً من الفطرة، تستخدمه كلما لزم الأمر، وتركنه جانباً خشية أن تعتريه رخاوة الثرثرة وفساد الكلام.
تحت هذه المظلة تتوغل «شيماء» في طوايا الخالة، وبحكم المؤانسة والعشرة ترسم ملمحاً من شخصيتها المتقلبة: «حين يكون مزاج الخالة سيئاً، من الأفضل ألا يقترب منها أحد، (المود) التي تكون عليه يجعلها تُبدي طرائق مغيظة، من أجل ألا تُقتحَم، ألّا ينغص أحد عليها عزلتها، وعندما يصر الآخرون على العكس، كانت تتظاهر بأنها لا ترى، ولا تسمع، ثم تهرول بطريقة هزلية إلى الجانب الآخر من الطريق، مدّعية أنها ليست هي، رغم بريق الزبرجد في عينيها الساحرتين»... حدث هذا مع خالها وهو ينادي عليها في الشارع كي يسلم عليها، فهرولت مسرعة، وكادت تستغيث برجال الشرطة، مدّعية أن رجلاً يطاردها، مما يخلف رذاذاً من السخرية المرحة، يعد أحد مقومات السرد الشيقة في الرواية.
تتابع شيماء: سألتها مرة ضاحكة: «ألا توجد طريقة أنسب لاتّقاء اقتحام الناس، ألا يكفي أن تعتذري مثلاً، تقولي إنكِ في حاجة إلى السير وحدك، والإنصات إلى مخك؟! أبداً أخرج من بيتي لأتمشى فأجدهم في وجهي»... أدركت شيماء بفطنتها أن وراء كل هذا سراً في حياة الخالة، وحين حاولت أن تغريها بالبوح والفضفضة: «افتحي قلبك سرك في بئر، في الحفظ والصون»... ردت عليها: «ماذا نفعل بالأسرار المخبأة في البئر، وفي ماذا ستفيدنا؟».
في كل هذا لا تنصرف الرواية عن النظر إلى الواقع ومحاولة استكناه تحولاته وتقلباته، فبعين تمتزج فيها بداهة الجغرافيا بوقائع التاريخ، ترصد الرواية الواقع المزري في الأحياء الشعبية الفقيرة الهامشية، كاشفة فداحة البون الشاسع واللا إنساني الذي يظللها اجتماعياً وطبقياً، وفي رقعة زمنية تستعيد أجواء النصف الأول من القرن العشرين حتى تخوم اللحظة الحاضرة وزمن الميديا والإنترنت. كما تكشف عبر شجارات الشخوص، ومكائدهم الضاجّة بالسخرية والنميمة عن مدى التناقض والتشقق في واقعهم العائلي ومحيطهم الاجتماعي، حيث فضاء المجتمع المغربي، بعاداته وتقاليده وأعرافه العتيقة، وهو ما يثير صراعاً مكبوتاً ما بين إرث ينتمي للماضي بثباته ورسوخه، وإرث ينتمي للحاضر بحيويته وانفتاحه على آفاق المغامرة والتجريب... في هذه الفجوة الزمنية يبرز زمن الخالة كنقطة وصل حية ومتنامية بين الزمنين، وأكثر انفتاحاً على تخوم اللحظة الحاضرة، ما يجعلها بمثابة المثال الهارب من زمن وواقع النسوة الثرثارات، بل من شيماء المسكونة بهوس التوازن في لعبة المتناقضات، فرغم سنّها التي تخطت الثلاثين لم تَخُض تجربة حب واحدة.
أيضاً نلمح ظلالاً لصراع خفيٍّ بين العائلات، محكوم بسياقات تاريخية واجتماعية، بين المهاجرين والوافدين، وأسياد الأرض في مدينة آسفي بتاريخها العريق وموقعها الجغرافي المتميز، وهو صراع هوية: يبرز فيه سؤال «مَن أنت؟» كتميمة وجود وتميز مراوِغة، تشاغب من خلالها «صباح» أستاذة الفلسفة تلاميذها، وترى السؤال نوعاً من التعصب والهبل. فالفرح بالمكان يتجسد بمعايشته والحفاظ عليه وتنميته جمالياً وإنسانياً، وليس بالنكش في جذور ماضٍ عفا عليه الزمن.
تبلغ الرواية ذروتها بحنوٍّ بالغ الرهافة مشكِّلة خلاصة مسامرات الخالة لمرايا ماضيها وحاضرها، ومؤانستها لطفلتها المتبناة، التي كبرت في طفولة الزمن والحياة، كاشفةً لها في سياق تحقيق صحافي قررت شيماء أن تُجريه معها عن وقائع زيجاتها الخمس، والمناطق المحرَّمة الملتبسة والشائكة التي عاشتها في ظلالها، وكيف لم تصل إلى الحب وتستمتع به كما هو معتاد، وكما وعدتها مسبقاً بأنها سوف تكشف لها عنه في أوانه حين تكبر، وتصبح مؤهلة لاستيعابه... تطوي الخالة دفترها وهي تحكي بشجن آسر عن لحظة الحب الوحيدة في حياتها، عن ثمرتها المحرَّمة التي توحَّدت بها جسداً وروحاً، ولم تدم سوى أسبوع فقط؛ لحظة فارقة، ابنة المصادفة المحضة مع ابن جارتها الطالب الشاب النابغة في دراسته، والذي خانته عبقريته، فانطفأت روحه وشبابه، وأصبح منزوياً في حجرته، فاقداً أي شهوة للحياة. بضغط ملحٍّ من أمه تفك الخالة أسره، وتعيده إلى طبيعته بجمالها الفاتن، ثم يَلقى حتفه في حادث سير. ليظل هذا العقد غير المكتوب المنفلت من قبضة الزمان ديناً في عُنق الخالة، وهو السر الكامن وراء تعطرها وتجملها في ثوبها الأسود الأنيق مثل شابة في ليلة العرس، كلما همّت بزيارته بين الحين والآخر في مقابر «بويس» الفقيرة القابعة في أطراف المدينة.
هكذا، بذبذبة درامية شفيفة تصل هذه الرواية الممتعة إلى لطشتها الأخيرة فكأننا نعيش زيارة أُمٍّ محروقة على فلذة كبدها، وعاشقة اختصرت العمر كله في بضعة أيام، لكن حلمها لم يستطع أن يعبر الشارع بأمان.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!