مصادر الثقافة الفرعونية في روايات نجيب محفوظ

استفاد من كتب المؤرخين جيمس بيكي وسليم حسن

مصادر الثقافة الفرعونية في روايات نجيب محفوظ
TT

مصادر الثقافة الفرعونية في روايات نجيب محفوظ

مصادر الثقافة الفرعونية في روايات نجيب محفوظ

برزت الروح الفرعونية والحضارة المصرية القديمة مبكراً في أعمال نجيب محفوظ، ولم يقتصر ذلك على رواياته الثلاث الأولى؛ «عبث الأقدار» 1939، «رادوبيس» 1943، «كفاح طيبة» 1944. بل امتد إلى أعمال أخرى لاحقة، منها روايتا «أمام العرش» 1983 و«العائش في الحقيقة» 1985. هذا ما تكشف عنه دراسة شيقة أعدها الباحث د. محمد حسن عبد الله، وصدرت عن الهيئة العامة للكتاب، في كتاب بعنوان «جماليات الحضور الفرعوني في أدب نجيب محفوظ»، يقع في 299 صفحة من القطع الكبير. ويلفت المؤلف إلى أن مثل هذه الروايات تضع الزمن الفرعوني وشخصياته وقيمه وتصوراته وصراعاته في مركز الاهتمام الإبداعي لدى محفوظ، حتى إن هدف بعض منها أن يرسل ومضة إلى الحاضر ليكتشف جانباً فيه يحتاج إلى تنبيه الوعي أو حشد الخبرة بالماضي لتوجيه المستقبل. لكن السؤال يطرح نفسه؛ ما هي مصادر الثقافة الفرعونية عند عميد الرواية العربية؟
يعود بنا المؤلف إلى كتاب صغير وضعه جيمس بيكي بالإنجليزية، وترجمه الطالب الجامعي نجيب محفوظ عام 1932 وهو في العشرين من عمره، إذ يمكن أن نعد هذا الكتاب الذي أثار إعجابه فأقدم على ترجمته أول صلة علمية بين الأديب الشاب وإرثه الحضاري القديم. يرسم الكتاب صورة شيقة للحياة اليومية في مصر القديمة، سواء في العاصمة أو في الريف، ويعنى بشخص فرعون كما يعنى بالفلاح والصياد، ويصف المعارك كما يصف النيل والحقول ومساكن الفقراء وطبائعهم. ويشبه المؤلف الكتاب بالخميرة المبكرة التي تفاعلت في ذهن الأديب الشاب، كما سنجد فيه إشارات محددة وجدت لنفسها مكاناً في روايات الكاتب، مثل تكرار الإشارة إلى الحكماء ومكانتهم ووصف المدن وصفاً يقربها إلى مشاهد المدينة الحديثة؛ حيث المعابد العالية والرايات الخفاقة، كما يصف إضراباً للعمال ويبرز عراقة نظام الحكم وتدرج المراتب في القصر الملكي الفرعوني، كما يصف أبهة المواكب والاحتفالات. وهناك تفاصيل أخرى تظهر مدى تأثر نجيب محفوظ في رواياته الثلاث الأولى بهذا الكتاب.
وهنا يورد المؤلف ملاحظة مهمة بقوله: «على أننا لا نطمئن إلى إسناد التوجه إلى التاريخ المصري القديم في جملته وأساسه إلى هذا الكتيب على أهميته، ونرى أن المفكر سلامه موسى (1887 - 1958) كان مؤثراً فاعلاً في هذا الاتجاه، وإن كان يقال عادة إن تأثيره فكري سياسي في نفس الشاب الأديب الذي احترم في شخص سلامة موسى حقائق العلوم والتعلق بالاشتراكية». وقد ذكر محفوظ أنه اختار عنواناً مختلفاً لروايته الأولى هو «حكمة فرعون» وأن سلامة موسى هو الذي اختار «عبث الأقدار». وإذا كان شخص سلامة موسى يمثل سياقاً خاصاً فقد شهدت ذات المرحلة سياقاً عاماً شغوفاً باكتشاف آثار الفراعنة والانبهار بدلالتها الحضارية، ومن ثم لا نجد غرابة في اتجاه الكاتب إلى ذلك التاريخ الذي لفت أنظار العالم كله في تلك الحقبة من نهايات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

