رواية «موت الأم» بوصفها الصورة الأخرى لفجيعة وطن

يطمح حنون مجيد إلى أن يجعل مدونته مخطوطة مفتوحة للمؤرخين عن مجازر العراق

رواية «موت الأم» بوصفها الصورة الأخرى لفجيعة وطن
TT

رواية «موت الأم» بوصفها الصورة الأخرى لفجيعة وطن

رواية «موت الأم» بوصفها الصورة الأخرى لفجيعة وطن

رواية القاص والروائي حنون مجيد «موت الأم» (2020) تتناول ظاهرة مهمة وشائعة في الرواية العربية والعالمية، هي ظاهرة موت الأم، والنتائج التي تتركها في نفوس أبنائها وأسرتها. وليست بعيدة عن الذهن صورة موت الأم في رواية «الغريب» لألبير كامو، كما أن الرواية، بدءاً من عنوانها ترغمنا على استحضار رواية أحمد خلف المعروفة «موت الأب»، مع الفارق الكبير بين دلالة الموتين في الروايتين. ومثل هذا الموت للأم أو للأب على السواء يركز على الغياب أو الفقد أو الرحيل أو الخسارة التي يحس بها أفراد الأسرة، نتيجة هذا الموت، مما يحول الرواية في أحايين كثيرة إلى مرثاة حزينة.
في رواية «موت الأم»، يستهل الروائي حنون مجيد سرده عبر توظيف ضمير المتكلم (أنا) للراوي المركزي في الرواية، الابن (رأفت)، الذي ينقل لنا مشاعره وهو يصف الساعات الأخيرة لاحتضار أمه (ليلى) وأصداء ذلك على نفسية أخته (آمال)، وموقف الأب المتسلط (عبد الغفور) وسلوكه المتناقض والمحيّر.
وتبدو لنا شخصية الأب، منذ البداية، شخصية متسلطة وطاغية:
«الآن صار بوسعي أن أدرك جيداً امتداد سطوته على غيرنا». (ص 9 - 10) وسنكتشف لاحقاً تناقض هذا الرأي مع مؤشرات سلوكية أخرى تكشف عكس ذلك. ويشعر رأفت، الابن، والراوي الرئيسي إن أمه ضحية (ص10) وهو ما يخلق لدى القارئ أفق توقع يتعلق بسبب موت الأم ومن يتحمل مسؤولية موتها بوصفها ضحية.
لكن سرد الراوي المركزي رأفت ينقطع فجأة، دونما مقدمات أو تمهيد بدخول سارد جديد هو خالد، صديق رأفت العائد من بلجيكا، بعد أن هرب من عملية اعتقال مؤكدة في زمن النظام الصدامي، بعد اختطاف صديقه (ماهر) ليلاً وقتله في أقبية التعذيب وتسليم جثته في صباح اليوم التالي.
ويتساءل خالد بينه وبين نفسه عن تلك المرأة البيضاء، وفيما إذا كانت هي سليمة، التي ذكرته بمخطوطة «المدينة الفائرة» المفقودة. وهنا نجد لأول مرة، ذكراً لمدونة ضائعة كان يبحث عنها خالد، وربما رأفت أيضاً بعد اختفائها، كما سنكتشف لاحقاً، بعد مقتل ماهر على أيدي جلادي النظام الديكتاتوري الصدامي. ويخيل لي أن المؤلف أراد لهذه المخطوطة المفقودة التي تحمل اسم «المدينة الفائرة» أن تلعب دوراً تنبؤياً، كذلك الدور الذي لعبته مخطوطة (ملكيادس) في رواية «مائة عام من العزلة» لماركيز، أو ربما مثل مخطوطة السيد نور في عدد من روايات عبد الخالق الركابي. لكننا لن نكتشف، من خلال ملاحقتنا لبطل المخطوطة هذه أي إضاءات لاحقة ترتبط بمسار الأحداث الروائية، بل ظلت مجهولة بما تحملها من بيانات أو نبوءات أو شهادات عن تلك المرحلة أو غيرها، اللهم إلا في الفصل الأخير من الرواية، وهو الفصل الواحد والعشرون، والذي نجد فيه إشارات مهمة إلى أن المدونة قد كتبت منذ التأسيس، واستمرت حتى قبل بضعة أعوام، والمفارقة في الأمر أن كاتبها اليساري بعد أن شعر بانكشاف أمره سلمها إلى غيره وأختفى». (ص262) ومن الطريف أن تنتقل المخطوطة إلى العديد من الأيدي، وأضيفت إليها العديد من الروايات والحكايات حتى وصلت، وهي مفارقة إلى يدي (ماهر) الإسلامي الذي قُتل تحت التعذيب، وهو ما يجعلها سفراً مفتوحاً مثل مخطوطة السيد نور في روايات عبد الخالق الركابي. ويبدو أن المؤلف كان يطمح إلى أن يجعل مدونته مخطوطة مفتوحة للرواة والحكائين وشهود العصر على مرحلة الاستبداد التي مربها بها العراق في عهد صدام حسين. ويتحدث خالد عن هذه المخطوطة التي ظل يبحث عنها دونما جدوى فيقول: «في مثل هذه الأيام جعلت الأخبار تترى عن محتوياتها، فوصفها أحدهم بأم الكتب، مثلما وصفوا المدينة الفائرة بأم العراق». وندرك أن خالد قد خيّل إليه، أنه سيعثر على المدونة ليعرضها على المنظمات المدنية هناك، ليطلع العالم على أحداثها الدامية، ويميط اللثام عن الحيف الذي لحق بها منذ تأسيسها في الستينات. وأتساءل هنا فيما إذا كان بالإمكان الافتراض أن رواية حنون مجيد هذه هي المخطوطة الضائعة، أو أنها إحدى نسخها الافتراضية، خاصة أن خالد كان يحلم بتحويلها إلى رواية جديدة تضاف إلى رصيده الروائي والقصصي البالغ ثلاث روايات وثلاث مجموعات. وليس من الصعب على القارئ أن يستنتج أن خالد هنا يرتدي قناع المؤلف حنون مجيد، وربما العكس، من خلال الاستدلال على عدد الروايات والمجموعات القصصية، وهو أمر يؤشر المنحى الميتا سردي لرواية «موت الأم» من خلال البحث عن مخطوطة ضائعة، ومحاولة كتابة سيرة تخيلية للمدينة تحت ظروف الاستبداد والقمع والحرب، كما أن ذلك يدفعنا إلى تذكر أن «رأفت» نفسه كان يطمح إلى أن يكون قاصاً، وهي إشارة ربما تكشف عن قناع آخر، يرتديه الروائي، أو المؤلف هو قناع «رأفت»، الذي يمتلك كل أسرار الحدث الدرامي، بوصفه فرداً مؤثراً داخل مشاهد «الدراما الأسرية» المركبة. ومما يشدنا إلى الرواية أنها ذات بنية دائرية. إذْ يعود الفصل الأخير من الرواية إلى استكمال مشاهد الفصل الأول المتعلق بإقامة مراسم العزاء للأم داخل الخيمة، وبحضور عدد كبير من الأقارب وأبناء المحلة، ومنهم خالد العائد من بلجيكا.

تجميد الزمن
ويبدو أن الروائي حنون مجيد قد عمد إلى تجميد زمن السرد الذي بدأ به في الفصل الأول من الرواية لتحقيق مثل هذا القطع، ويرجئ استكمال ما حدث داخل خيمة العزاء حتى نهاية الرواية وفي فصلها الأخير تحديداً، ضمن لعبة سردية ماكرة، أومأ لها بخفاء من خلال بعض النبوءات أو حالات «الاستباق السردي» التي قدمت في الفصل الأول ومنها إشارة (رأفت) إلى قرب انتهاء مراسيم العزاء دونما مخاطر حدوث تفجير داخل الخيمة.
وفعلاً يتحقق هذا الاستباق السردي لاحقاً، ولكن في فصل الرواية الأخير، وبعد أن يرفع المؤلف حالة التجميد التي أدخل فيها الزمن والسرد معاً، حيث يكتشف رجال الأمن أحد الإرهابيين وهو يحمل حزاماً ناسفاً ينوي تفجيره داخل خيمة العزاء، ويلقون القبض عليه قبل إقدامه على مثل هذا الفعل الإرهابي الإجرامي.
وهكذا يتحول المتن الروائي إلى كبسولة سردية، وقد جمدت في نهاية فصلها الأول لإتاحة الفرصة لتأثيث الحياة الداخلية لأسرة عبد الغفور، ومعاناة الناس من خلال الاستذكار والشهادات التي يقدمها عدد كبير من الرواة الذين يشتركون في عزف هذا النشيد البوليفوني الحزين، والذي دونته مخطوطة «المدينة الفائرة».
ومع أهمية السرد المركزي المهيمن لرأفت بوصفه سارداً رئيسياً في الرواية، لكننا لا يمكن أن نغفل أدوار بقية الساردين، ومنهم خالد الذي يقدم إضاءات مهمة، تخرج بالرواية من جمودها وسوداويتها إلى آفاق جديدة. إن ظهور خالد يمنح الرواية رؤياً جديدة حتى للمشاهد اليومية المألوفة في المدينة، وفي محلة باب الشيخ بوصفها البنية المكانية، وكذلك بنيتها الإطارية، إذْ نجد خالد، في الفصل الأول وهو يعيد تقديم مرئيات المدينة عبر عين بريئة ومندهشة تعيد اكتشاف الأشياء في براءتها الأولى، ربما تحقيقاً لمقولة الشكلاني الروسي (شكلوفسكي)، عن عملية التغريب في السرد، وتقديم الأحداث المألوفة، وكأنها تشاهد للمرة الأولى.

البؤرة المركزية
وبذا يصبح المتن الداخلي تفسيرياً، بمعنى أنه ينهض بمهمة تحديد الإشكالية، وبيان جوهر المحنة التي تعرضت لها أسرة عبد الغفور، وتحديد المسؤولية «الجنائية» - إذا جاز التعبير - عن سبب وفاة الأم، حيث سنكتشف مجموعة من الأسباب الخارجية والداخلية المهمة التي جعلت منها «ضحية» تارة و«شهيدة» تارة أخرى، في مقدمتها تعرضها إلى صدمة شديدة عند مرور طائرة حربية أميركية على ارتفاع منخفض أثارت فزعها مما تسبب في سقوطها من السلم وتعرضها إلى إصابات شديدة، وقد تسبب هذا الحادث إلى إصابتها باضطراب نفسي وعصبي وفسلجي، أضعف قدرتها على مقاومة صدمات الحياة والواقع، ومنها شكوكها بخيانة زوجها عبد الغفور لها من خلال عثورها على مظلة نسائية ملونة مخبأة بين ملابسه، وهو ما أدى إلى تهالك جسدها وصحتها وموتها.
والرواية، أو بالأحرى متن الرواية، عبارة عن عملية تشريح داخلية لشخصية الأم ومعاناتها أولاً وعملية تشريح قاسية لبقية الشخصيات الروائية.
ورغم كون رواية «موت الأم» تنتمي إلى ما يسمى بالدراما الأسرية، لأن هموم الأسرة ومشاغلها وصراعاتها تظل هي البؤرة المركزية المحركة لأحداث الفعل الدرامي في الرواية، مما يجعل الأسرة بنية إطارية داخلية أخرى، فإن الرواية، مع ذلك لا تظل أسيرة الأسرة الواحدة وجدرانها الأربعة، وإنما تنفتح على العالم الخارجي، اجتماعياً وسياساً وثقافياً، فتتحول إلى رواية اجتماعية مضادة للحرب، والاحتلال والاستبداد، وتحمل رسالة تنطوي على فضح جرائم النظام الديكتاتوري الصدامي التي دونتها صحيفة أو مدونة «المدينة الفائرة» المفقودة.



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.