عبر معرضه الجديد «فانتازيا»، يقدم التشكيلي المصري سيد سعد الدين، فناً صوفي الهوية والمزاج، يحرر المشاهد من أسر الظرفين الزماني والمكاني؛ ليعيش في عوالم رومانسية ناعمة، يستمتع فيها بحالة من «الروحانية الخالصة».
ورغم أننا نرى في المعرض المقام الآن في غاليري «بيكاسو إيست»، بمنطقة القاهرة الجديدة، ويستمر حتى 20 يناير (كانون الثاني) الحالي، شخوصاً نحتها بالفرشاة، وقد غابت ملامحها، بل اختبأت وجوهها أحياناً، ولم يبق منها إلا ما يدل على الجسد، وكأن لا شكل ولا وجه ولا انفعالات تغويها، فإننا نشعر حين ننظر إلى شخوصه أنهم حميمون إليه وإلينا! فهو يسلط فوقهم الأضواء، ويشكلهم بخطوط رصينة ومتحررة من عناصر الزخرف والتزويق، لكنها قطعت مسافات بعيدة نحو مناطق روحية عميقة، فنجحت أن تمس قلب المشاهد.
وعبر لوحاته الأخرى بالمعرض التي تبلغ نحو 15 عملاً، نلتقي بمجموعة من الصيادين يبدون على مراكبهم الشراعية في حالة تضرع وابتهال إلى الخالق أكثر منها أوقات عمل، ويستمر في تجسيده قدسية السعي وراء الرزق عبر مجموعة لوحات للباعة الجائلين وداخل السوق، وحتى السيدة التي تنشر الغسيل جعلها وكأنها تعلق قطعة فنية لا قطعة ملابس ليشاهدها الجيران والمارين بالشارع، ومن تناوله لأجواء المدن الصاخبة برقي في لوحاته يأخذنا إلى طبيعة الريف المصري الذي يجمع بين الهدوء وحيوية حياة الفلاحين، وكذلك إلى البيئة البدوية، حيث رعاة الغنم وأشجار النخيل التي تعانق البيوت الدافئة بناسها وحكاياتها، وخلال ذلك كله اتسمت لوحاته بالخيال الخصيب الذي يخرج المشاهد في بعض الأحيان من الواقع إلى عمق الفانتازيا، ويصل إلى ذروة التعبير في لوحته عن ابنته الراحلة في زهرة شبابها، حين يبدو أنه قد تخيلها في برزخها أو عالمها الخاص تتأمل ما حولها صافية النفس نبيلة المشاعر.
هذه الطاقة التعبيرية البارزة في لوحاته جاءت انعكاساً لطفولته الثرية بالأحداث والشخوص، حيث كان يصحبه والده معه في عمله، وعن ذلك يقول الفنان لـ«الشرق الأوسط»، «كانت نزهتي اليومية إلى المزرعة التي يشرف عليها والدي المهندس الزراعي في قنا (جنوب مصر)، وكان يُطلق عليها اسم الغابة الصناعية من فرط ما تحتويه من أشجار، حيث كان الغرض منها - وهي الموجودة في قلب الصحراء - هو صد الرياح الموسمية الحارة جداً عن المدينة، وقد أثرى ذلك كله خيالي، فكنت أرقب الأشجار الكثيفة، وأنسج حولها حكايات مثيرة، ومن ثم أرسمها في دفاتر أو اسكتشات كانت لا تفارقني أثناء زيارتي لها».
اللافت أن أعمال المعرض لا تُعد تسجيلاً أو توثيقاً لمشاهد درامية متباينة، بقدر ما هي بمثابة «بحث روحي» داخلي في مكنونات النفس البشرية، يجاوز بها ما هو ظاهري إلى ما هو باطني، لتتحول لوحاته إلى نقطة التقاء بين التصوف والتشكيل.
ويمزج فيها الفنان بين التعبيرية والإيقاع الهندسي، حسبة تقنية أكاديمية، تأثر فيها بدراسته وتدريسه في معهد إيطالي عريق متخصص في الفنون بالقاهرة، وذلك بعد تركه دراسة الهندسة بمحافظة المنيا (جنوب القاهرة) التي كان قد التحق بها إرضاء لوالده، يقول: «كنت أريد الالتحاق بكلية الفنون الجميلة، لكن أمام رغبة والدي اضطررت لدراسة الهندسة، إلا أنني سرعان ما هربت منها، وسافرت إلى القاهرة؛ لإشباع ولعي بالفن ودراسته وممارسته، وتحقق لي ذلك بعد التحاقي بمعهد ليوناردو دافنشي بمساعدة أستاذي سيد عبد الرسول الذي شجعني على الاستمرار في الفن لإيمانه بموهبتي».
وتأثر الفنان سيد سعد الدين أيضاً بجماليات النحت المصري القديم، لكنه رغم ذلك كله لم يسمح لصرامة البناء المعماري أن تسيطر عليها، فغلفها بلغة بصرية تفيض بالشاعرية والأحاسيس الحالمة، وذلك بأقل قدر من التفاصيل والعناصر، فتبدو أعماله تطبيقاً عملياً لمقولة الفيلسوف الفرنسي جون فرنسوا: «قليلة هي الأشياء التي تُرى في اللوحة، كثيرة هي الأشياء التي تدعو إلى التفكير»... وهو ما يمثل نتاجاً منطقياً لحصيلة تراكمية لخبراته.
رحلة تشكيلية لعوالم الرومانسية والروحانية في «فانتازيا»
المعرض المصري يضم 15 عملاً متنوعاً لسيد سعد الدين
رحلة تشكيلية لعوالم الرومانسية والروحانية في «فانتازيا»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة