هل تصلح السيرة الذاتية لكتابة رواية؟

أجزاء واسعة من «حياة ثقيلة» تدور في السجون والمعتقلات الأمنية العراقية

غلاف {حياة ثقيلة}
غلاف {حياة ثقيلة}
TT

هل تصلح السيرة الذاتية لكتابة رواية؟

غلاف {حياة ثقيلة}
غلاف {حياة ثقيلة}

صدرت عن «دار الأدهم للنشر والتوزيع» بالقاهرة رواية «حياة ثقيلة» للقاص والروائي العراقي سلام إبراهيم المقيم في الدنمارك منذ عام 1992 وحتى الآن. وهي رواية يمكن أن تصنف ضمن «أدب السجون» من دون أن تفقد قيمتها كنص أدبي يستقي مادته الأساسية من المذكرات والسيرة الذاتية. ونظرا لاهتمامات المؤلف الثقافية وانخراطه في العمل السياسي المبكر في صفوف اليسار العراقي، فقد تعرض للسجن والتعذيب الجسدي والنفسي 4 مرات خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، الأمر الذي يضعه أمام معين لا ينضب من اليوميات المحتدمة، والذكريات المتلاحقة التي تنطوي على قدر كبير من الألم الممزوج بالدهشة والإثارة والتشويق في بلد غرائبي ملطخ بالدماء منذ بدء الخليقة وحتى الوقت الراهن.
لا تنفع الذكريات المثيرة وحدها أو التجارب الشخصية المتفردة في خلق عمل روائي ناجح ما لم ينتظم في بنية رصينة لا يعتورها الخلل أو الارتباك ولا تنقصها الحرفة السردية القادرة على إثارة المتلقي وإقناعه. وبما أن سلام إبراهيم هو كاتب روائي متمرس فقد وظف هذه الذكريات المثيرة واليوميات المحتدمة وصنع منها جل أعماله الروائية التي نجحت لأسباب متعددة، من بينها التقنية الحاذقة، والسرد الفني المحبوك، ومصداقية الكاتب الذي يروي الأحداث من دون أن يقع في فخ التلفيق أو تزوير الحقائق لأن مصداقية الكاتب تضمن له نصف النجاح في أقل تقدير.
تنقسم «حياة ثقيلة» إلى 3 أقسام رئيسية، وهي «لبناء عالم جديد»، و«وينك يا بلدي» و«إييييييييي خلصت». وعلى الرغم من أن الراوي العليم هو الكاتب نفسه الذي يسرد الأحداث بضمير المتكلم فإن أبطال الأقسام الـ3 مختلفون ولكل منهم عالمه المأساوي الخاص به الذي يكشف في خاتمة المطاف عن فجيعة شريحة اجتماعية بأكملها. ولكي نكون منصفين يتوجب علينا القول إن القسم الرابع الذي نستشفه من هذه الرواية برمتها هو صوت الراوي وخالق النص الذي تحدث عن محنته كشخصية رابعة مفجوعة قد تفوق أهميتها الشخصيات الـ3 التي أثثت النص السردي لأنه كشف المحجوب، وفضح المسكوت عنه، وباح بالأشياء اللامفكر فيها دفعة واحدة، وهذا سر آخر يضاف إلى أسرار نجاح هذه الرواية الجريئة التي خرقت المحظورات بشجاعة أدبية نادرة.
لا بد من الإشارة أولا إلى شخصية الراوي المكتنزة بالذكريات الحميمة والأحداث المتشابكة التي سيتخذ منها مادة أولية لهذه الرواية التي جاورت السيرة الذاتية ونهلت منها الكثير إلى درجة تطابق الكائن السيري مع الاسم المثبت على غلافها من دون أن تفقد هويتها التجنيسية كنوع أدبي قائم بذاته، وإن كان محايثا لليوميات والمذكرات والسيرة الذاتية.
يطرح الراوي سؤالا ذا شقين، الأول يتعلق به شخصيا مفاده: «ما الذي فعله به المنفى على مدى سنوات طوال؟»، والثاني: «ما الذي فعله العراق بالعراقيين جميعا خلال سنوات القمع الوحشي، والحروب الهمجية، والحصار الظالم؟».
