أفلاطون في صقلية... تحويل الملك إلى فيلسوف

مرّ بسلسلة من الثورات العنيفة التي وصلت إلى ذروتها في إعدام معلمه سقراط

أفلاطون
أفلاطون
TT

أفلاطون في صقلية... تحويل الملك إلى فيلسوف

أفلاطون
أفلاطون

كان أفلاطون يناهز الأربعين عام 388 ق.م. كان قد شهد انقلاباً أقلوياً، استعادة ديمقراطية للسلطة، وإعدام معلمه المحبوب سقراط على يد محلفين من مواطني أثينا التي ينتمي إليها. فكر أفلاطون في شبابه بالدخول في عالم السياسة الأثينية المضطرب، لكنه قرر أن إصلاحاته لدستور المدينية وممارساتها التربوية كانت بعيدة جداً عن احتمالات التطبيق. بدلاً من ذلك، كرس نفسه للمسار الفلسفي، ولكنه احتفظ باهتمام أساسي بالسياسة، مطوراً في نهاية الأمر ما يمكن اعتباره أشهر مقولاته: أن العدالة السياسية والسعادة البشرية تتطلبان من الملوك أن يكونوا فلاسفة أو من الفلاسفة أن يكونوا ملوكاً. باقترابه من الأربعين، زار أفلاطون مدينة ميغارا اليونانية، ومصر، وقوريني (شحات في ليبيا)، وجنوب إيطاليا، والأكثر أهمية بينها، سرقسطة التي تتحدث اليونانية على جزيرة صقلية.
في سرقسطة التقى أفلاطون شاباً قوياً ذا توجه فلسفي اسمه دايون، وهو نسيب ديكتاتور سرقسطة، مجنون العظمة، المتهتك دايونيسيوس الأول. سيصبح دايون صديقاً دائماً لأفلاطون يتبادل معه الرسائل. وأدت تلك العلاقة إلى إدخال أفلاطون في البلاط الخاص للسياسة السرقسطية، وهناك قرر أن يختبر نظريته حول ما إذا كان الملوك يمكنهم أن يصيروا فلاسفة - أو الفلاسفة ملوكاً - لتزدهر العدالة والسعادة معاً أخيراً.
كانت لسرقسطة شهرة بوصفها مرتعاً للفساد والفجور، وكان أن اصطدمت قناعة أفلاطون بواقع الحياة السياسية في صقلية. كان البلاط في سرقسطة ممتلئاً بالشكوك والعنف والولع بالملذات، وكان دايونيسيوس الأول مهووساً بالخوف من أن يتم اغتياله، لذا رفض أن يُقص شعره بسكين وأمر أن يُحرق بالفحم. كان يجبر زواره - حتى ابنه دايونيسيوس الثاني وأخاه ليبتينيس - بأن يثبتوا أنهم غير مسلحين بأن تتم تعريتهم ويُفحصوا ويغيروا ملابسهم. لقد ذبح ضابطاً لأن الضابط حلم بقتله، وقتل جندياً لأنه أعطى ليبتينيس رمحاً ليرسم خريطة على التراب. لم يكن ذلك مرشحاً للقب الفيلسوف - الملك.
ولم تنجح خطة أفلاطون. لقد أغضب دايونيسيوس الأول بنقده الفلسفي لهيمنة البحث عن الملذات في بلاط سرقسطة، حين جادل في أنه بدلاً من الحفلات الماجنة والخمر على المرء أن يبحث عن العدالة والاعتدال ليحقق السعادة الحقيقية. مهما كانت حياة المستبد مترفة سيظل عبداً لرغباته طالما هيمن عليه البحث الدائم عن المتع الحسية. قال أفلاطون للطاغية معلماً أن العكس صحيح: الإنسان المستعبد لشخص آخر يمكن أن يحتفظ بالسعادة إن هو امتلك روحاً عادلة ومتزنة. ثم انتهت زيارة أفلاطون إلى صقلية بمفارقة كئيبة: باع دايونيسيوس الأول أفلاطون للعبودية. بدا له أنه إن كان اعتقاد أفلاطون صحيحاً فإن بيعه ليكون عبداً لن يكون ذا أهمية طالما، بتعبير كاتب السير اليوناني بلوتارخ، «أنه لن يرى في ذلك أذى، لكونه الإنسان نفسه الذي كانه من قبل؛ سيستمتع بالسعادة وإن فقد حريته».
لحسن الحظ أن أصدقاء أفلاطون افتدوه بسرعة، فعاد إلى أثينا ليؤسس الأكاديمية التي أنتج فيها على الأرجح العديد من أعظم أعماله، ومنها «الجمهورية» و«المأدبة». لكن تدخلاته في سياسة صقلية لم تتوقف. عاد إلى سرقسطة مرتين محاولاً في رحلتيه أن يؤثر في عقل وشخصية دايونيسيوس الثاني بإلحاح من دايون.
هذه الأحداث الثلاثة غائبة بصفة عامة عن فهمنا لفلسفة أفلاطون أو مرفوضة بوصفها اختراعات شاردة لكتّاب سيرته المتأخرين. لكن ذلك خطأ ناتج عن تجاهل الأهمية الفلسفية لرحلات أفلاطون الإيطالية. إن رحلاته إلى صقلية، في حقيقة الأمر، تكشف أن المعرفة الفلسفية تتضمن ممارسة، تظهر ما تملكه الصداقة من قوة هائلة في حياة أفلاطون وفلسفته، وتوحي بأن أطروحة الملك - الفيلسوف عند أفلاطون ليست وهمية بقدر ما هي غير مكتملة.
تعبر عن هذه الأحداث الحاسمة وعلى نحو مقنع رسالةُ أفلاطون السابعة والمهملة غالباً. لقد كانت تلك الرسالة لغزاً للباحثين ابتداء على الأقل بفقهاء اللغة الألمان في القرن التاسع عشر. ولئن قَبلت بصحتها النسبة الكبرى من الباحثين، فإن القلة منحت نظرية الفعل السياسي فيها مكانة بارزة في تحليل فلسفة أفلاطون. بل إن بعض الباحثين، على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، قاموا بمحوها من المعتمد الأفلاطوني، فأشارت أحدث تعليقات أكسفورد إليها بوصفها «الرسالة السابعة المزيفة لأفلاطون» (2015). إن لكل عصر أفلاطونه الخاص به، وبالنظر إلى النزوع إلى الصمت والبعد عن السياسة لدى العديد من الأكاديميين يتضح السبب في إهمال الأكاديميين المعاصرين في الغالب مناقشة ممارسات أفلاطون السياسية. ومع ذلك فإن معظم الباحثين - حتى أولئك الذين يودون لو كانت الرسالة مزيفة - وجدوها صحيحة استناداً إلى دلائل تاريخية وأسلوبية. لو عدنا إلى حكاية الرحلات الإيطالية التي قام بها أفلاطون، والتي يتحدث عنها الفيلسوف نفسه في الرسالة السابعة، سيمكننا أن نعيد إلى الحياة أفلاطون التاريخي الذي خاطر بحياته لكي يجمع الفلسفة والقوة. في حين تركز الرسالة السابعة على قصة الرحلات الثلاث التي قام بها أفلاطون إلى سرقسطة، فإنها تبدأ بعرض موجز لحياته المبكرة. مثل معظم أعضاء النخبة الأثينية، كان طموحه أن يدخل السياسة والحياة العامة. في عشريناته، مر أفلاطون بسلسلة من الثورات العنيفة التي وصلت إلى ذروتها في استعادة الديمقراطية وإعدام معلمه سقراط عام 399 ق.م. كتب أفلاطون: «في حين كنت ممتلئاً بالحماسة للحياة العامة، فإنني حين لاحظت هذه التغيرات ورأيت كيف كان كل شيء متقلباً، أصابني الدوار الكامل في النهاية». توصل إلى أن الوقت كان أكثر فوضوية من أن يسمح بالعمل المفيد، لكنه لم يتخلَّ عن رغبته في التدخل بالحياة السياسية. كان، بتعبيره، «ينتظر الوقت المناسب». وكان أيضاً ينتظر الأصدقاء المناسبين.
إن منتقدي أفلاطون ودايون يفهمون الفلسفة فقط من زاوية أداتية - من حيث هي وسيلة إلى تحقيق التأثير السياسي في النهاية. افترضوا أن القوة هي الخير الأعلى الذي يمكن للإنسان تحقيقه. كانوا بذلك يمهدون لدعوى توماس هوبز في كتابه «الوحش» (ليفاياثَن، 1651) أن البشر يمتلكون «رغبة دائمة لا تهدأ في امتلاك القوة سعياً إلى السلطة، رغبة لا تهدأ إلا بالموت». ولكن بالنسبة لأفلاطون، ليست القوة هدفاً وإنما الوسيلة الكامنة لخير أسمى. كما يتضح من أمثولة الكهف في «الجمهورية»، يسحر الفلاسفة جمالُ الأشكال: يريدون أن يبقوا في مملكة الديمومة والكينونة الخالصة التي يجدونها في العالم الأعلى. يجب دفعهم للعودة إلى ظلام الكهف وظلاله؛ لا لأنها سترفع من درجة متعتهم الفردية إلى أقصاها، وإنما لأنها ترفع من شأن المدينة ككل. غير أن موظفي بلاط سرقسطة كسبوا المعركة. بعد إقامة أفلاطون بأربعة أيام اتهم دايونيسيوس الثاني دايون بـ«التخطيط ضد الاستبداد» ونفاه. أمضى دايونيسيوس الثاني الوقت محاولاً كسب إعجاب أفلاطون، لكنه فشل في إيقاظ أي رغبة لديه في الفلسفة. بتعبير أفلاطون نفسه:
«تحملت كل هذا، متمسكاً بالهدف الأصلي الذي جئت من أجله، متأملاً أن يرغب على نحو ما في الحياة الفلسفية؛ لكن مقاومته لها كانت أقوى مني. لقد هبط الفيلسوف إلى عالم الظلال، بينما لم يصعد المستبد إلى الضوء».
قام أفلاطون برحلته الأخيرة إلى صقلية حين كان في السبعين من عمره. اضطرته فلسفته مرة أخرى إلى فعل شيء. كانت لديه فرصة لمساعدة دايون الذي كان دايونيسيوس الثاني قد نفاه، ولربما احتفظ بالأمل في أن رغبة الملك في الفلسفة ستستيقظ. جاءت الدعوة هذه المرة من أرخيتاس التارينتي، فيلسوف جنوب إيطاليا. وإن من المدهش أن أفلاطون، بعد حياة مليئة بالمصاعب في سرقسطة، أبحر مرة أخرى إلى صقلية، مواجهاً مخاطر البحر والقراصنة، واحتل مكانه في بلاط دايونيسيوس الثاني. ظل الملك مذهولاً بهالة الفلسفة، بل إنه كتب عن أفكار أفلاطون الفلسفية (وإن امتلأت كتابته بسوء الفهم والسرقة).
لكي يتأكد عما إذا كان دايونيسيوس الثاني مهيأً للنهوض بممارسة الفلسفة، اختبره أفلاطون بتأكيد ما تنطوي عليه الفلسفة الحقيقية من صعوبة حادة وتغيير في أسلوب الحياة:
«أولئك البعيدون عن أن يكونوا فلاسفة حقيقيين وليس لديهم سوى غطاء من الأفكار، مثل الرجال الذين تلوّح الشمس أجسادهم، عندما يرون كثرة ما يتطلبه طلب المعرفة، وكم عليهم أن يبذلوا من جهد عظيم، وتنظيم لحياتهم اليومية، ليتناسب مع الهدف الذي يسعون إليه، سيستنتجون أن المهمة صعبة؛ وهي كذلك لأنهم ليسوا مهيئين لذلك المسار». فشل دايونيسيوس الثاني في نهاية المطاف لأنه أراد أن يحول الفلسفة إلى أداة لتكون وسيلة أخرى للسلطة. لقد تأسس اختبار أفلاطون على إيمانه المتواصل بممارسة الفلسفة - وليس استعمالها - وهي مسار يقتضي التخلي عن المتع الحسية والسلطة من أجلها. يصف أفلاطون هذا المسار بالتفصيل:
«فقط حين... تحتك الأسماء والتعريفات والتصورات المرئية وغيرها وتُختبر في تداخلاتها، ويطرح التلميذ والمعلم أسئلة وإجابات بنية طيبة وبلا حسد، فقط عندئذٍ، حين يكون العقل والمعرفة النهايتين القصويين للجهد الإنساني، يمكن لهما أن يضيئا طبيعة الموضوع».
هنا مرة أخرى تكون المقابلة بين أفلاطون وهوبز مفيدة. فبينما يرى هوبز سوء النية و«الحسد» سمتين للطبيعة البشرية لا يمكن التخلص منهما، يرى أفلاطون أن إزالتهما شرط مسبق لممارسة الفلسفة ومن ثم للازدهار البشري.
هكذا لم يتحول دايونيسيوس الثاني إلى فيلسوف، ومات دايون في صراع أهلي دمر سرقسطة في نهاية المطاف. رغبة دايونيسيوس في تحويل الفلسفة إلى أداة جعلته يبحث عن المعرفة بوصفها مظهراً احتفالياً وأداة للهيمنة. لكنه تراجع حين طالبه الفيلسوف بدلاً من ذلك بتغيير كلي لحياته.
في نهاية الأمر، انسجمت المواجهات بين الفيلسوف والملك في صقلية مع المشهد المجازي للكهف في «الجمهورية»: دايونيسيوس الثاني يسعى للصعود من ظلال السياسة إلى ضوء الفلسفة بينما يسير أفلاطون في الاتجاه المعاكس، هابطاً من وضوح الفلسفة إلى ظلال السياسة. القول إن أفلاطون «فشل» في هداية دايونيسيوس الثاني إلى الفلسفة قول مضلل. ربما يكون من المنطقي أكثر أن نلاحظ أن الملك نفسه فشل، لكن حتى هذا يفرض على إرث العصور القديمة مفهوماً فردانياً لتشكل الشخصية. لم تكن شخصية دايونيسيوس الثاني مما صنعه هو؛ لقد شكله تعليمُه البسيط، حياته الباذخة والطبيعة المرتزقية للمحيطين به. إلقاء اللوم على أفلاطون لعدم تمكنه بصورة عجائبية من إلغاء كل ذلك التأثير أشبه بلوم المظلة الشمسية لأنها لم تعمل كالباراشوت. ما كان أساسياً بالنسبة لأفلاطون لم يكن تحقيق هدفه السياسي، وإنما ممارسته لفلسفته الحقيقية...
ربما يكون السبب الرئيسي بالنسبة لأفلاطون في أن الفلاسفة يجب أن يكونوا ملوكاً هو أنهم يستطيعون التأثير في طبيعة التعليم. بعض مقترحات أفلاطون حول كيفية عمل ذلك في «الجمهورية» ليست مقنعة (كما في فكرة تجريد الأطفال من معرفة والديهم لكي يكون الصغار أكثر مرونة). لكن التعليم بوصفه استثماراً للروح وممارسة للفلسفة، التي تتضمن القدرة على جعل ما يسميه هوبز «رغبة فردانية في القوة» ثانوية بالنسبة للمسعى الاجتماعي نحو العدالة، يظل ذلك هدفاً ضرورياً وملحاً.
في «ولادة المأساة» (1872) يعلن فريدريك نيتشه: «المعرفة تقتل الفعل؛ الفعل يستدعي حجاب الوهم». ما زلنا نعيش تحت ظلال هذا الاعتقاد. عصرنا المتطرف في فردانيته وتخصصه يجيز الفصل بين المعرفة والقوة، حيث يتبع الأكاديميون أحدهما ويمارس السياسيون الآخر. رسالة أفلاطون السابعة تقدم رؤية مختلفة باستدعاء العلاقة الحميمة والضرورية بين الفلسفة والسياسة، المجمتع والعدالة، الصداقة والمعرفة. فوق ذلك تعلمنا أن الفعل يتطلب المعرفة، والمعرفة الفعل.

*روميو (أستاذ الفلسفة في كلية إيراسموس) وتيكوزبيري (طالب دراسات عليا في الكلاسيكيات في جامعة ستانفورد)
موقع «آيون» (Aeon)



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.