سنوات السينما

إيمانويل بيار في مشهد من «الضالون»
إيمانويل بيار في مشهد من «الضالون»
TT

سنوات السينما

إيمانويل بيار في مشهد من «الضالون»
إيمانويل بيار في مشهد من «الضالون»

Les Égarés (2003)
عائلة تاهت على طريق هزيمتها
التقييم: (****) ممتاز
صيف عام 1943 الدفاعات الفرنسية تنهار سريعاً أمام تقدّم طوابير المدرعات الألمانية. الحكومة الفرنسية تَفرّ من باريس جنوباً نحو مدينة بوردو. الفرنسيون في حالة من الذهول والصدمة والشعور بالضياع الكامل. عشرات الآلاف يجمعون في عرباتهم وسياراتهم ما يستطيعون للفرار بعيداً. كثيرون لم يكن لديهم وجهة مُحددة. هذيان وفزع جمعي غريزي يُحرك الناس دون هدف ودون بوصلة.
يبدأ المخرج الفرنسي أندريه تيشينه فيلمه البديع «الضالون» (بمعنى «التائهون») بسلسلة من المشاهد الوثائقية المُكَبّرة وبالأسود والأبيض والتي يبدو جليّاً أنه اختارها بعناية لترمز لحال الأمة لحظتها ولحال شخصياته: مبان تنهار تحت القصف، جنود فرنسيون يفرّون بلا هوادة من خطر الاعتقال أو الموت، جندي يسقط عن جواده ويسارع للفرار من الخيالة الذين يأتون خلفه والذين يدوسون بحوافر خيولهم الجامحة الفرس الذي سقط.
هي إذن فوضى كاملة وهزيمة مُذلّة وضياع لا حدود له يُغلف الوطن بشكل عام كما أفراده. أولئك الأفراد نراهم في طابور طويل من السيارات والعربات التي تجرها الخيل عالقون على طريق ريفي ضيّق. هم حُطام أمة تاهت في هزيمتها.
تبدأ الحكاية ذاتها على إحدى تلك طرقات النزوح. الكاميرا، من زاوية مرتفعة، تأخذ اللقطة العامة قبل أن تتحرك نحو تفاصيل فردية تُلخص اليأس والإحباط على وجوه النازحين. فجأة هدير طائرة في السماء. من خلف الأشجار العالية تظهر دون إنذار لتنقضّ على طابور النازحين وتبعثرهم على جانبي الطريق.
بعد ذلك ندخل في حكاية شخصية لأوديل (إيمانويل بيار أكثر من ممتازة) أرملة، قُتلَ زوجها في الأيام الأولى للحرب وهي تقود ولديها نحو نجاة محتملة. يعرض إيفان (غاسبار أوليل) مساعدة الأسرة النازحة على إيجاد حل لضياعهم. هو شاب يحمل أمراً غامضاً في حاضره كما في ماضيه، أمراً مشؤوماً يثير قلق أوديل لكنها توافق على مرافقته لأنه العون الذي قد يتيح لها ولولديها النجاة. هذا التناقض في علاقة الشخصيات هو سِمة فيلم تيشينه التي تمتد فوق الحدث الماثل لتتمحور حول تلك الشخصيات وهمومها. ففي موقع خلاب من الريف الفرنسي يعثر إيفان على بيت كبير هجره قاطنوه ليقيم فيه مع الأرملة وولديها. بيئة ساحرة، هادئة تجعل من المُستحيل أن يصدق المرء أن قسوة الحرب والموت يقعان على مسافة غاية في القرب. ربما عند أطراف الغابة القريبة.
يُظلل هذا التناقض أيضاً علاقة الأرملة أوديل بالشاب، لكنه لا يمنع أن تندفع إليه في لحظة انكسار مُطلق ليمارسا الحب في هذيان فيه من الرغبة أكثر مما فيه من الحب. ففي حالة الضياع لا تبدو الشخصيات قادرة على الحفاظ على توازن المنطق ولا القيَم.
ذكر البعض أن الفيلم هو عن بشاعة الحرب وإبادتها لكل ما هو جميل ونبيل. لكن المخرج يذهب لما بعد ذلك فيروي انهيار قيم المجتمع الفرنسي وليس فقط لدى الدولة والجيش اللذين هربا تاركين الناس لتواجه وقع ما يحدث لها في ظل الهزيمة.
أجمل ما فيلم تيشينه هو قدرته على ضبط توازن فيلمه وأداء ممثليه. فالرواية الأدبية التي استند إليها الفيلم («الصبي ذو العيون الرمادية» لجيل بيرو) فيها من العناصر مما قد يستدرج مُخرج غير متمكن إلى دراما فاقعة أو ميلودراما سقيمة عن بشاعة الحرب. لكن تيشينه منح الفيلم ثباتاً ورزانة. دفع بالتفاصيل الحياتية إلى الواجهة. أظهر تمسك العائلة بالقيم الشكلية أمام انهيار سواها. ففي كل مرّة تجهز أوديل طاولة الطعام تهتم بممارسة طقوس المناسبة دون تغيير. هذه التفاصيل هي آخر ما بقي من منظومة القيم التي تهاوت.
بالنسبة لأوديل فإن المشاعر تموج تحت السطح وهي تحاول أن تتماسك أمام تلاشي عالمها. امرأة خسرت كل شيء حولها لكنها لا تريد أن تخسر ذاتها وولديها معاً.

(*) لا يستحق
(**) وسط
(***) جيد
(****) ممتاز
(*****) تحفة


مقالات ذات صلة

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
سينما «من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة

محمد رُضا‬ (سانتا باربرا - كاليفورنيا)

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.