غزاة وملوك
وعن الموضوعات الأساسية التي تناولتها روايات صاحب نوبل الفرعونية، يوضح المؤلف أن روايته الأولى «عبث الأقدار» كانت تدور حول ملابسات بناء الهرم الأكبر ومعناه ومعاناة الملك خوفو الذي حمل الهرم اسمه، في حين تناولت «رادوبيس» الصراع بين الكهنة المثقفين والحاكم في نزوعه إلى الحكم المطلق، أما «كفاح طيبة» فتناولت الصراع بين ملوك الفراعنة والغزاة الهكسوس. ويلفت المؤلف إلى أن هذه الأحداث ذات أصل تاريخي نجدها لدى الباحث والمؤرخ جيمس بيكي الذي ذكر معلومات مثيرة تخص بعضاً منها، فضلاً عن إشارات طريفة أيضاً، مثل تعرض فرعون للاغتيال في قصره واستقدام الأقزام من عمق القارة. أفاد محفوظ من هاتين الإشارتين وكل هذه التفاصيل حيث أعاد صياغتها في قالب درامي فني. وهناك مصدر تاريخي آخر أفاد منه عميد الرواية العربية كثيراً وهو موسوعة مصر القديمة للمؤرخ المصري الشهير سليم حسن، والتي تعطي من تفاصيل التاريخ القديم ما يغذي عشرات من الروايات، إذا تهيأ لها كاتب موهوب مثقف مثل نجيب محفوظ. ناهيك عن أن سليم حسن، نفسه لا تخلو سيرة حياته من نبرة درامية، فقد حصل على درجة الدكتوراه من جامعة فيينا، وعين أستاذاً لكرسي الآثار في جامعة فؤاد «جامعة القاهرة» عام 1935. كما أتيح له القيام بحفائر أثرية ضخمة لحساب المتحف والجامعة، بين أهرام الجيزة وسقارة، غير أن المؤامرات التي حاكها زملاؤه الحاسدون أبعدته عن وظائفه بعد أعوام قلائل، ما جعله يتفرغ لتأليف موسوعته الرائدة المكونة من 16 جزءاً. ولا يستبعد المؤلف أن تكون هذه الموسوعة بمثابة الأصل الروحي والفكري والوجداني لما كتبه نجيب محفوظ عن الفراعنة استناداً إلى تطابق كثير من الوقائع، فقد قدّم محفوظ على سبيل المثال صورة خوفو مرتين في «عبث الأقدار» وهو يرى تمثال أبو الهول، في حين أن معظم الآراء المتداولة تشير إلى أن التمثال تم إنشاؤه بعد خوفو، وبالرجوع إلى موسوعة سليم حسن نجد أنه يقدم أدلة موثقة على إمكانية أن يكون تمثال أبي الهول موجوداً زمن الملك خوفو.
في رواية «كفاح طيبة»، تصدى الملك سكنن رع لجيش الهكسوس دفاعاً عن استقلال الجنوب، وحوصر في ميدان القتال ولقى مصرعه بطريقة شنيعة حيث انهالت عليه الضربات بالحراب والفؤوس والسهام حتى كسرت جمجمته. لقد وصفت هذه الرواية هذا المشهد البطولي وصفاً مؤثراً مفصلاً يأتي متطابقاً مع وصف مومياء الملك بحسب ما جاء في موسوعة سليم حسن التي تذهب كذلك إلى أن جثة الملك جُمعت أشلاء، حيث إن الهزيمة المباغتة لم تتح الفرصة لتحنيطها في الميدان، فحملت الأشلاء إلى مدينة «طيبة». وهو ما يتشابه إلى حد التطابق عند نجيب محفوظ، حيث يتسلم كهنة آمون جثة ملكهم، واحتفظوا بها في «قدس الأقداس»، فلم تبارحه إلى أن تمكن حفيده أحمس من طرد العدو من أرض مصر وعاد مع أسرته إلى عاصمته التاريخية.

إسقاط على الواقع
في رواية «رادوبيس» يذكر المؤلف أن نجيب محفوظ لجأ إلى أسلوب الإسقاط على الواقع من خلال تقديم صورة تاريخية قديمة تنتقد بشكل غير مباشر ما يحدث في الواقع الراهن، وتحديداً الشائعات عن فساد الملك الشاب «فاروق» زمن كتابة الرواية. لقد تراجع وصفه بـ«الملك الصالح»، ودلّت حادثة اصطدام سيارته عند قرية «القصاصين» بإحدى سيارات جيش الاحتلال البريطاني بمحافظة الشرقية على ما كان يعيشه من ألوان الفساد الأخلاقي والعبث بأموال الشعب، فأراد محفوظ أن يقدم حاكماً فرعونياً له صفات مشابهة ونهاية سيئة حتى يكون الربط بين المصيرين واضحاً. وعلى مستوى الحضور الإنساني، استخدم محفوظ مهارة عالية في جلاء المستوى الحضاري والخصوصية المميزة لمصر القديمة، دون أن يبدو هذا دعاية أو بقصد التفاخر. «إن الفرعون في روايتي (عبث الأقدار) و(كفاح طيبة) يتخلى تماماً عن نمط الجبابرة الذي وسمه به الخيال الشعبي، إذ يبدو هنا أباً رحيماً، حتى إذا بدا معبوداً فإن العبودية له طواعية تصدر عن إجلال له من شعبه واطمئنان إلى جدارته وقوته. وفي (عبث الأقدار) تحديداً يبدو الفرعون أقرب إلى شيخ القبيلة أو الزعيم، إنه خلافاً للصور التي يبدو عليها في التماثيل الشهيرة ذات الإزار والصدر العاري والساقين المكشوفتين، نراه يرتدي عباءة حريرية تلمع حاشيتها الذهبية تحت الشمس، وهو ملك وديع وابن نكتة، لا يجد حرجاً في ممازحة بعض رجال حاشيته فيداعب المهندس المعماري (ميرابو) مهندس الهرم قائلاً...
- أمرناك أن تشيد لنا هرماً فشققت نهراً، فهل تظن مولاك ملكاً على الأسماك؟».
ويكشف المؤلف أنه في متن الرواية نجد حرصاً على تأكيد مسؤولية الملك عن شعبه، وأنه المطالب بالبذل من أجل الشعب، وليس العكس. وفي الختام، يقدم خوفو حين أحس وهن الحياة واقتراب الرحيل البذرة المبكرة للسلوك الصوفي، كما أنه يبارك زواج ابنته الأميرة من قائد جيشه بطريقة رومانسية مغرقة في العاطفية، ويمضي راحلاً إلى العالم الآخر، عالم أوزوريس، وقد اكتسى وجهه بنور سماوي. أما الفرعون في رواية «رادوبيس» فهو الوحيد بين فراعنة محفوظ الذي طمع في أرض أوقاف المعابد، واصطدم برجال الدين، ودفع حياته ثمناً لنزواته في قصر الغانية التي تحمل الرواية اسمها بجزيرة بيجه. ومع هذا، فإن الدولة في عهده كانت في تمام رونقها.
ويخلص المؤلف في كتابه الشيق إلى أن الكاتب يستدرج السياق التاريخي، لتبدو صورة الحياة في مصر القديمة أبهى مما في زمنه، وكأن عملية من التبادل تتم في اتجاهين متعاكسين، حتى يمكن أن نجد صور الحياة المصرية في مدن القرن العشرين ماثلة حول طيبة، وآبو، ومنف، حتى الضواحي العشوائية وإدارة الموظفين. وفي الروايات الثلاث، تتجسد خبرة محفوظ في المعرفة بنظام البروتوكول وأصول المراسم، فضلاً عن رقي النظام الوظيفي والاجتماعي في مصر القديمة بصفة عامة.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.