تحقيق جديد لأعمال السياب يفتح باب تزييف التاريخ الأدبي في العراق

صاحب «أنشودة المطر» في ذكرى رحيله السادسة والخمسين التي تصادف اليوم

غلاف الأعمال الكاملة  «دار الرافدين»
غلاف الأعمال الكاملة «دار الرافدين»
TT

تحقيق جديد لأعمال السياب يفتح باب تزييف التاريخ الأدبي في العراق

غلاف الأعمال الكاملة  «دار الرافدين»
غلاف الأعمال الكاملة «دار الرافدين»

ما جوهر الاضطراب الذي استدعى تحقيقاً جديداً للأعمال الشعرية الكاملة لبدر شاكر السياب؟
كان إبراهيم الوائلي أول من فتح باباً أُغلق بالرتاج على ما سماه بعنوان تراثي هو «اضطراب الكلم» في شعر أحد كبار الشعراء العراقيين، وهو الزهاوي. فكانت الحصيلة كتابه الرائد ولا شك، اضطراب الكلم لدى الزهاوي «مطبعة الإيمان، بغداد: 1970». والكتاب ثمرة التدقيق ومقابلة النصوص بعضها ببعض بين ديواني الزهاوي الأول «الكلم المنظوم» وديوانه الثاني «لم يذكر اسمه، وقد يقصد الديوان المعروف بديوان الزهاوي – المطبعة العصرية بمصر لصاحبها خير الدين الزركلي. وذكر فقط سنة طبعه عام 1924 بالقاهرة»، فوجد أن هناك ظاهرة وصفها بـ«ليست بغريبة في موضوعها بقدر ما هي غريبة في سعتها وتنوعها»، وهي عنده «تبديل الكثير من المفردات والعبارات وبعض الأشطر بتمامها». ولقد أغرت هذه الظاهرة الباحث الرصين الوائلي فمضى بفحص شعر الزهاوي المعروف والمتداول آنذاك كله، فوجد أن اضطراب الكلم يكاد يقتصر على الديوانين المذكورين وديوانه الثالث «اللباب». لم يزد الوائلي عما وصفه باضطراب الكلم، وكان هدفه الرئيس استعادة أصل النص الشعري قبل أن يلحقه الاضطراب. ثمَّ إنه لم يجد له مثيلاً في الشعر العربي، لا سيما العراقي منه، رغم أنه قد وصف الظاهرة بعدم الغرابة؛ ربما لأنها على صلة غير خافية بظاهرة معروفة في تاريخنا الأدبي سمّاها البصير جداً طه حسين «في الشعر الجاهلي – 1926»، جرياً على رأي أستاذه مارجليوث «أصول الشعر العربي - 1925: الانتحال». فهل انتهى الأمر عند حدود الظاهرة المفردة؟

روايات مختلفة لقصيدة واحدة
في ذكرى رحيله السادسة والخمسين، تُصدر دار «الرافدين» التحقيق الموسع للأعمال الكاملة لرائد الشعر الحر في العالم العربي بدر شاكر السياب، في مجلدين أنيقين. والتحقيق الجديد بصنعة شاعر شاب سبق له أن أصدر أربع مجاميع شعرية هو علي محمود خضير، وبتقديم خاص كتبه أدونيس تحدث فيه عن السياب بوصفه شاعراً مؤسِّساً للشكل الجديد في الشعر العربي. وتحدث كذلك عن الإشكاليات الكبرى التي تعرض لها السياب في قصائده الرئيسة فيما يخص موقع الشعر في المجتمعات الإسلامية العربية. فما الجديد الذي استدعى إصدار هذا التحقيق للأعمال الشعرية الكاملة للسياب؟
في مقدمة تحقيقه يكتب خضير أن شعر السياب لم يكن موضع عناية خاصة تتولى وتأخذ على عاتقها توثيق شعر السياب على أساس مهني محايد ينقِّيها مما وصفه بـ«الأخطاء الإجرائية والتأثيرات (بأنواعها)»... وهو يتهم الطبعات السابقة لشعر السياب، بما فيها الطبعة المعروفة والمتداولة لأعمال السياب الكاملة بمجلديها «دار العودة، بيروت – 1971» بأنها «تعاني من ثغرات مؤثرة وعلَّات متوارثة لا تتناسب مع قيمة الشاعر»، وهي عنده تتصل بـ«نقص، سهو، عدم دقة، وأخطاء». والاتهام يطال حتى ما أصدره السياب في حياته، وما صدر بعد رحيله الفاجع، من دواوين شعرية. ثمة، إذن، اضطراب جديد لا بد من معالجته للوصول إلى ما افترضه المحقق «النسخة الأصلية» لشعر السياب التي أرادها الشاعر وليس ما فرضته «الظروف التاريخية الدقيقة». وهو اضطراب معاصر نسبياً، ومختلف إلى حد ما عما درسه الوائلي في الدواوين الثلاثة للزهاوي. فما جوهر الاضطراب الذي استدعى تحقيقاً جديداً للأعمال الشعرية الكاملة لبدر شاكر السياب؟

حذف حسب الموقف السياسي للناشر
يجزم المحقِّق بأن القارئ العربي لم يطّلع ويقرأ النص الحقيقي الكامل لقصيدة السياب؛ فهناك تبايُن «اختلاف - اضطراب» بين القصائد في طبعة الأعمال الكاملة ونشرها في الصحف والمجلات أو في الدواوين المفردة. فنحن، كما يشدِّد المحقِّق، أمام روايات مختلفة للقصيدة الواحدة. لنأخذ قصيدة «الأسلحة والأطفال»، مثلاً. سنجد لها ثلاث روايات – صياغات: رواية مطبعة «الرابطة - بغداد: 1954»، ورواية ديوان «أنشودة المطر – منشورات مجلة شعر: 1960»، ورواية طبعة «دار العودة – بيروت: 1971». وهذا الاضطراب ذو أشكال مختلفة: تعديلات أجراها الشاعر بنفسه، وحذْف «مقاطع اعتمدها الشاعر»، وإضافة أخرى سبق أن حذفها بـ«نفسه» أيضاً. وسبب هذا التباين «الاختلاف»، كما يرى المحقِّق، عائد إلى الموقف السياسي للناشر «دار نشر أو صحيفة أو مجلة» أو الدولة وقتذاك، وهناك ما جرى حذفه «بتخويل من الشاعر وتنسيق معه»، وفي كل الأحوال فقد وثَّق المحقِّق هذه الحالات بهوامش خاصة في موضعها. نذكِّر، هنا، بما كُتب على غلاف أحد دواوين الزهاوي نفسه، قبل السياب بعقود، مما يؤكد أثر السياسة في اضطراب شعر الزهاوي: «أسقط ناظمه بعض أبيات قصائده، ونشر أكثرها إبانها بإمضاء مستعار في أشهر جرائد مصر يوم كان الاستبداد شديداً». وسنرى أن اضطراب الشعر جزء أصيل من اضطراب بلاد كاملة.
التباين، إذن، حاصل ولا شك، ولكي يعثر المحقِّق على «النسخة الأصلية» فقد كان عليه أن يتوسل، في إنجازه مهمته الشاقة، بما توفَّر من «مخطوطات الشاعر»، والطبعات السابقة للأعمال الكاملة، وهناك الدراسات التي كُتبت عن حياة السياب وشعره. فوضع ما يمكن تسميته بخريطة طريق في عمله. وهذه الخريطة تمثِّلها ست خطوات التزم بها المحقق، وهي: التحري الدقيق في القصائد، والتحقيق حسب المتاح من «مخطوط أصلي أو وثيقة منشورة»، والضبط الشكلي للكلمات والأبيات الشعرية وتصحيح ما يرد من أخطاء فيها، وكتابة هوامش تتولى مهمة شرح ما طرأ على القصيدة «تعديلاً أو حذفاً»، وإيراد بعض التفاصيل «الخاصة» المتعلِّقة بالقصيدة، ثم شرح الغامض من «المفردات والأعلام» الواردة في القصيدة.
من حُسن حظ المحقِّق، وربما الأجدر أن نكتب من حسن حظ السياب نفسه، أن المحقق هو شاعر عارف بالشعر العربي، على الرغم من حداثة سنه وتجربته الشعرية، ولقد مكّنته هذه المعرفة من أن يكتشف هنّات الطبعات السابقة ويشخِّص مواضع اختلافها وتباينها عن بعض. من هذا القبيل ما يتحدث عنه المحقِّق مما يتصل بعدم «التزام الطبعات (الكاملة) السابقة بالصياغات النهائية لدواوين الشاعر»؛ فهي تتجاهل التغييرات التي تطرأ على القصائد، فلا تهتم بها، وكان الأجدر بها أن تفرد لها هوامش خاصة توضح الأمر لدى القارئ. ومما له صلة بما وفَّرته معرفة المحقِّق الشعرية لنص السياب تصحيح أخطاء مضى عليها خمسون عاماً، وكان الأجدر بجامعي شعره، فضلاً عن دارسيه الكثرة، أن ينبهوا عليها. وهو يسوق، مثلاً، ما ورد في قصيدة «ليلة في العراق – مجموعة شناشيل ابنة الجلبي» من خلل الوزن واضطراب المعنى، لا سيما في قوله «تمصُّ الماء، يقرع في مداها النُّسغُ»، والذي سيجده بصياغة جديدة تتضمن إضافة تُصلح اضطراب الوزن الشعري والمعنى في مخطوطة القصيدة، وفي عدد مجلة «حوار»: «تمصُّ الماء، يقرع في مداها النُّسغُ آلاف الدرابك حين ترتعش».
غير أن ما يسمّيه المحقق بـ«تبدلات المتن الشعري» يظل ملاحظة أساسية؛ فهو يعتقد أن هذه «التبدلات» حصلت لعوامل متعدِّدة، يتعلق بعضها باختلاف وتحولات الشاعر وقناعاته الفنية. وبعضها على صلة بتحقيق طلب دور النشر، في حياة الشاعر وبموافقته، أو بعد رحيله. وفي هذا السياق نجد المحقِّق متعاطفاً مع السياب ونصه الشعري، فنراه يندد بالتعسف الذي لحق بشعر السياب حتى جاوز «الحدود الأدبية والأخلاقية في بعض الموارد إلى محاولات تنقسم – مثالاً لا حصراً: إما للنيل منه والغض من مكانته، وإما توجيه شعره بسياق ما».

حفلة تزييف كبرى
هل نحن إزاء ما سماه الوائلي «اضطراب الكلم»، على صعيد مختلف وبعيد زمنياً عن شعر الزهاوي، أم نحن أمام مجرد تباين واختلاف بين نصوص قصيدة السياب؟ وهل هذا الاضطراب يشمل الشعر العربي بطبعاته الوطنية كلها أم أنه يقتصر على الأدب العراقي، شعراً وقصةً قصيرةً وروايةً، وربما حتى مسرحاً؟ لقد سمعنا وقرأنا عن قصائد أسقطها محمود درويش وأدونيس، وربما حتى سعدي يوسف، لكننا لم نسمع أمراً مماثلاً ومشابهاً لما حدث ويحدث في الشعر العراقي والأدب عامةً، فلا نعرف أن ديوان شاعر النيل حافظ إبراهيم، قد اضطربت قصائده واختلفت في النشر. وهو ذاته ما لم يحصل مع محمود سامي البارودي، وأمير الشعراء أحمد شوقي، بل لم يحصل مع معاصر السياب صلاح عبد الصبور وغيره ممن لحقه. مرة أخرى هل ما حصل ويحصل، وما سيحصل ولا شك، يخص الشعر العراقي وحده؟ وعن ماذا يعبّر اضطراب الشعر العراقي وتباينه؟ وهل حقاً نحن في سياق ظاهرة أدبية صِرفة ينحصر الاشتغال والتفكير بها في سياق الأدب فقط؟ ألا يعبّر اضطراب الشعر عن اضطراب البلد والشخصية العراقية؟ إن ما فُهم على أساس من أنه اضطراب الكلم قد تحول بتعمد وتعنُّد إلى رغبة جامحة تتعلق وتختص بظاهرة جديدة ومختلفة كلياً في سياق الشعر والأدب العراقي، إنها ظاهرة تزييف التاريخ الأدبي القائم على أساس تزييف النص وتدمير ثباته المتحقق عبر التداول. لنأخذ، مثلاً، الشعر الحربي الذي كُتب من منطق تمجيد الحرب في عراق الثمانينات وصولاً إلى لحظة سقوط الديكتاتور، وتتصل به قصائد المدح لصدام حسين... ماذا حدث لهذا الشعر، ذلك الكم الكبير الذي كانت عيني تذهب إلى ركنه في مكتبة كلية الآداب؟ ليس عندي سوى جواب واحد ووحيد: لقد جرى رفع هذا الشعر من المجاميع الكاملة المطبوعة لاحقاً، أو جرى تغيير النص بما ينسجم مع مشهد السقوط المدوّي. نحن في حفلة تزييف كبرى يشترك فيها شعراء وكتاب قصة ورواية ومسرح. ومن المؤسف حقاً أن الحياة والظروف الملتبسة قد ورَّطت السياب بهذا الاضطراب «التزييف». وبعض مأثرة التحقيق الجديد أنه يدعم فرضية كتاب أعمل عليه منذ سنوات، يناقش مشكلة أو مشكلات تزييف النص الأدبي، ومن ثمَّ تزييف التاريخ الأدبي في العراق.
أياً كان الأمر، فإن التحقيق الجديد للأعمال الشعرية الكاملة لبدر شاكر السياب يعيد الجدل فيما يخص شعر السياب. وهو تحقيق مهني محايد، حاول محقِّقه أن ينأى بنفسه وعمله عما يثير اللبس، ويفتح شهية الاختلاف على ما أنجزه. وهي مأثرة تستحق الإشادة، مثلما تستحق صنعة علي محمود خضير نقاشاً علمياً أكثر تخصصاً وفائدة. أقصى ما تحدث عنه المحقِّق، في سياق مهنيته، أن كتب عن «تباين» القصيدة واختلاف طبعاتها، وركَّز على تفاصيل عمله المهني المحايد، فكان هذا التحقيق ثمرة الحياد والعمل المهني. وهو، بالنسبة لي، دليل آخر على صحة فرضيتي عن تزييف التاريخ الأدبي والتلاعب بثبات النص الأدبي وتداوله التاريخي في العراق.

* ناقد وأكاديمي عراقي


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
TT

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وما لهما وما عليهما... في زمن الروبوتات المؤنسنة والعقول الذكية الاصطناعية وما لها وما عليها، تحدُث من حين لآخر هزات عنيفة تحلج بعض العقول الهانئة، ذات القناعات القانعة، فتستيقظ بغتة على أسئلة طارئة. مدوِّخة بلْ مكهرِبة.

- ما هذا الذي يحدث؟

تماماً كما حدث في المعرض الدولي للكتاب في الجزائر، حدث ذلك منذ طبعتين في الصالون الدولي للكتاب في باريس، إذ حضر كتاب كبار ذوو شهرة عالمية، كل واحد منهم يركب أعلى ما في خيله، وحطّت رحالَها دورُ نشرٍ لا يشقّ لها غبار. لكن المنظمين والمشاركين والملاحظين والمراقبين والذين يعجبهم العجب، والذين لا يعجبهم العجب، على حين غرة وفي غفلة من أمرهم، فوجئوا بآلاف القادمين من الزوار شباباً وبالغين، كلهم يتجهون صوب طاولة، تجلس خلفها كاتبة في العشرينات، لا تعرفها السجلات العتيقة للجوائز، ولا مصاطب نقاش المؤلفين في الجامعات، أو في القنوات الشهيرة المرئية منها والمسموعة. الكاتبة تلك شابة جزائرية تفضّل أن تظلَّ حياتها الخاصة في الظِّل، اسمها سارة ريفنس، وتُعد مبيعات نسخ رواياتها بعشرات الملايين، أما عدد قرائها فبعدد كتّاب العالم أجمعين.

وكالعادة، وكما حدث منذ سنوات مع الروائية الجزائرية الشابة سارة ريفنس، أثار القدوم الضاج للكاتب السعودي أسامة مسلم ذهول جل المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي، حين حضر إلى المعرض الدولي للكتاب في الجزائر 2024. وقبله معرض الكتاب بالمغرب ومعارض كتب عربية أخرى، وفاجأ المنظمين والزوار والكتاب فيضانُ نهر هادر من الجموع الغفيرة الشابة من «قرائه وقارئاته». اكتظ بهم المكان. جاءوا من العاصمة ومن مدن أخرى أبعد. أتوا خصيصاً للقائه هو... هو وحده من بين الكتاب الآخرين الكثر المدعوين للمعرض، الذين يجلسون خلف طاولاتهم أمام مؤلفاتهم، في انتظار أصدقاء ومعارف وربما قراء، للتوقيع لهم بقلم سائل براق حبرُه، بسعادة وتأنٍّ وتؤدة. بخط جميل مستقيم، وجمل مجنّحة منتقاة من تلافيف الذاكرة، ومما تحفظه من شذرات ذهبية لجبران خليل جبران، أو المنفلوطي أو بودلير، أو كلمة مستقاة من بيت جميل من المعلقات السبع، ظلّ عالقاً تحت اللسان منذ قرون.

لا لا... إنهم جاءوا من أجله هو... لم تأتِ تلك الجموع الغفيرة من أجل أحد منهم، بل ربما لم ترَ أحداً منهم، وأكاد أجزم أنها لم تتعرف على أحد منهم... تلك الجموع الشابة التي ملأت على حين غرة أجنحة المعرض، ومسالكَه، وسلالمَه، وبواباتِه، ومدارجَه، واكتظت بهم مساحاته الخارجية، وامتدت حتى مداخله البعيدة الشاسعة. يتدافعون ويهتفون باسم كاتبهم ومعشوقهم، هتافات مضفورة بصرخات الفرح:

- أووو... أووو... أووو أسامة...!!

يحلمون بالظفر برؤيته أخيراً عن قرب، وبلقائه هذه المرة بلحمه وعظمه، وليس شبحاً وصورة وصوتاً وإشارات خلف الشاشات الباردة لأجهزتهم الإلكترونية. يأملون بتوقيعه على الصفحة الأولى من إحدى رواياته، ولتكن روايته «خوف» مثلاً.

هكذا إذن... الأدبُ بدوْره، أضحى يرفض بيت الطاعة، بل يهدمه ويِؤسس قلعته الخاصة، التي تتماهى مع هندسة ذائقة العصر الجديدة، القابلة للنقاش. إنها الإشارة مرة أخرى ومنذ ظهور الكائن البشري من نحو ثلاثة مليارات سنة، على أن الزمن يعدو بالبشر بسرعة مدوخة، بينما هم يشاهدون - بأسف غالباً - حتف الأشياء التي تعوّدوا عليها، وهي تتلاشى نحو الخلف.

من البديهي أن الكتابة على الصخور لم تعد تستهوي أحداً منذ أمد بعيد، سوى علماء الأركيولوجيا الذين لهم الصبر والأناة، وقدرة السِّحر على إنطاقها، وقد أثبتوا ذلك بمنحنا نص جلجامش، أول نص بشري كتب على الأرض، وأما نظام الكتابة فقد تجاوز معطى الشفهية إلى الطباعة، ثم إلى الرقمية، وتكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي و...!

على ذِكر الذكاء، فليس من الذكاء ولا الفطنة التغاضي عن الواقع المستجد، أو التعنت أمام فكرة أن العالم في تغير مدوّ وسريع، وقد مسّ سحره كل جوانبه ومنها سوق الأدب، ولا بد من الاعتراف أن المنتِج للأدب كما المستهلك له، لم يعودا خاضعين في العرض والطلب لشروط أسواقه القديمة، وإن لم تنقرض جميعها، في ظل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتوفر الـ«بلاتفورم» و«يوتيوب» و«إنستغرام» و«تيك توك» و«فيسبوك» وهاشتاغ وما جاورها.

لكن الأمر الذي لا بد من توضيحه والتأكيد عليه، أن دمغة الأدب الجيد وسمة خلود الإبداع، لا تكْمنا دوماً وبالضرورة في انتشاره السريع، مثل النار في الهشيم، وقت صدوره مباشرة، وإلا لما امتد شغف القراء عبر العالم، بالبحث عن روايات وملاحم وقصص عبرت الأزمنة، بينما لم تحظَ في وقتها باهتمام كبير، والأمثلة على ذلك عديدة ومثيرة للتساؤل. أسامة مسلم، وسارة ريفنس وآخرون، كتّاب بوهج ونفَس جديدين، على علاقة دائمة ووطيدة وحميمية ومباشرة مع قرائهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي، فلا يحتاجون إلى وسيط. مؤلفون وأدباء شباب كثر عبر العالم، من فرنسا وأميركا وإنجلترا وكندا وغيرها مثل Mélissa Da Costa - Guillaume Musso - Laura Swan - Morgane Moncomble - Collen Hoover - Ana Huang وآخرين وأخريات ينتمون إلى عالم رقمي، تسيطر فيه عناصر جديدة تشكل صلصال الكتابة وجسر الشهرة... لم يمروا كما مر الذين من قبلهم على معابر الأدب، وتراتبية مدارسه المختلفة التي وسمت مراحل أدبية متوهجة سابقة لهم، ولم يهتموا كثيراً بالنّسَب الجيني لأجدادهم من الروائيين من القارات الخمس بمختلف لغاتهم، ولم يتخذوا منهم ملهمين، ولا مِن مقامهم هوى. كتابٌ شباب، أضحت مبيعات رواياتهم تتصدر أرقام السوق، فتسجل عشرات الملايين من النسخ، وتجتاح الترجمات عشرات اللغات العالمية، ودون سعي منهم ترصد ذلك متابعات صحافية وإعلامية جادة، وتدبج عنهم مقالات على صفحات أكبر الجرائد والمجلات العالمية، وتوجه لهم دعوات إلى معارض الكتب الدولية. كتاب لم يلجئوا في بداية طريقهم ومغامرتهم الإبداعية إلى دور النشر، كما فعلت الأجيال السابقة من الأدباء، بل إن دور النشر الكبيرة الشهيرة لجأت بنفسها إليهم، طالبة منهم نشر أعمالهم في طباعة ورقية، بعد أن تحقق نجاحهم من خلال منصات النشر العالمية وانجذب إليهم ملايين القراء. فرص سانحة في سياق طبيعي يتماهى مع أدوات العصر مثل: Wattpad - After Dark - nouvelle app - Creative Commons وغيرها.

ولأن التفاؤل الفكري يرى فرصة في كل عقبة، وليس في كل فرصة عقبة كما جاء على لسان وينستون تشرشل، ولأن الوعي بالحداثة يأتي متأخراً زمنياً، فإن ما يحدثه الكتّاب الروائيون الشباب Bests eller البستسيللر في العالم، من هزات مؤْذنة بالتغيير، ومن توهج استثنائي في عالم الكتابة، ومن حضور مُربك في معارض الكتاب، تجعلنا نطرح السؤال الوجودي التالي: هل ستتغير شروط الكتابة وتتبدل مقاييسها التقليدية، وهل ستنتفي معارض الكتاب أم تتغير. وكيف ستكون عليه إذن في الأزمنة المقبلة؟