توظيف الفضاء السيبراني... شعرياً

عيد صالح يكشف تناقضاته في «ماذا فعلت بنا يا مارك؟»

توظيف الفضاء السيبراني... شعرياً
TT

توظيف الفضاء السيبراني... شعرياً

توظيف الفضاء السيبراني... شعرياً

يبدو سؤال الشاعر عيد صالح في ديوانه «ماذا فعلت بنا يا مارك؟» الصادر عن «دار الأدهم» بالقاهرة، وجودياً بامتياز لا يبحث عن يقين ما ولا ينتظر إجابة محددة، مسكوناً بغرابة انخفض فيها سقف الخيال المفتوح على براح المجهول، وأصبح حقيقة تمشي على الأرض بقدم عرجاء وروح مشوهة. كما ينفتح على ضجر العالم وصخبه، ويبرز كسؤال هوية مبتورة وهشة، تفتش في الانتماء عن معنى الانتماء نفسه، وفي الحرية عن معنى الحرية نفسها، وفي الفوضى عن معني آخر للجنون والهذيان.
لا شيء قابلاً للصدق والكذب في الفضاء السيبراني، بل لا شيء موجوداً أصلاً. هكذا على عتبة نفي كأنه الإثبات، وإثبات كأنه النفي، تبني الذات الشاعرة موقفها من الوجود والواقع والعالم والأشياء؛ متخذة من هذا الفضاء دلالة على المسخ والتكرار، ونفي القدرة على التفرد والخصوصية، في وقت أصبحت فيه الحياة مجرد مجموعة من الحجرات مفتوح بعضها على بعض، كاسرة أفق التجاور الرخو في اللامكان واللازمان، إلى حد شرعنة التعرّي كملاذ وحيد للتخفي، حيث لا حقيقة مجردة مكتفية بذاتها، إنما في قدرتها على العيش في كنف الضد، كأنه كينونتها الهاربة المسكوت عنها...
يحدث هذا في اللحظة نفسها والزمن نفسه، سواء هنا أو هناك، أو فيما مضى، وما هو كائن، وما سيكون. على هذه الأرضية، تتناثر أسئلة الذات وحيرتها الشائكة الملتبسة المستريبة من كل شيء في قصائد الديوان وصفحاته التي تربو على المائتين. وبروح غاضبة يخاطب الشاعر «مارك زوكربيرغ» مؤسس موقع «فيسبوك» وصانعه، ويصب جام غضبه عليه إلى حدّ اللعنة، في نص بعنوان «مارك» يقول فيه:
«هذا اللعين مارك
نزع الفرادة والخصوصية
حتى الجينات تمازجت
لتُنتج مسخاً
أراني في كثير من الوجوه والنصوص
حتى ذلك القروي الذي كان يقف بالساعات
ليحظى بنظرة خاطفة
والذي طارد في أحلامه مارلين مونرو
وظلت صورة شيري ماكلين بالأبيض والأسود
مع صورة هيمنغواي وجون كينيدي
في حافظته حتى بليت.
كلهم شعراء وفلاسفة وجنرالات
كلهن ملكات جمال الفيس
هكذا يبدو المشهد في هذا الفضاء السيبراني اللاهث حيث كل شيء مركب ومتجزّأ، مادي وغير مادي، محسوس ولا محسوس، ما ينعكس على مغامرة الذات في فضاء الشعر الرجراج، ويصبح الشك نزعة أصيلة لمحاولة المعرفة، بل محاولة التكيف والإذعان.
ولا يهم أن تتم هذه المحاولة باسم التمرد أو الرفض أو الخديعة، فكلها صور للاستلاب يكشف عنها الديوان، ويعرّي تناقضاتها على مسرح لا بداية له ولا نهاية، فليس ثمة نص محدد، أو صراع معلوم، أو حبكة يمكن أن تكسر منطق التأويل المفرط للشيء، واللا شيء معاً، في الفهم والإدراك وفك التباس الدالّ بالمدلول، التباس الشك باليقين، الفوضى بالضرورة، الصورة بالأصل، وقبل كل شيء التباس الحقيقة بظلالها، في هذا الفضاء اللاهث المجنون.
ومن ثمّ يبرز في الديوان ما تمكن تسميتها «ازدواجية المعنى»، وتتجلى على مستويات شتى: اللغة والشكل والمضمون، الرؤية والمغامرة مع الداخل الذاتي والواقعي العام، كما تعلو نبرة التهكم والسخرية وتصبح سلاح الذات في مواجهة رعب عالم افتراضي، لم يعد فيه المجهول أسطورة إنما حقيقة معيشة ومعطى يومي، أصبح من مفردات الحياة ونثرياتها الاعتيادية المألوفة... تعي الذات الشاعرة ذلك، وأنه ليس أمامها، سوى الاشتباك مع هذا العالم الجديد والتفاعل مع مغامرته السيبرانية، حتى تخلص لسؤالها الخاص، ابن الشعر والحياة، وتدفعه نحو الجِدة والمغامرة.
تعاود الذات الشاعرة مساءلاتها لمارك برؤية مغايرة، تنصّبه خصماً، وتحت شرف الخصومة تحاوره بحدّة، مستندةً إلى حائط التاريخ، لإعادة القراءة واستجلاء الحقيقة، وطرح الأسئلة من جديد. مثلما يطالعنا في نص بعنوان «كيف؟» يقول فيه:
«كيف حدث هذا
مَن منّا حذف الآخر يا مارك
لا أتصور إلا أن تكون مشاغبة منكَ
لن أذهب حد المغامرة الكونية
التي تتربص بي فيمن أحبّ
دَعْكَ من ألاعيب الواقعية السحرية
والتي أشعلتَ بها الحروب والقلوب
وجمَّعتَ العشاقَ والمراهقين والمتصابين والفصاميين
بنواصيك ونواديك
لا يتصالح الشاعر مع «مارك» الأميركي اليهودي رغم أنه يخاطبه في النص الذي وسم عنوان الديوان (ص 88) بالعبقري الشرير، صاحب الفضاء الفاجر، وفي الوقت نفسه، يذكّره بـ(ألفريد روزينبورغ، الألماني مفكر النازية الشهير أحد المقربين من هتلر، في أثناء الحرب العالمية الثانية: «ككم لصوص يا روزينبورغ - ونحن قرويون سذج - لا نزال نصفق لمهرج السيرك - وهو يحصد أرواح العالم - في عنجهية»).
أيضاً لا يومض التاريخ في النصوص كعظة أو عبرة، أو قناع لحكاية مكتملة، انتهت فصولها إلى غير رجعة، وإنما يأتي كسؤال مفتوح على الماضي والحاضر، يتنوع بصيغ ورؤى فنية وشعرية متباينة، كاسراً أفق التوقع؛ تارةً بالموازاة مع الوجع والحلم الإنساني ونشدانه العدل والحرية والشعور بالأمان. وتارةً بتوظيف آلية الإرجاء والاحتمال، وتغييب المشبه به، لإبراز هشاشة العلاقة في عالم رتيب، أصبح الضجر قانونه السائد.
أضف إلى ذلك، إبراز «اللاءات»، في عناوين الكثير من النصوص (لا شيء، لا وقت، لا أحد، لا ضير، لا أجد ما أقوله، لا أجد ما يليق بك)، وفي الوقت نفسه تأكيد فعل الإرادة (أريد قصيدة لا تمثلني، أريد أن أبكي، أريد أن أحكي)، ناهيك بالاعتماد على صيغة التنكير والكلمة الواحدة، والضمائر المفردة، وأسماء الوصل والإشارة والحال والنفي (أنا، أنت، تلك، كيف، حيث، ليس) وغيرها، ما يجعل العناوين بمثابة مفاتيح خاطفة، تتماثل مع مفاتيح الفضاء السيبراني، والتي تعتمد على مجرد الضغط الخفيف على الزر.
يسهم هذا في تعدد خطاب الذات الشاعرة وينمّي حيوية حوارها مع مرآتها الخاصة، حيث صورة الأم والعائلة وظلال الصِّبا والطفولة وملامسة النشوى الأولى في الطبيعة والأشياء والعناصر، كما تنفتح على العالم في مرايا الآخر، بثنائياته الشرهة وكوارثه وكوابيسه التي لا تنتهي. فيما تصبح أكثر حميمية، تلتمس الونس والدفء في مرايا الشعراء والكتاب من أصدقاء الدرب ومكابدة الفرح بالشعر والحياة... يقول في نص بعنوان «كأن» يختم الديوان:
«كأن المكان يشبه المكان
والمدينة كأنها هي
والمقهى والنادل
والعابرون في الشارع
والرصيف المتهدم
والجونلة المتطايرة
والأعين المتلصصة
والشيخ المحوقل
يصب نظراته ولعناته
مشهد من عمق الواقع اليومي، أراد الشاعر أن يخفف من وطأته بعلاقة مضمَّرة من التشبيه الناقص، تاركاً صداها يتردد في التنديد باغتيالات الزعماء المؤسسين ومنهم: الحريري، وياسر عرفات، والشيخ يس، وفي نداءات الأمل المجهَضة اللاهثة، على رموز الثورة والتحرر (يا عبد الحليم ليست الصورة كما غنيت - يا ناصر، رفعنا الرأس في الميدان - وجزّها الرفاقُ والعسس)... لا يخلو المشهد من إحساس ما بالدراما، لكنه يمر سريعاً فوق السطح، بينما يتكثف في النصوص المشدودة إلى الداخل، حيث الذات تحنُّ لمرثيتها المعلّقة بين الماضي والحاضر، والذي يجسدها الشاعر في نص لافت بعنوان «جريمة» يقول فيه:
«أنا الميت الحي
أجترُّ ماضي الذي كان
كخرقة بجوار حائط متهالك
كقطة تكاثَر الذبابُ حولها
كآثار حذاء مثقوب
في وحل حارة معتمة
كنت أبحث فيها عن أختي الضائعة»
وبعد: عيد صالح، أحد الأصوات المهمة في جيل شعراء السبعينات في مصر، جمع بين خبرة الطب وكهانة الشعر، وها هو يواصل صوته في هذا الديوان، ويدفعه إلى آفاق أرحب بشغف المغامرة والحب.



مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.