محمد عبد المطلب... من «مذهبجي» وراء عبد الوهاب إلى مطرب الجميع

سيرته من الطفولة حتى تربعه على عرش الأغنية الشعبية المصرية

محمد عبد المطلب... من «مذهبجي» وراء عبد الوهاب إلى مطرب الجميع
TT

محمد عبد المطلب... من «مذهبجي» وراء عبد الوهاب إلى مطرب الجميع

محمد عبد المطلب... من «مذهبجي» وراء عبد الوهاب إلى مطرب الجميع

ما الذي يمتاز به صوت محمد عبد المطلب من خصائص فنية تجعل أغانيه لا تزال حاضرة بيننا بعد مرور فترة طويلة على رحيله، يطرب لها ويرددها المثقفون والناس الشعبيون في مجالسهم الخاصة على حد سواء.
هذا ما يكشف عنه كتاب «محمد عبد المطلب - سلطان الغناء». الكتاب صدر أخيراً للكاتب المصري محب جميل عن دار «آفاق» للنشر والتوزيع بالقاهرة، ويقع في 198 صفحة، وكتب مقدمته المؤرخ الموسيقي اللبناني الدكتور فكتور سحاب الذي يقول: «لم نسمع في الكون، صوتاً أجش وأبح، ومع ذلك يطربك طرباً جارفاً يبلغ بالمستمع العربي أقصى درجات المتعة».
يقتفي الكتاب رحلة محمد عبد المطلب الطفل الخامس بين إخوته الذي ولد عام 1910. الذي كان يقضي وقته بين حقول القطن والقمح، يحفظ القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة. يقول المؤلف عن ذلك: «اعتاد أن يغني لرفاقه بين الحقول ما حفظه من طقاطيق المطرب عبد اللطيف البنا، فيشب على محبة كتب (الطقاطيق) التي يبتاعها من مصروفه الزهيد، وفي مفارقة أولى يجد الطفل نفسه في مواجهة مطربه المفضل آنذاك عبد اللطيف البنا في أحد الأفراح، وعندها تبدأ أولى محطاته بعد أن يضمه البنا لفرقته الصغيرة التي تجوب أفراح القرى آنذاك، وصولاً لمحطة تعلمه الموسيقى والغناء على يد الملحن الراحل داود حسني، أحد ألمع العاملين في المسرح الغنائي في ذلك الوقت، وظلت نصيحته الأغلى التي ظل عبد المطلب يتذكرها حتى أيامه الأخيرة كانت اقتراح حسني عليه أن يصعد مئذنة أحد مساجد حي المغربلين وسط القاهرة ليؤذن الفجر حتى تستقيم أحباله الصوتية».

خلف عبد الوهاب
يمر الكتاب على مشاهد تنقل الشاب محمد عبد المطلب ساعياً وراء حلمه وزاده إيمانه بقدراته الصوتية وحبه للغناء إلى أن وضع اسمه بين نجوم الصف الأول في الأغنية العربية في القرن العشرين. وينقل لنا بداياته الفنية ولحظة اعتلائه المسرح ليتحشرج صوته أمام الجمهور في لحظة إحباط وتعثر لم ينسها طوال حياته، كما لم ينس أولى حفلاته عام 1926 على مسرح الأزبكية بمرافقة تخت موسيقي، التي لم تكلل بالنجاح المنشود، حتى كانت المحطة التي غيرت من شكل حياته آنذاك، وهي زيارته لبيت الموسيقار محمد عبد الوهاب.
ينقل الكتاب على لسان عبد المطلب في أحد أحاديثه: «ذهبت إلى المطرب محمد عبد الوهاب، وكان يومها مطرباً مشهوراً ومعروفاً في الحفلات العامة والأفراح الكبرى، وطلبت منه أن يلحقني بفرقته لكي أعمل ضمن الكورس الذين كانوا يُسمون في تلك الأيام المذهبجية». تلك الزيارة لم تمنح فقط عبد المطلب عملاً في وقت ضاق فيه العيش، ولكنها أيضاً كانت فرصة لتجديد ثقته في نفسه: «قلت في نفسي: لو لم أكن أملك صوتاً جيداً، لما قبلني مطرب كبير مثل عبد الوهاب ضمن أفراد فرقته حتى لو ولو كان عملي فيها لا يزيد عن مذهبجي يغني وراءه، فهو بالتأكيد يكره أن يسمع صوت نشاز بين أفراد فرقته».
قضي عبد المطلب سبع سنوات من عمره وراء عبد الوهاب، يقف خلفه في الأفراح والحفلات، يردد مع المذهبجية مقاطع من أغنياته، ثم تتغير الأقدار ليقرر مغادرة فرقة موسيقار الأجيال ويبدأ بداية غنائية جديدة.

مفارقات البدايات
تتقاطع سيرة عبد المطلب (1910 - 1980) مع حالة الصخب الفني في ثلاثينيات القرن الماضي التي تجلت في صالات شارع عماد الدين الشهير، الذي يقول عنه المؤلف: «كان شارع عماد الدين في وسط القاهرة تلك الأيام أشبه بشارع برودواي الآن في نيويورك، حيث صخب الفرق الاستعراضية والمسارح الغنائية، هنا يتعرف عبد المطلب على الموسيقار فريد الأطرش، وبديعة مصابني، وتشاهده أسمهان في إحدى وصلاته وتمدحه، ويظهر اسمه للمرة الأولى في موسم عام 1934 ضمن استعراض (شهيرات النساء)، وفي إحدى الليالي من تجليه في الطرب أمطره الجمهور بريالات من الفضة والجنيهات الذهبية، ومن هنا توالت ليالي الصخب ليعلو صوت عبد المطلب مُتذوقاً طعم النجاح، ومنه إلى مسارح الإسكندرية». ولكنه لم يجد هناك الإعجاب والتقدير ذاته لصوته، فلم يستقبله الجمهور بتلك المدينة الساحلية بترحيب، حتى أنه في إحدى حفلاته بها رماه الجمهور بالبيض والطماطم. ولعل هذه كانت، كما يضيف مؤلف السيرة، واحدة من المرات التي لم ينسها عبد المطلب، فقد خرج إلى الشارع يبكي من شدة تأثره. وهكذا تأخذ الدنيا عبد المطلب من القمة للقاع، لكنه انتشله من هذا الهبوط لقاؤه بالكاتب المسرحي بديع خيري ونجيب الريحاني لتبدأ رحلة ليست باليسيرة حتى يتربع على عرش الأغنية الشعبية المصرية.
ومن أبرز أغنيات عبد المطلب في تلك الفترة «ساكن في حي السيدة»، و«رمضان جانا» و«ودع هواك»، وتعد من أبرز الأغنيات التي استقرت في الوجدان الشعبي، لتُقيم في الذاكرة إلى اليوم بكلماتها المشهدية والبصمة الذاتية الشجية لصوت وأداء محمد عبد المطلب.
وأدرج الكتاب ملحقاً كاملاً عن السيرة التي رواها عبد المطلب عن نفسه مقتبسة من نصوص حوارات صحافية معه، من بينها سؤال وُجه له في حوار عام 1967 عما يُميز شخصيته الفنية فقال: «إن لي شخصيتي الخاصة في الغناء، وفي هذه الشخصية الشعبية تكمن أصالتي، وقد أثبت الزمن أنني كنت على صواب عندما أبيت التغيير، فجمهوري يزداد كل سنة عن ذي قبل. يسمعني الشباب المودرن والرجل الذي في عمري»، بالإضافة لملاحق عن أشهر أغنيات عبد المطلب، ومجموعة نادرة من الصور على مدى مراحل حياته المختلفة، ومراجعة للأسطوانات النادرة التي سجلها في بدايات العشرينيات وحتى منتصف الثلاثينيات، ولقطات طريفة وردت في أحاديثه الصحافية كوصفه لطربوشه الذي كان يعتمره عادة، ويقول عنه: «طربوشي هو سر نجاحي فيما أعتقد. فقد أصبح بمرور الأيام جزءاً من شخصيتي، وجمهوري يحب طربوشي كما يحبني، لو تخليت عن طربوشي في أي حفلة غنائية، لضيعت نصف تصفيق الجمهور على الأقل».



طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.