عندما صرح الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن لصحيفة نيويورك تايمز في بداية هذا الشهر، أنه «لن يدخل في أي اتفاقية تجارية جديدة مع أي شخص قبل القيام باستثمارات كبيرة هنا في أميركا وفي عمالنا وفي التعليم»، كان هذا رسالة واضحة بأن شعار «أميركا أولا» الذي رفعه الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترمب أبعد من أن يتم التخلي عنه على الفور. يدرك بايدن أن إعادة ترتيب البيت الداخلي يشكل أولوية، تتعدى بكثير حرص واشنطن على علاقاتها بحلفائها وأصدقائها، على الأقل في بداية عهده. وبعد إتمام صفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، طرحت أسئلة مهمة عن علاقة إدارة بايدن الجديدة معهما. فقد شكل فوزه في الانتخابات مفاجأة لم تكن تتوقعها بريطانيا التي كانت تعول على علاقة تجارية مميزة مع إدارة ترمب بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. في المقابل ورغم تعبير الأوروبيين عن ارتياحهم لفوزه، إلا أنهم يدركون أن الولايات المتحدة قد تغيرت. حتى أن بعض التحليلات أشارت إلى أن تسريع توقيع اتفاق خروج بريطانيا كان بدافع من استعداد الطرفين للتعامل مع بايدن، من دون الاضطرار إلى استهلاك الكثير من الوقت والطاقات في زمن تتصاعد فيه التحديات من لاعبين دوليين أكثر خطورة، كالصين ناهيك عن تداعيات وباء كورونا.
وينقل عن مساعدي بايدن أنه أرسل رسالة واضحة جدا حول ضمان عدم وجود حدود جمركية صارمة بين جمهورية إيرلندا وهي جزء من الاتحاد الأوروبي، وإيرلندا الشمالية التي هي جزء من المملكة المتحدة. وهو ما تحقق في الاتفاق وشكل نجاحا سياسيا لبايدن، الذي لطالما تمسك بضرورة الحفاظ على اتفاق «الجمعة العظيمة» الذي جلب السلام لإيرلندا الشمالية ووقع في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون.
تقول هيذر كونلي نائبة مساعد وزير الخارجية السابقة للشؤون الأوروبية والآسيوية في عهد جورج بوش الابن «لقد سمعت بريطانيا تلك الرسالة وتجاوبت معها». ويدرك البريطانيون أن بايدن عارض مع الرئيس السابق باراك أوباما خروجهم من الاتحاد الأوروبي، لذلك لا يرغبون في زيادة التعقيدات على علاقتهم معه. في المقابل يدرك بايدن أنه سيكون على رأس قائمة أولويات إدارته تنظيم مدى تأثر الشركات الأميركية بهذا الخروج، بعدما كانت بريطانيا قاعدة ومركزا رئيسيا للشركات الأميركية التي تعمل في أوروبا، وتعيين القواعد الجديدة للتجارة عبر الأطلسي. ويحرص بايدن على الحد من التأثيرات السلبية على الشركات الأميركية وموظفيها في بريطانيا، خصوصا تلك التي تعمل في قطاعي الخدمات والمال، وهما قطاعان مهمان ومكونان رئيسيان في التجارة الاقتصادية الحديثة لم تشملهما صفقة الخروج. فالعديد من شركات التكنولوجيا الأميركية العملاقة وكبريات البنوك الأميركية تدير عملياتها الأوروبية إما من بريطانيا أو من إيرلندا. وفي ظل عدم وجود صفقة تغطي هذين القطاعين فإن جهود التوصل إلى اتفاق تجاري سريع بين واشنطن ولندن، كما كانت تشتهيه بريطانيا، قد يكون معقدا جدا. كما أن تعقيدا داخليا يلوح في الأفق يتمثل في أن قانون المسار السريع الذي يمنع الكونغرس من تعديل الصفقات التجارية، ويعد أمرا ضروريا للتفاوض على مثل هذه الاتفاقيات، سينتهي خلال شهور. وهذا على أي حال لا يتناقض مع «أولويات» بايدن الذي لا يبدي استعدادا للدخول في صفقات فورية كما قال. في المقابل هناك من يعتبر أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يمثل فرصة للولايات المتحدة للاستفادة منه في نزاعاتها مع الاتحاد الأوروبي نفسه. بريطانيا كانت ملزمة في الوقوف مع فرنسا وألمانيا وأعضاء الاتحاد الآخرين في أي نزاع تجاري مع واشنطن. اليوم لم تعد لندن ملزمة بذلك مع استمرار خلافات الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي حول دعم صناعة الطيران والضرائب على شركات التكنولوجيا واحترام الخصوصية من قبل مواقع التواصل الاجتماعي الأميركية الكبرى، كفيسبوك وتويتر وغوغل وغيرها. لا بل يمكن لبريطانيا أن تستغل وضعيتها التجارية الجديدة في الضغط أيضا على شركائها الأوروبيين السابقين، في المفاوضات التي ستكملها معهم لإنجاز الشق التجاري الذي يغطي قطاعي الخدمات والمال. وهذا الأمر قد ينسحب أيضا على قضايا السياسة الخارجية، حيث تحتاج الولايات المتحدة إلى حليف قوي في مواجهة خلافاتها مع كل من الصين وروسيا وحتى إيران، في ظل تباين آرائها مع الاتحاد الأوروبي، وبريطانيا هي الأقرب إليها في هذا المجال. ومع قرب الحديث عن توصل الأوروبيين لاتفاق استثماري مع الصين، لا يخفى معارضة لندن له حتى قبل خروجها من الاتحاد، وتبنيها موقف واشنطن من شبكة الجيل الخامس الصينية للاتصالات على سبيل المثال. ورغم ذلك يشكل خروج بريطانيا نكسة سياسية لإدارة بايدن الديمقراطية التي تدعم سياسات الاستقرار مع أقرب الحلفاء الديمقراطيين الغربيين وإعادة الروح لحلف الناتو بعدما أضعفتها سياسات ترمب. وهو على الأرجح لن يقوم بمكافئة بريطانيا على خروجها من الاتحاد الأوروبي عبر توقيع صفقات تجارية تفضيلية معها. وهذا ما يثير مخاوف البريطانيين الذين باتوا يشعرون أن بلادهم لم تعد جسرا ضروريا للولايات المتحدة نحو أوروبا، مع تراجع أهميتها وموقعها بالنسبة إلى واشنطن، التي ترى في الاتحاد الأوروبي سوقا أكبر مقارنة بها. يقول رئيس الوزراء البريطاني المحافظ السابق جون ميجور: «نحن الآن أقل صلة بكليهما. في العقود الأخيرة كنا نعزي أنفسنا بأن ثقلنا في الشؤون الدولية يفوق حجمنا، وهذا كان صحيحا في السابق، اليوم اختلف الحال».
تمسك بايدن بشعار «أميركا أولاً» يطرح تحديات على بريطانيا والاتحاد الأوروبي
تمسك بايدن بشعار «أميركا أولاً» يطرح تحديات على بريطانيا والاتحاد الأوروبي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة