سياسة إيبار المعجزة: إذا كانت لدي خمسة جنيهات فسأنفق أربعة فقط

غاراغارزا قال إن المال ليس كل شيء ولذلك تمكنوا من البقاء في «لا ليغا» 6 مواسم

إيبار قدّم مستويات لافتة في الدوري الإسباني في السنوات الأخيرة (أ.ف.ب)
إيبار قدّم مستويات لافتة في الدوري الإسباني في السنوات الأخيرة (أ.ف.ب)
TT

سياسة إيبار المعجزة: إذا كانت لدي خمسة جنيهات فسأنفق أربعة فقط

إيبار قدّم مستويات لافتة في الدوري الإسباني في السنوات الأخيرة (أ.ف.ب)
إيبار قدّم مستويات لافتة في الدوري الإسباني في السنوات الأخيرة (أ.ف.ب)

جلس خمسة رجال الثلاثاء قبل الماضي حول طاولة في غرفة اجتماعات جديدة أنيقة تطل على أرضية ملعب نادي إيبار الإسباني، وانضم إليهم شخص سادس على الشاشة. وكان ميكيل مارتيغا، وأركايتس لاكانبرا، وإنيكو رومو، وفران ريكو، يشاهدون اللاعبين المرشحين للانضمام إلى الفريق هذا الأسبوع، والذين لم يكونوا سوى عينة صغيرة من 19 ألف لاعب يبحث النادي من بينهم عمن يمكنه تقديم الإضافة اللازمة للفريق. وكانت المحادثات بين هؤلاء المسؤولين تدور حول قدرات هؤلاء اللاعبين، فتسمع من يقول: «توقف عن المشاهدة»، في حين يقول آخر: «انتقل إلى المرحلة التالية»، وهكذا.
وبين الحين والآخر، كان المدير الرياضي لنادي إيبار، فران غاراغارزا، يطلب بعض التفاصيل الإضافية، مثل اسم اللاعب وعمره ووكيل أعماله. وفي تلك الأثناء، كان أوناي إزكورا يُدخل كل تلك البيانات على النظام. وكان غاراغارزا معتاداً على التنقل في شاحنة لنقل الطرود للبريد السريع؛ لكنه الآن يسافر لمشاهدة المباريات من أجل اختيار اللاعبين الذين يمكن ضمهم للفريق، أو كان يفعل ذلك قبل تفشي وباء «كورونا».
ويعمل غاراغارزا في إيبار منذ 16 عاماً، مديراً فنياً للفريق تحت 19 عاماً، ومساعداً للمدير الفني للفريق الأول، ومديراً لأكاديمية الناشئين. وعلى مدار العقد الماضي، شغل غاراغارزا منصب المدير الرياضي للنادي، وأشرف على أحد أعظم النجاحات في كرة القدم الإسبانية؛ حيث قاد النادي لتحقيق إنجازات جيدة للغاية من دون أن يتحمل النادي أي ديون.
ومساء 29 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، واجه إيبار نادي برشلونة على ملعب «كامب نو» ونجح في العودة بنقطة التعادل من معقل العملاق الكاتالوني بعد انتهاء المباراة بهدف لكل فريق. وقبل أن يتولى غاراغارزا منصب المدير الرياضي، كان النادي يلعب أمام أندية مغمورة، وحتى عندما كان يذهب إلى أندية أكبر، مثل أتلتيكو مدريد أو ريال سوسيداد أو أوساسونا، فإنه كان يذهب إلى تلك الملاعب لمواجهة فرق الرديف لهذه الأندية وليس الفرق الأولى. وكان إيبار يلعب في دوري الدرجة الثانية، واحداً من 80 فريقاً موزعة على أربع مجموعات إقليمية.
ولم يكن نادي إيبار الذي يوجد في بلدة يبلغ عدد سكانها 27378 نسمة في وادي إيغو ويوجد ملعبه الرئيسي وسط كتل من المباني الشاهقة، قد لعب في الدوري الإسباني الممتاز من قبل، ولم يكن متوقعاً له أن يتمكن من القيام بذلك يوماً ما؛ لكن الفريق نجح في الصعود للدوري الإسباني الممتاز في عام 2014، ولم يهبط منذ ذلك الحين، وبالتالي يعد هذا هو الموسم السابع لنادي إيبار في الدوري الإسباني الممتاز، ويمكن القول بأن النادي يحقق «معجزة» ببقائه بين الكبار في كل موسم من هذه المواسم.
يقول غاراغارزا: «لم أتخيل هذا أبداً»؛ لكن النادي الذي يمتلك ملعباً يتسع لـ8000 متفرج، ولم يمتلئ بالمشجعين أبداً حتى قبل تفشي الوباء، أصبح ينتمي الآن إلى أندية النخبة في كرة القدم الإسبانية.
وإذا كانت ميزانية النادي قد زادت، والمرافق قد تطورت، وأرضية الملعب قد أصبحت أفضل من ذي قبل، فإن المثل العليا التي يعتمد عليها النادي لم تتغير في يوم من الأيام. وعندما كان المسؤولون يشاهدون بعض المباريات لاختيار اللاعبين الذين قد يتعاقد معهم الفريق، لم يكن من بينها أي مباراة من الدوري الإنجليزي الممتاز أو الدوري الإيطالي الممتاز أو الدوري الألماني الممتاز، ولم يكن هناك سوى مباراة واحدة فقط من الدوري الإسباني الممتاز الذي يلعب به نادي إيبار؛ لكن غاراغارزا يقول: «هذه ليست سوقنا».
ويضع غاراغارزا أسس اختيار اللاعبين الجدد، بدءاً من اكتشاف الموهبة التي يريد النادي التعاقد معها وحتى وصول الأمر إلى السكرتير الفني ثم إلى المدير الرياضي وحتى المدير الفني في نهاية المطاف. من الواضح أن نادي إيبار ليس بالنادي الكبير الذي يحلم به اللاعبون الصغار، كما أنه ليس من الأندية التي تغري اللاعبين بالرواتب الضخمة. وحتى على مستوى الشباب، لا يمكن لنادي إيبار الدخول في منافسة مع الأندية المحيطة به. وبالتالي، يتعين على النادي أن يتوصل إلى حلول مبتكرة ويعمل من أجل التطوير، سواء داخل أو خارج الملعب. يقول غاراغارزا: «الإدارة المالية هي الركيزة الأساسية التي نركز عليها على جميع المستويات. ونتبع دائماً سياسة: إذا كانت لدي خمسة جنيهات فسأنفق أربعة فقط».
ويضيف: «في العام الماضي، على سبيل المثال، بعنا بعض اللاعبين بشكل جيد (جوان جوردان لإشبيلية مقابل 12 مليون يورو، وروبين بينيا إلى فياريال مقابل 8 ملايين يورو) لكننا لا ننفق أبداً كل العائدات المالية التي تصل إلينا. الأمر لا يتعلق فقط بالمبالغ المالية التي تنفق من أجل إبرام صفقات جديدة، فهناك أيضاً رواتب اللاعبين، ولا يمكننا أن نمنح أحد اللاعبين راتباً أكبر من الآخرين؛ لأن اللاعبين الآخرين سيكتشفون ذلك ويطالبون بالمثل. وبالتالي، يتعين علينا أن نوازن بين هذه الأمور، ونجدد دماء الفريق في الوقت نفسه، وهو أمر صعب للغاية. المال ليس كل شيء؛ لكن إذا لم تدفع رواتب قريبة من الرواتب التي تدفعها الأندية الأخرى، فلا يمكنك الاستمرار؛ لأن اللاعبين لن يأتون إليك من الأساس».
ويتابع: «إننا نتحدث إلى عائلة اللاعب ونتواصل مع بعض أصدقائه من أجل إقناعه بالانضمام إلينا، ونقدم له العرض الذي يمكننا تقديمه. ويمكننا إقناع اللاعبين من خلال بعض الأشياء، مثل ضخ الأموال لتحسين ملعب الفريق وملعب التدريب والمرافق الطبية، فضلاً عن الاستقرار الذي نتمتع به؛ لكن لا يمكننا - على سبيل المثال - أن ندفع 10 ملايين جنيه إسترليني للتعاقد مع لاعب».
ويعد إدو إكسبوسيتو أغلى صفقة في تاريخ النادي، مقابل أربعة ملايين يورو. كما أن أسعار لاعبي الفريق الأول مجتمعة تقل عن 25 مليون يورو.
وعندما لعب إيبار أول مباراة له في الدوري الإسباني الممتاز، كان سبعة لاعبين من التشكيلة الأساسية للفريق من اللاعبين الذين قادوا النادي للصعود من دوري الدرجة الأولى. وفي منتصف ذلك الموسم، رحل راؤول ألبينتوسا إلى ديربي كاونتي في دوري الدرجة الأولى بإنجلترا، بعدما دفع النادي الإنجليزي الشرط الجزائي الموجود في عقد اللاعب، والذي يصل إلى 600 ألف يورو، كما منحه راتباً أعلى بسبعة أضعاف مما كان يحصل عليه مع نادي إيبار.
يقول غاراغارزا: «لم نكن نرغب في بيع اللاعب؛ لكنهم حصلوا على خدماته بكل سهولة. كان لدينا بالفعل 27 نقطة، وهو ما يعني أننا كنا بعيدين تماماً عن مراكز الهبوط، وقررنا ألا نستثمر أي جنيه من أموال تلك الصفقة في التعاقد مع لاعبين جدد. لقد اتضح بعد ذلك أننا اتخذنا قراراً خاطئاً؛ حيث أنهينا الموسم في المركز الثالث من أسفل جدول الترتيب، وهو ما كان يعني هبوط الفريق من الدوري الممتاز، لولا القرار الذي صدر بهبوط نادي إلتشي بسبب مشكلاته المالية، وهو الأمر الذي أنقذنا من الهبوط. لقد أدركنا حينئذ أننا كنا محظوظين، وأنه لا يتعين علينا القيام بذلك مرة أخرى».
ويضيف: «لم نتوقع أن نصل إلى الدوري الإسباني الممتاز؛ حيث كنا قد كونَّا فريقاً من أجل البقاء في دوري الدرجة الأولى، ولم يكن لدينا المال الكافي، وكان عديد من لاعبي الفريق يلعبون على سبيل الإعارة؛ لكننا وجدنا أنفسنا في ملحق الصعود ونلعب المباريات الفاصلة، ونصعد للدوري الإسباني الممتاز. وحتى بعدما صعدنا إلى الدوري الممتاز، لم نكن قادرين على الدخول في منافسة مع بعض أندية دوري الدرجة الأولى من حيث التعاقد مع اللاعبين، وكان هناك تياران مختلفان داخل النادي: الأول يشعر بالقلق من اللعب في الدوري الممتاز ويرى أننا لن نكون قادرين على المنافسة، والثاني يرى أنه مجرد عام سوف نلعبه بين الكبار، وبالتالي يتعين علينا أن نستمتع بما نقدمه. كان البعض يرى أنه يكفي أن نشاهد ريال مدريد هنا، وأن نلعب مباراة الديربي، وأن نزيد دخل النادي، قبل أن نهبط مرة أخرى. لقد كان هناك انطباع بأننا لن نتمكن من البقاء بين الكبار. لقد كان الأمر بمثابة هدية غير متوقعة، وجاءت في وقت مبكر جداً».
ويتابع: «لكننا تمكنا من البقاء على أي حال، وأنهينا الموسم في المركز الثالث من مؤخرة جدول الترتيب، وليس المركز الأخير، وهنا بدأت الأمور تتغير. كانت هذه هي اللحظة التي أدركنا فيها أنه يتعين علينا أن نستثمر بعض الأموال وندعم صفوف الفريق. ولو هبطنا إلى دوري الدرجة الأولى، فلن تكون لدينا القدرة الاقتصادية على بناء فريق قوي؛ لكننا حصلنا على فرصة ثانية من أجل القيام بذلك بعد بقائنا في المسابقة».
وفي السنوات الست التالية منذ ذلك الحين، لم يحتل إيبار مركزاً أقل من المركز الرابع عشر؛ بل وبدا الأمر في بعض الأحيان وكأن الفريق سيكون قادراً على التأهل للمسابقات الأوروبية. إن هذا التحول الهائل يجعل إيبار بمثابة نموذج يحتذي به الآخرون.
يقول غاراغارزا عن ذلك: «هناك أندية كبيرة مثل ريال سرقسطة، وسبورتنغ، وأوفييدو، تلعب الآن في دوري الدرجة الأولى، وهذا يدفعنا للتساؤل عما حدث لكي تلعب أندية أصغر مثل ليغانيس، وهويسكا، وإيبار، في الدوري الإسباني الممتاز. لماذا تمكنت أندية من بلدات صغيرة ذات تاريخ بسيط من أن تلعب في الدوري الممتاز، في الوقت الذي تفشل فيه أندية من مدن أكبر، مثل أليكانتي أو قرطبة أو مورسيا، في الصعود؟».
ويضيف: «لقد فعلنا كثيراً من الأمور بشكل صحيح؛ لكننا استفدنا أيضاً من التوقيت ومن سوء إدارة الأندية الكبيرة التي يعاني بعضها من ديون كبيرة، وبعضها الآخر من حظر على الدخل؛ لكننا لم نعانِ من مثل هذه الأمور. إننا لا ننفق أبداً فوق إمكانياتنا المالية، ولدينا نموذج صغير للمساهمة، ونضع مسؤولية قيادة النادي على عدد من الأشخاص المحترفين، فلا يوجد مالك وحيد يتخذ القرارات بمفرده».
وقد ساعد ذلك النادي على التغلب على تداعيات تفشي فيروس «كورونا»، كما أثار عديداً من الأسئلة الأوسع بشأن الأسس التي تقوم عليها كرة القدم الحديثة. يقول غاراغارزا: «إننا لم نتأثر كثيراً بغياب الجماهير مثل بقية الأندية، فنحن أفضل نسبياً من الأندية التي تعتمد على حضور 50 ألف متفرج. لقد صعدنا إلى الدوري الإسباني الممتاز في الوقت المناسب؛ لأنه على الرغم من حضور 5000 متفرج لمبارياتنا، فإن جمهورنا الأكبر يشاهد مبارياتنا عبر شاشات التلفزيون، وهو العدد الذي يزيد مع مرور الوقت».
ويضيف: «لكن إلى متى سيستمر هذا الأمر؟ وحتى من دون الاشتراكات التلفزيونية يمكننا أن نواصل العمل بشكل جيد. إننا نتعايش بشكل جيد داخل تلك الفقاعة، بفضل قدرتنا على تنويع مواردنا المالية. الأطفال يكبرون الآن وهم يعلمون أن إيبار من الأندية التي تلعب في الدوري الإسباني الممتاز، وهو الأمر الذي قد يساعدنا؛ لكن ماذا سيحدث في حال هبوطنا إلى دوري الدرجة الأولى؟ لدينا بالفعل جماهير تشجعنا منذ أن كنا نلعب في دوري الدرجة الثالثة، وانضم إليهم آخرون بعد صعودنا للدوري الممتاز؛ لكنني أعتقد أنه في حال هبوطنا لدوري الدرجة الأولى فإننا سنخسر كثيراً من جمهورنا».
وعندما سُئل غاراغارزا عما إذا كان يشعر بأن نادي إيبار يشعر بالاستقرار في الوقت الراهن، رد قائلاً: «أنا لست متأكداً مما إذا كنا نتمتع بالاستقرار أم لا. فما هو الاستقرار؟ وكم عاماً يلزمك لكي تشعر بالاستقرار؟ وماذا يعني الاستقرار من الأساس؟ هل يمكننا بناء ملعب كبير؟ لا. فعلى الرغم من أننا نلعب في الدوري الإسباني الممتاز، فلا نزال نعاني من قيود كبيرة، وربما بشكل أكبر من ذي قبل. لقد عاد ألافيس وأوساسونا وهما يتنافسان هنا. لا تضم المدينة سوى 27000 نسمة، ويهيمن أتلتيك بلباو وريال سوسيداد على المنطقة المحيطة».
ويضيف: «انتماؤنا لإقليم الباسك مهم جداً، وربما فقدنا هذه الهوية بعض الشيء. كان لدينا داني غارسيا، ويوري بيرشيش، وجون إراستي، وميكيل أروابارينا، وتكسيما أنيبارو من إقليم الباسك؛ لكن فريقنا الآن لا يضم سوى لاعبين اثنين فقط من الباسك، وهما روبرتو أولابي وأنايتز أربيلا. هذا الأمر يهمني كثيراً؛ لكن لحسن الحظ فإن المدير الفني للفريق، خوسيه لويس مينديلبار، من إقليم الباسك، ويناسب طريقة عمل النادي تماماً، فهو قائد ويساعد الجميع من حوله».
ويتابع: «إنني أشعر أيضاً بأن (حمى إيبار)، إن جاز التعبير، آخذة في التراجع، فبعدما رأى الجمهور ليونيل ميسي هنا سبع مرات، ورأى سيرخيو راموس سبع مرات، وكوكي سبع مرات، قد يتساءل عن جدوى شرائه لتذكرة لحضور المباريات بعد الآن؛ خصوصاً بعدما شاهد عديداً من المباريات السابقة أمام أندية مثل أتلتيكو مدريد وريال مدريد وبرشلونة وإشبيلية وريال سوسيداد وأتلتيك بلباو. هناك نوع من الراحة يمكنك أن تشعر به».
وتتمثل معجزة إيبار في أنها لم تعد تبدو وكأنها معجزة بعد الآن. ويوم الثلاثاء الماضي كان هناك سبب كافٍ للاحتفال بعد التعادل مع برشلونة على ملعب «كامب نو» بهدف لكل فريق، على الرغم من أن هذه المباريات أمام الأندية الكبرى باتت طبيعية بالنسبة لنادي إيبار. يقول غاراغارزا: «يعرف الناس أن البقاء في الدوري الإسباني الممتاز يعد نجاحاً ويقدرون ذلك، على الرغم من أن ذلك بات أمراً معتاداً».
ويختتم المدير الرياضي لإيبار حديثه قائلاً: «إننا نبني تاريخاً كبيراً، ونطور البنية التحتية، ونضع أسساً تسير عليها الأجيال القادمة، ونطور كرة أكاديمية الناشئين، كما نطور كرة القدم للسيدات، والاستاد، وملعب التدريب، ونزيد شعور الجماهير بالانتماء للنادي. وسوف ندرك ما يفعله إيبار في الوقت الحالي، إذا لم نعد نحقق هذه النجاحات مرة أخرى».



عراقي فقد بصره يحقّق حلمه بتأسيس أول فريق كرة قدم للمكفوفين (صور)

أعضاء الفريق (أ.ف.ب)
أعضاء الفريق (أ.ف.ب)
TT

عراقي فقد بصره يحقّق حلمه بتأسيس أول فريق كرة قدم للمكفوفين (صور)

أعضاء الفريق (أ.ف.ب)
أعضاء الفريق (أ.ف.ب)

قبل 16 عاماً، فقد عثمان الكناني بصره فألمّ به خوف من فقدان صلته بكرة القدم التي يهواها منذ صغره. لكن إصراره على عدم الاستسلام دفعه إلى توظيف شغفه في تأسيس أوّل فريق للمكفوفين في العراق وإدارة شؤونه.

ويقول الرجل الذي يبلغ حالياً 51 عاماً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «عندما فقدت بصري، عشت سنة قاسية، نسيت فيها حتى كيفية المشي، وأصبحت أعتمد في كل شيء على السمع».

أعضاء الفريق (أ.ف.ب)

في عام 2008، فقد المدير السابق لمكتبة لبيع الكتب واللوازم المدرسية، البصر نتيجة استعمال خاطئ للأدوية لعلاج حساسية موسمية في العين، ما أدّى إلى إصابته بمرض الغلوكوما (تلف في أنسجة العصب البصري).

ويضيف: «ما زاد من المصاعب كان ابتعادي عن كرة القدم». ودام بُعده عن رياضته المفضّلة 8 أعوام.

شكّل الكناني فريقاً لكرة الهدف حيث يستخدم اللاعبون المكفوفون أيديهم لإرسال الكرة إلى الهدف (أ.ف.ب)

لكن بدعم «مؤسسة السراج الإنسانية» التي شارك في تأسيسها لرعاية المكفوفين في مدينته كربلاء (وسط) في 2016، شكّل الكناني فريقاً لكرة الهدف، حيث يستخدم اللاعبون المكفوفون أيديهم لإرسال الكرة إلى الهدف.

وظلّ يلعب مع هذا الفريق حتى شكّل في عام 2018 فريقاً لكرة القدم للمكفوفين وتفرّغ لإدارة شؤونه.

ويتابع: «أصبحت كرة القدم كل حياتي».

واعتمد خصوصاً على ابنته البكر لتأمين المراسلات الخارجية حتى تَواصلَ مع مؤسسة «آي بي إف فاونديشن (IBF Foundation)» المعنيّة بكرة القدم للمكفوفين حول العالم.

يتّخذ الفريق من ملعب مخصّص للعبة خماسي كرة القدم في بغداد مكاناً لتدريباته 3 مرات أسبوعياً (أ.ف.ب)

وكانت «الفرحة لا توصف» حين منحته المؤسسة في عام 2022 دعماً ومعدات من أقنعة تعتيم للعيون وكُرات خاصة.

ويوضح: «هكذا انطلق الحلم الرائع».

ويؤكّد أن تأسيس الفريق أتاح له «إعادة الاندماج مع الأصدقاء والحياة»، قائلاً: «بعد أن انعزلت، خرجت فجأة من بين الركام».

4 مكفوفين... وحارس مبصر

وانطلق الفريق بشكل رسمي مطلع العام الحالي بعدما تأسّس الاتحاد العراقي لكرة القدم للمكفوفين في نهاية 2023، وتشكّل من 20 لاعباً من محافظات كربلاء وديالى، وبغداد.

ويستعد اليوم لأوّل مشاركة خارجية له، وذلك في بطولة ودية في المغرب مقرّرة في نهاية يونيو (حزيران).

ويتّخذ الفريق من ملعب مخصّص للعبة خماسي كرة القدم في بغداد، مكاناً لتدريباته 3 مرات أسبوعياً. ومن بين اللاعبين 10 يأتون من خارج العاصمة للمشاركة في التمارين.

يصيح اللاعبون بكلمة «فوي» («أنا أذهب» بالإسبانية) بغية تحديد أماكن وجودهم في الملعب (أ.ف.ب)

ومدّة الشوط الواحد 20 دقيقة، وعدد اللاعبين في المباراة 5، منهم 4 مكفوفون بالكامل بينما الحارس مبصر.

وخلال تمارين الإحماء، يركض اللاعبون في مجموعات من 4 ممسكين بأذرع بعضهم مع أقنعة على أعينهم.

وتتضمّن قواعد لعبة كرة القدم للمكفوفين كرات خاصة، ينبثق منها صوت جرس يتحسّس اللاعب عبره مكان الكرة للحاق بها.

ويقوم كلّ من المدرّب والحارس بتوجيه اللاعبين بصوت عالٍ.

يبلغ طول الملعب 40 متراً وعرضه 20 متراً (أ.ف.ب)

بعد ذلك، يأتي دور ما يُعرف بالمرشد أو الموجّه الذي يقف خلف مرمى الخصم، ماسكاً بجسم معدني يضرب به أطراف المرمى، لجلب انتباه اللاعب وتوجيهه حسب اتجاه الكرة.

ويصيح اللاعبون بكلمة «فوي» («أنا أذهب» بالإسبانية) بغية تحديد أماكن وجودهم في الملعب لئلّا يصطدموا ببعضهم.

وحين يمرّ بائع المرطبات في الشارع المحاذي للملعب مع مكبرات للصوت، تتوقف اللعبة لبضع دقائق لاستحالة التواصل سمعياً لمواصلة المباراة.

تمارين الإحماء لأعضاء الفريق (أ.ف.ب)

وبحسب قواعد ومعايير اللعبة، يبلغ طول الملعب 40 متراً وعرضه 20 متراً، بينما يبلغ ارتفاع المرمى 2.14 متر، وعرضه 3.66 متر (مقابل ارتفاع 2.44 متر، وعرض 7.32 متر في كرة القدم العادية).

لا تردّد... ولا خوف

وخصّصت اللجنة البارالمبية العراقية لألعاب ذوي الاحتياجات الخاصة راتباً شهرياً للاعب قدره ما يعادل 230 دولاراً، وللمدرب ما يعادل تقريباً 380 دولاراً.

لكن منذ تأسيس الفريق، لم تصل التخصيصات المالية بعد، إذ لا تزال موازنة العام الحالي قيد الدراسة في مجلس النواب العراقي.

ويشيد رئيس الاتحاد العراقي لكرة القدم للمكفوفين طارق الملا (60 عاماً) بالتزام اللاعبين بالحضور إلى التدريبات «على الرغم من الضائقة المالية التي يواجهونها».

اللاعبون يملكون روح الإصرار والتحدي (أ.ف.ب)

ويوضح: «البعض ليست لديه موارد مالية، لكن مع ذلك سيتحمّلون تكاليف تذاكر السفر والإقامة» في المغرب.

ويضيف: «أرى أن اللاعبين لديهم إمكانات خارقة لأنهم يعملون على مراوغة الكرة وتحقيق توافق عضلي عصبي، ويعتمدون على الصوت».

ويأمل الملّا في أن «تشهد اللعبة انتشاراً في بقية مدن البلاد في إطار التشجيع على ممارستها وتأسيس فرق جديدة أخرى».

ودخل الفريق معسكراً تدريبياً في إيران لمدة 10 أيام، إذ إن «المعسكر الداخلي في بغداد غير كافٍ، والفريق يحتاج إلى تهيئة أفضل» للبطولة في المغرب.

وعلى الرغم من صعوبة مهمته، يُظهر المدرّب علي عباس (46 عاماً) المتخصّص بكرة القدم الخماسية قدراً كبيراً من التفاؤل.

خلال تمارين الإحماء يركض اللاعبون في مجموعات من 4 ممسكين بأذرع بعضهم مع أقنعة على أعينهم (أ.ف.ب)

ويقول: «اللاعبون يملكون روح الإصرار والتحدي، وهذا ما يشجعني أيضاً».

ويشير عباس، الذي يكرس سيارته الخاصة لنقل لاعبين معه من كربلاء إلى بغداد، إلى أن أبرز صعوبات تدريب فريق مثل هذا تتمثل في «جعل اللاعبين متمرّسين بالمهارات الأساسية للعبة لأنها صعبة».

وخلال استراحة قصيرة بعد حصّة تدريبية شاقّة وسط أجواء حارّة، يعرب قائد الفريق حيدر البصير (36 عاماً) عن حماسه للمشاركة الخارجية المقبلة.

ويقول: «لطالما حظيت بمساندة أسرتي وزوجتي لتجاوز الصعوبات» أبرزها «حفظ الطريق للوصول من البيت إلى الملعب، وعدم توفر وسيلة نقل للاعبين، والمخاوف من التعرض لإصابات».

ويطالب البصير الذي يحمل شهادة في علم الاجتماع، المؤسّسات الرياضية العراقية الحكومية «بتأمين سيارات تنقل الرياضيين من ذوي الاحتياجات الخاصة إلى أماكن التدريب للتخفيف من متاعبهم».

ويضيف: «لم تقف الصعوبات التي نمرّ بها حائلاً أمامنا، ولا مكان هنا للتردد، ولا للخوف».