تكمن أهمية الراوي العليم «سلام» في جرأته المفرطة، وقدرته الفذة على البوح والمكاشفة أكثر من الشخصيات الرئيسية الـ3 التي تعرضت لهزات دراماتيكية قلبت حياتها رأسا عقب، وهي على التوالي أحمد وسعد وحسين، لكن هذا المربع الفكري اليساري لن يكتمل ما لم نضع «سلام» أو الراوي في طرفه الرابع كي نتفحص خارطة اليسار العراقي وما آل إليه عناصره عقب سقوط الديكتاتورية وهيمنة الأحزاب الدينية التي أعادت العراق إلى عصور الفترة المظلمة.
لقد عاد الراوي غير مرة من منفاه الدنماركي «الموحش» إلى العراق «الرحم الدامي أو الملتهب» باحثا عن بعض أصدقائه الخلص الذين انقطعوا للعمل السياسي ونذروا أنفسهم له، فهم مثله تماما كانوا يبشرون بنشر أفكار العدالة والمساواة وحقوق الإنسان لكن صدمة التغيير كانت صاعقة ومذهلة، حيث هيمنت الأحزاب الدينية المتخلفة التي أطلقت العنان لميليشياتها البربرية التي لم تشبع من السلب والنهب وإراقة دماء العراقيين الأبرياء مع أن عناصرهم ترفع ذات الشعارات التي يرفعها اليساريون الحالمون بدولة العدالة والمساواة.
ربما لا تختلف مصائر الشخصيات الثلاث في سقوطها المروع وانحدارها صوب الدين والخرافة والتوحد والضياع. فأحمد الشيوعي الذي كرس حياته لهذا الحزب قد ترك لجته الفكرية واستجار بالدين الذي لم يحمِه من مسلحين ملثمين أمطروه بالرصاص وهو جالس في مكتبته التي يبيع فيها الكتب الدينية، وصور الأئمة، وأقراص تربة الصلاة. أما سعد فقد انكسر بطريقة أخرى بعد أن تزوج بفتاة آسرة الحسن أذهلت الراوي الذي وصفها بـ«الكارثة» لفرط جمالها، فـ«نيران» امرأة «لها وجه يعمي الشمس، وتقاطيع نارية تجعل المارة يتسمرون على الأرصفة». غير أن هذه السيدة سوف تقترن بضابط أمن كبير بعد أن يتم استدعاؤها لمديرية أمن الديوانية 3 أو 4 مرات.
إن أجمل ما في شخصية سعد أن مصيرها ظل غامضا ومجهولا على الرغم من تعدد الروايات التي تقول إنه قتل أو سحل أو اختفى أو تسلل إلى الموصل ومنها إلى بغداد فالديوانية لأنه قطع عهدا على نفسه بأن يرى الزوج الجديد الذي احتل مكانه في الفراش حتى لو بقي من حياته يوم واحد لا غير!
إذا كان سعد قد فجع بزوجته فإن حسين، الشخص الماركسي الثالث، قد فجع باختطاف ابنته المهندسة فيروز، وظل يبحث عنها مع الراوي مدة 3 أشهر متتالية في شاشة معلقة في دائرة الطب العدلي من دون جدوى. لم يلُذ حسين بالخمرة مثلما لاذ بها سعد، ولم يستجِر بالدين كما استجار أحمد بالأدعية الدينية التي ظل يرددها في مرحلة الاحتلال التي تلت سقوط بغداد حتى ساعة مقتله، لكنه استعار جملة الشاعر المجهول الذي سقط في ظهيرة قائظة في «الميدان» رافعا يديه إلى السماء مطلقا عبارته الأخيرة الممطوطة قبل خروج الروح: «إيييييييييي خلصت».
ثمة أسماء وحوادث كثيرة لا يمكن الوقوف عندها أو الإشارة إليها جميعا، الأمر الذي يدفعنا إلى تحريض المتلقي على قراءة النص الروائي برمته، وغربلة تفاصيله الدقيقة، والاستمتاع بأجوائه السلبية والإيجابية في آن معا.
لا شك في أن جانبا واسعا من الرواية يدور في السجون والمعتقلات الأمنية سواء في مديرية أمن الديوانية في مديرية الأمن العامة ببغداد، فهي رواية «أدب سجون» بامتياز حيث تعرض الراوي وحده للسجن أكثر من 4 مرات، كما تعرض البعض الآخر للقتل والتصفيات الجسدية أو الإعدام كما حدث لشقيق الراوي «كفاح» ولشخصيات يسارية أو دينية، حيث كانوا يفتشون عن الأولى في البارات والملاهي بينما كانوا يقتنصون الثانية في المساجد والحسينيات، خصوصا إثر انهيار ما سمي بـ«الجبهة الوطنية» وبدء ملاحقة اليساريين وأعضاء الأحزاب الدينية الذين اكتظت بهم السجون العراقية باستثناء من نجا بجلده وفر إلى البلدان المانحة لحق اللجوء السياسي والإنساني.
ثمة مواقف أصيلة يمكن أن نستشفها من الراوي العليم الذي لا يمكن اعتباره شخصية سياسية مدجنة، ذلك لأن ثقافته تمتد إلى مسافة أبعد بكثير من حدود الماركسية - اللينينية لتضرب جذورها العميقة في الثقافة بأشكالها المتعددة وإن تسيد فيها الأدب والفن، وهيمنت فيها فلسفة الوجود على المناحي الثقافية الأخرى. فلا غرابة أن نسمع على مدار النص الروائي صوتا وطنيا أصيلا ينتصر للثقافة والوطن قبل انتصاره لأي مكون فرعي آخر، بل نراه يدين الميليشيات الدينية الطائفية التي عاثت فسادا بالبلاد والعباد، ومن بين الأمثلة المريرة التي يسوقها «تعذيب باعة النبيذ أو الذين يحتسونه وقتل الحلاقات وإعدام بعض الجنود البسطاء الذين أسروهم أمام الملأ»، ثم لا يجدون حرجا في القول بأنهم «يحلمون بالحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية»، بينما هم يمارسون النهب العلني والسلب المنظم.
لا يخفي الراوي إدانته الحادة للوسط الثقافي، إذ تعرض في مطلع شبابه إلى محاولات اعتداء من قبل بعض أدعياء هذا الوسط لأنه كان جميلا، الأمر الذي هز ثقته ببعض المثقفين والمشتغلين في الحقل السياسي العراقي الذي كان يحيط به آنذاك، بينما كان هذا الراوي يحلم بتغيير العالم بعد أن يغير محيطه الاجتماعي الذي خذله وجعله ينسحب من الحزب حيث ضعف وانهار في أول تجربة اعتقال له، متفرغا لعالمه القصصي والروائي جملة وتفصيلا.
لا تنطلي على الراوي المثقف أكذوبة أميركا التي ادعت بأنها قد جاءت لبناء العراق، «فهي طوال تاريخها لم تبنِ بلدا، لا سيما متخلفا، هذا ما فعلته في أميركا اللاتينية في ستينات القرن العشرين، فقد ساندت حكامها الطغاة ثم أقامت ديمقراطيات كرست سلطة الأغنياء وعممت الفقر والجوع». هذه هي رؤية الناص أو السارد العليم التي لا يمكن اختصارها في بضعة سطور، فهي تمتد من تحليل عزلته الداخلية التي يعاني منها في منفاه «الباذخ» الذي ترك بصماته الواضحة عليه، لكنه حينما يعود إلى العراق بشكل عام أو إلى الديوانية على وجه التحديد يكتشف أن المغتربين قد تحولوا إلى أطياف ميتة، فلا أحد يتذكرهم في منافيهم على الرغم من أنهم يحملون وطنهم في قلوبهم وعقولهم وحدقات عيونهم التي تستدير دائما صوب بلاد ما بين النهرين أو ساحة الحرب المشتعلة منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا.
هناك الكثير من الثيمات الرئيسية والفرعية في هذا النص الروائي تصلح لأن تكون الثيمة المهيمنة التي تتشظى منها كل الآراء المؤازرة، حيث خلص الروائي سلام إبراهيم إلى قناعة مرعبة مفادها أن «الكائن الآيديولوجي بلا ضمير وأناني، ولا يهمه مصير الفرد، وتنطبق عليه مقولة (الغاية تبرر الوسيلة)»، وهذه الخلاصة تعني من بين ما تعنيه أنه قد انتصر في خاتمة المطاف للمثقف القادر على أن يعيد للحياة بهجتها المفقودة، وأن يضع الكائن الآيديولوجي الخامل في زاوية منسية من زوايا متحف مهجور.



لن نسمح بعد الآن لأحد أن يسرق الحلم منا

علياء خاشوق
علياء خاشوق
TT

لن نسمح بعد الآن لأحد أن يسرق الحلم منا

علياء خاشوق
علياء خاشوق

«يسقط الطاغية (الثلج) الآن في مونتريال، والأشجار وقوفاً كالأشجار».

كانت هذه جملتي المفضلة التي أكررها في أغلب منشوراتي على «فيسبوك»، طيلة ثلاثة عشر عاماً منذ بداية الثورة السورية. كنت أدرّب نفسي، أو لنقل، أستعد لكتابة الجملة المشتهاة في اللحظة المشتهاة:

«يسقط الطاغية بشار الأسد الآن في دمشق، والسوريون وقوفاً كالأشجار».

ويا للهول، أتت اللحظة الفاصلة (اللحظة المعجزة)، تحررت سوريا من هذا العبء الثقيل. سقط النظام السوري المجرم، وأصبحت سوريا، ونحن السوريين معها، بخفة ريشة تتطاير في الهواء. نمسك الحلم (حلمنا) بأيدينا، ونخشى أن يتخلى عنا مرّة أخرى. لا لن يفعل، لن ندعه يفعل، لن نعطيه هذه الفرصة.

ولذا، عُدنا إلى تبني مفهوم التفاؤل، بعد أن غاب عنا عمراً طويلاً أمضيناه نلوك المرارة تلو المرارة، مجزرة تلو المجزرة. نموت بالآلاف، أشلاءً تحت وطأة البراميل المتفجرة. نغرق في بحار البلدان المجاورة ونحن نبحث عن أرض آمنة. تنجرح أصواتنا ونحن نطالب بمعتقلينا في سجون النظام. نخبر الله والعالم أجمع عما يحل بنا ثم نخبو في آخر اليوم، كل يوم، نتكور على أنفسنا مهزومين، نلوك الوجع، ويموت التفاؤل فينا مع كل غياب شمس، أكثر من سابقه.

ثم يأتي يوم الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، يأتي على هيئة بابا نويل، مرتدياً العلم السوري الأخضر. يهبط بعربته في أرض الشام. يفتح جعبته ويوزع الهدايا على كل سوري، صغيراً كان أم كبيراً.

بابا نويل يمسك بنا (نحن) الخِفاف كالريشة التي صرناها ويقترح علينا مصالحات. مصالحات مع المرارة، الهزيمة، الانتظار، اللاأمل، مع موتنا وأشلائنا، مع غرقنا، مع أصواتنا المجروحة ومع زمننا المقبل، الزمن السوري المقبل. جاء بابا نويل هذا (8 ديسمبر)، وتحت إبطه عقد لصفقة كبيرة تدعى «التفاؤل».

قال له السوريون: «أيها السيد المحترم بابا نويل، إنها صفقة رابحة ونحن اشترينا. كل ما نتمناه ألا تكون بضاعتك مغشوشة».

وقّعنا، بسرعة فرح الأطفال، عقد التفاؤل هذا ثم رقصنا وغنّينا وحوّلنا ساحات المدن (كل المدن التي تبعثرنا فيها منفيين ومهجرين)، حوّلناها إلى منصات لاحتفال حاشد واحد، نحمل فيه علمنا الأخضر وندور في شوارع العالم، معلنين حريتنا الغالية الثمن، وسوريتنا وطناً مسترداً من أيدي الطاغية.

يا للهول، يا للحظة المعجزة!

يا للهول، يا للبضاعة المغشوشة أيها البابا نويل المحترم! تفاؤلنا مخلوط بكمية هائلة من الحذر ومعقود على خوف، خوف من زمننا السوري المقبل.

الخوف؟ الحذر؟

ربما لأننا أبناء إمبراطورية الخوف... سوريا.

تقول صديقة كندية: الثلج هو وطني.

ترد صديقتي السورية: الخوف هو وطني، أنا أخاف من أن يمر يوم لا أخاف فيه.

يقف الآن زمننا السوري المقبل بمواجهتنا في مرآتنا. يسألنا عن نفسه فينا، يمد لنا يده، «فماذا أنتم فاعلون؟».

نطبطب على كتف التفاؤل، نحابي الحذر، نتجرأ على الخوف، ونعلن للعالم كله بصوت واحد: «طوبى لمن يشهد قيامة شعبه».

تبدأ المبادرات والدعوات لسوريا الدولة المدنية، سوريا دولة القانون، تمتلئ صدور السوريين بطاقة إيجابية للبناء وإعادة الإعمار، للمصالحات بين زمننا الماضي بكل ما فيه، وزمننا المقبل بكل تحدياته.

تعود إلينا سوريا محطمة، مسروقة، مريضة، مكسورة النفس، تشبه أولادها الذين خرجوا أخيراً من سجون النظام، يحملون تعذيبهم على أكتافهم، ويتركون ذاكرتهم وراءهم بعيداً بعيداً في معتقلاتهم.

كل الصور والأخبار التي يراها العالم اليوم، والذي وقف لمدة خمسة عقود ونيف، متفرجاً على آلام طريق الجلجلة السورية، كلها تعقد الألسن، تفتح أبواباً ونوافذ للحذر من مآلات التغيير، وترفع مسؤولية السوري إلى أعلى مستوياتها تجاه هذا الوطن الذي نسترده الآن حراً من الطغيان الأسدي.

يتصدر المشهد مجموعة ثوار إسلامويين، قطفوا اللحظة (المعجزة)، ويصدرون الوعود الإيجابية بسوريا جديدة لكل أهلها على اختلاف مشاربهم.

ينتظر العالم بأسره كيف سيتعامل هؤلاء الإسلامويون مع بابا نويل سوريا؟

السوريون هم الوحيدون مَن لن ينتظر بعد ذلك. لقد بدأوا بكتابة تاريخهم الجديد، ولن يسمحوا بعد الآن لأي هيئة أو جماعة أن تسرق الحلم.

نعم أيها التفاؤل، إنك صفقة رابحة، حتى ولو كانت مغشوشة.

* سينمائية سورية