غاليمار: شغل سارتر المكانة نفسها التي شغلها فولتير في القرن الـ18 أو هيغو في الـ19

ناشره وصديقه يكتب عنه بعد 40 عاماً على رحيله

الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر
الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر
TT

غاليمار: شغل سارتر المكانة نفسها التي شغلها فولتير في القرن الـ18 أو هيغو في الـ19

الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر
الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر

بالنسبة لغاليمار فإن سارتر صعب عليه أن يصعد نجم فيلسوف شاب هو فوكو لكي يحل محله على قمة الفكر الفرنسي. بمعنى آخر فإن سارتر خاف على نفسه وشهرته من ذكاء فوكو وعبقريته. وهذا يعني أنه غار منه بكل بساطة
كان جان بول سارتر أشهر مثقف فرنسي وربما عالمي في القرن العشرين. وقد ولد عام 1905 ومات عام 1980 أي قبل أربعين عاما بالضبط. وقد شهدنا جنازته الجماهيرية الضخمة التي جابت شوارع باريس قبل أن ينتهي به المطاف في مقبرة المونبارناس الشهيرة. وقد مشت فيها شخصيات من كبار مثقفي فرنسا الذين عرفوا جان بول سارتر في حياته. نذكر من بينهم جان دانييل رئيس تحرير مجلة النوفيل اوبسرفاتور الشهيرة، وكلود روا، وروبير غاليمار صاحب دار نشر غاليمار التي لا تقل شهرة والتي نشرت معظم كتب سارتر، وكلود مورياك ابن الروائي الكبير فرنسوا مورياك وسكرتير الجنرال ديغول، هذا بالإضافة إلى كلود لانزمان سكرتير تحرير مجلة الأزمنة الحديثة التي أسسها سارتر، وعشرات الآخرين.
من الشهادات الحية عن سارتر شهادة روبير غاليمار الذي كان يقرأ كتاباته قبل أن تنشر، أو قل كان يعطيها لقراء مختصين في بعض الأحيان. بالطبع فإن كل نص يأتي من جهة سارتر كان يحظى بالموافقة فوراً لأن سارتر لا يناقش ولا يرد. ولكن قد تحصل بعض الأخطاء المطبعية وبالتالي فالمراجعة واردة. ثم يردف روبير غاليمار قائلاً:
بالطبع فإن سارتر كان يربح أموالاً ضخمة على كتبه لسبب في سيط هو أنها كانت تباع بملايين النسخ! وكانت تترجم إلى مختلف لغات العالم. وكانوا يدفعون له على الترجمة أيضا. ولكن سارتر كان يصرف هذه الأموال بسرعة ليس على نفسه وإنما على الآخرين. فحاجياته المادية كانت بسيطة ولكن كرمه الحاتمي كان أسطورياً. من هنا عظمة سارتر. فقد كان كريما بالفعل لا بالقول فقط.
نعم لقد كان كريماً إلى درجة الإسراف. كان يعطي المال لجميع المحتاجين الذين يجدهم في طريقه. وكثيراً ما كان يساعد الكتاب المبتدئين أو الأصدقاء المقربين أو الذين سمع بأنهم يعانون من الحاجة والفقر. ولكنه كان أحياناً يجد نفسه ملاحقاً من قبل مصلحة الضرائب أو من قبل البنوك لأن حسابه أصبح فارغاً بل وتحت الصفر بدرجة كبيرة! وعندئذ كان يستنجد فوراً بدار نشر غاليمار ويطلب منها أن تحل له مشكلاته المادية واعدا إياهم بكتب جديدة.
وهذا ما كان يفعله صاحب الدار لأن طلبات سارتر لا ترد. ثم يردف روبير غاليمار قائلاً: وقد أسف فيما بعد لأنه رفض جائزة نوبل ليس من أجل التشريفات والشهرة وإنما من أجل القيمة المالية للجائزة. فقد كانت ضخمة وتتيح له أن يصرف فلوسه على الآخرين بغزارة. ولكنه لم يستطع التراجع عن قراره بعد أن رفضها.
نقول ذلك رغم أنه أخبر الأكاديمية السويدية عن طريق غاليمار بأنه لم يرفض جائزتهم احتقاراً لهم أو لبلدهم السويد وإنما لأنه يكره الجوائز بكل بساطة. ورجاهم ألا يعاقبوا الكتاب الفرنسيين الآخرين لأنه رفض جائزتهم. فهذا موقف شخصي يخصه وحده ليس إلا.
علاقة سارتر بميشيل فوكو
ثم يتحدث الأكاديمي دانييل دوفير عن علاقة سارتر بميشيل فوكو ويقول: عندما صدر كتاب ميشيل فوكو الشهير «الكلمات والأشياء» انزعج سارتر على ما يبدو وأمر بعرض نقدي للكتاب في مجلته المعروفة: الأزمنة الحديثة. وبالفعل فقد روجع الكتاب من قبل كاتبين مقربين من سارتر وانتقداه انتقاداً جارحاً.
وقد أثر ذلك على فوكو فأعطى مقابلات يرد فيها على انتقادات سارتر ومجلته. ثم اشتعلت المعركة أكثر بين الطرفين عندما أدلى سارتر نفسه بمقابلة مطولة لإحدى المجلات الشهرية الفرنسية. وفيها يقول ما معناه: إن كتاب فوكو نجح نجاحاً كبيراً في المكتبات لأنه كان متوقعاً أو منتظراً.
ولكن الفكر المبتكر، الفكر الجديد حقيقة لا يكون عادة منتظراً من قبل أحد. وبالتالي فكتاب فوكو تجميع من هنا وهناك، إنه تلخيص لكل كتابات المرحلة: من الرواية الجديدة لآلان روب غرييه، إلى علم الأنثروبولوجيا على طريقة كلود ليفي شتراوس، إلى علم التحليل النفسي على طريقة لا كان، الخ...
وبالتالي فلماذا كل هذه الضجة التي تثار حول كتاب فوكو؟ لماذا كل هذه الشهرة؟ لأنه يدافع عن البورجوازية ويهاجم الماركسية. ثم يقول سارتر مردفا بالحرف الواحد: إن فوكو سيشكل آخر حاجز للبورجوازية ضد انتصار الماركسية في فرنسا والغرب عموماً. ولهذا السبب رحبت به الأوساط الثقافية الفرنسية كل هذا الترحيب وطبلت وزمرت له.
ثم يردف دانييل دوفير قائلا: هذه المقابلة الشهيرة أزعجت فوكو جدا فتصدى لسارتر بكل قوة وقال عنه بأنه كاتب مضى وانقضى، أكل عليه الدهر وشرب. إنه مفكر ينتمي إلى القرن التاسع عشر لا إلى القرن العشرين. وهو شخص لا يفهم شيئا في العلوم الإنسانية الحديثة وبالتالي فينبغي أن نطوي صفحته لأنه أصبح قديما بالياً عفى عليه الزمن.
ولكن ما هي حقيقة القصة؟ ولماذا اندلع كل هذا الصراع بين صاحب «نقد العقل الجدلي» أو «الوجود والعدم» من جهة، وصاحب «الكلمات والأشياء» أو «تاريخ الجنون» من جهة أخرى؟
عن هذا السؤال يجيب الكاتب قائلا: ينبغي العلم بأن فوكو كان يصغر سارتر بعشرين عاما على الأقل وأن سارتر كان يحتل الساحة الفلسفية كليا في ذلك الوقت، ولهذا السبب فقد صعب عليه أن يصعد نجم فيلسوف شاب لكي يحل محله على قمة الفكر الفرنسي. بمعنى آخر فإن سارتر خاف على نفسه وشهرته من ذكاء ميشيل فوكو وعبقريته. وهذا يعني أنه غار منه بكل بساطة.
وهذا الشيء مفهوم ومقبول إنسانيا. ولكن ينبغي العلم بأن العلاقات بين الرجلين تحسنت بشكل ملحوظ بعدئذ بل وأصبحا يلتقيان معاً ويناضلان من أجل القضايا العادلة. نذكر من بينها النضال من أجل العمال المغتربين المهضومي الحقوق في فرنسا، أو النضال من أجل الشباب اليساريين الملاحقين من قبل البوليس، أو النضال من أجل المساجين، إلخ... ولهذا السبب فإن نظرة سارتر لفوكو تغيرت، وكذلك نظرة فوكو لسارتر.
بل ووصل الأمر بفوكو إلى حد القول: لا أقبل إطلاقا بأن يتدخل الناس بيني وبين سارتر لكي يزيدوا من اتساع الشقة والخلاف أو لكي يصطادوا في الماء العكر... فأنا لست إلا تلميذاً صغيراً عند جان بول سارتر! وهذا التواضع الذي أبداه فوكو أثلج قلب سارتر حتماً لأنهم عندما سألوه عنه لاحقا قال: ليست لي مشكلة معه. نحن نشتغل معاً، ونناضل من أجل نفس القضايا.
والواقع أن سارتر وفوكو وديلوز وبعض المفكرين الآخرين جنبوا فرنسا خطر التفجيرات الإرهابية اليسارية عندما انخرطوا لصالح قوى اليسار بالضبط. فقد امتصوا النقمة على فرنسا عندما أدانوا البورجوازية والرأسمالية والاستغلال والاستلاب وأرضوا بذلك الشرائح الأكثر تطرفاً في التنظيمات اليسارية.
ثم يتحدث جان دانييل رئيس تحرير مجلة «النوفيل اوبسر فاتور» عن زيارته الأولى لسارتر في بيته عام 1964 ويقول: كان سارتر يسكن شقة متواضعة وسط العاصمة الفرنسية. وقد ذهبت لزيارته من أجل استشارته في موضوع تأسيس مجلة جديدة هي: النوفيل اوبسرفاتور. وهي مجلة مدعوة لمستقبل طويل عريض لاحقا. ومعلوم أن سارتر كان قد أصبح أسطورة فرنسية وعالمية وبالتالي فإذا ما قبل بأن يصبح عرابا لمجلتنا الجديدة فسوف تنجح حتماً وسوف تنال الشهرة بسرعة. وهذا ما حصل في الواقع.
ثم يردف جان دانييل قائلاً: والواقع أن كل من يريد أن يثبت مكانته في المجال الثقافي الفرنسي كان مضطراً آنذاك للمرور بسارتر أو القيام بزيارته. لم يكن يضاهيه من حيث المكانة أحد في زمانه. كان يشغل المكانة نفسها التي شغلها فولتير في القرن الثامن عشر أو فيكتور هيغو في القرن التاسع عشر. وكان سارتر يعرف أني من أصدقاء ألبير كامو المقربين.
ومع ذلك فقد استقبلني بترحاب وساعدني وشد من أزري. ومعلوم أن سارتر كان صديقاً كبيراً لكامو قبل أن يختلف معه وينفصل عنه.
وقد أحدث ذلك ضجة كبيرة في وسائل الإعلام آنذاك. وكان البير كامو هو الوحيد الذي يستطيع منافسة سارتر على المجد الأدبي والخلود. ولكن موته المبكر عام 1960 وهو في السابعة والأربعين فقط جعل من سارتر النجم الأوحد لفرنسا الثقافية.
أخيرا سوف أقول ما يلي: عندما وصلت إلى باريس خريف عام 1976 لم أكد أصدق أني في مدينة الأنوار. ولم أكد أصدق أني أسكن في ذات المدينة التي يسكن فيها جان بول سارتر. مات بعد وصولي بأربع سنوات فقط. كنت آنذاك مبهورا بالقامات الأدبية العالية، كنت مسحورا بالأدباء والشعراء والمفكرين ولا أزال. ولكن ينبغي الاعتراف أني لم أعد أعطي الأولوية للمفكرين الملاحدة بشكل مطلق كسارتر وفوكو الخ. الآن أصبحت ميالا إلى فلأسفة مؤمنين من أمثال بيرغسون وبول ريكور وهانز كونغ وآخرين... أو قل أصبحت أحترم كلتا الرؤيتين للعالم: الرؤيا الإيمانية والرؤيا الإلحادية مع تفضيل الأولى على الثانية بشكل واضح وقاطع ونهائي. باختصار شديد أنا مع التنوير الروحاني المؤمن على طريقة جان جاك روسو وفولتير وكانط وتولستوي وديستوفيسكي لا مع التنوير المادي الملحد على طريقة ديدرو وفويرباخ وماركس وفرويد إلخ...



«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار
TT

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار

دورة ناجحة لمؤتمر قصيدة النثر المصرية تنوعت فيها الرؤى والدراسات النقدية، والقراءات الشعرية لكوكبة من الشاعرات والشعراء من شتى الأقاليم المصرية، كما احتفت بتجربة شاعرين من الرموز المؤثرة والمؤسسة لهذه الكتابة الشعرية الجديدة.

على مدار ثلاثة أيام استضافت مؤسسة «الدستور» الصحافية وقائع الدورة الثامنة من «مؤتمر قصيدة النثر المصرية»، التي شهدت مشاركة واسعة لأسماء عديدة من مختلف المشارب والأجيال الشعرية والأدبية؛ وسط تنوع لافت في الفعاليات ما بين الجلسات النقدية والمداخلات النقاشية، والاحتفاء برموز مؤثرة في سياق مغامرة قصيدة النثر وترسيخ وجودها ودورها الإبداعي الذي يتعمق يوماً بعد يوم، فضلاً عن قراءات شعرية متنوعة لكوكبة كبيرة من الشعراء والشاعرات في تظاهرة فنية لافتة حررت المشهد الشعري المصري من الرتابة والتكرار وأكسبته حيوية مفتقدة، كما أتاحت الفرصة أمام أصوات مختلفة للتعبير عن نفسها.

ألقى الناقد والأكاديمي د. محمود الضبع كلمة لافتة في الجلسة البحثية الأولى بعنوان «ما بعد العولمة وتبعاتها في الشعر المعاصر»، مشيراً إلى أن ما بعد العولمة ليست مجرد تطور اقتصادي أو حتى فكري، بل هى في الأساس سلطة سياسية جديدة تتخذ تجليات عدة، مما يجعل الأدب عموماً، والشعر في القلب منه، منوطاً به معرفة دوره الخطير إزاءها باعتباره الوعاء الرئيسي للتعبير عن العادات والتقاليد والثقافة العامة في عصر ما. وأشار إلى أن الشعر ليس نغماً أو جمالاً معزولاً أو حالة جمالية منبتة الصلة عن الواقع، فقد أثبتت الثورات التي شهدتها المنطقة العربية في حقبة ما بعد الألفية الثالثة أن الشعر استعاد أدواره القديمة فعلاً تحريضياً وأداة حماسية.

وتحت عنوان «قليل من المحبة»، خصص المؤتمر جلستين للاحتفاء باثنين من رموز قصيدة النثر هما الشاعران محمد فريد أبو سعدة وجمال القصاص. تحدث القصاص عن أبو سعدة، رفيق الدرب، متمنياً له الشفاء، مؤكداً أن أبو سعدة ينظر إلى الشعر في كليته، وبراءته الحميمة، ليتباهى كصوفي عاشق يدرك أن الوجود هو حلقة متصلة للروح، تسبق الصورة والفكرة، والنغمة والموسيقى والإيقاع، وأن هزة السطر والحرف والكلمة ليست شرخاً ناتئاً في المرآة، وإنما ضرورة للإمساك بأزمنة وملامح، وحدس إنساني هارب في ظلالها وبياض عتمتها ونصوعها الشائك المراوغ.

ولفت إلى أن أبو سعدة في دواوينه المتنوعة مثل «معلقة بشص»، «جليس لمحتضر»، «سماء على الطاولة»، «أنا صرت غيري»، يصل إلى سؤاله الشعري، ويخلص له عبر تدفقات الذهن والحس معاً، وبراح فضاء قصيدة النثر، كأنه يوقظ أعماقاً مغايرةً في داخلنا، فعلى السطح وفي العمق تبني الصورة عالمها بشفافية لافتة، بينما يتخلى الماضي عن فكرة الترجيع، أو أنه صدى لأشياء بائدة، هو صدى للنص نفسه، وما يرشح عنه، ما يعلق في وعينا ولا وعينا معاً، من انكشاف النص نفسه لذاته أولاً، قبل أي شيء آخر.

يلاحظ القصاص في شعرية أبو سعدة كيف يتسع المشهد على نحو خاص ليشمل حضور الأنثى وعناصر الطبيعة ونثريات الواقع والأشياء العابرة المهمّشة المنسية، وتصبح الحسية أداة للمعرفة والسؤال، وفي الوقت نفسه، يخلع النص قناع الآخر، ويتوحد بقناع الشاعر الذي يعرف كيف ومتى يخلعه ويلقيه خلفه، وكيف يلجأ إليه، كنوع من التمويه والتخفي والانعتاق من فوضى العالم، كما في ديوانه «سماء على الطاولة»: «ذهبوا/ وظل وحده/ على صدره جبل/ وتحت جلده مناقير تنهش في القلب/ قضى عمراً ليصل إلى الباب/ عيناه جوهرتان/ ويداه تمسكان بالفراغ».

وقدم الشاعر والناقد عمر شهريار ورقة بحثية بعنوان «قصيدة النثر والاغتراب: جدل القطيعة والتواصل»، رفض فيها عدداً من «الاتهامات الجاهزة» الموجهة لقصيدة النثر، من أشهرها أنها في قطيعة دائمة وأبدية مع التراث، كما أنها تمثل خطراً على الهوية العربية وتجسد حالة من الانسلاخ من الماضي. وعدَّ شهريار أن قصيدة النثر مثلها مثل الأشكال الشعرية الأخرى كقصيدة التفعيلة وقصيدة العمود، هي في حالة جدل دائم مع التراث، فتارة تتمرد عليه وتارة أخرى تستلهمه وتارة ثالثة تنطلق منه أو ترفضه و... هكذا. وشدد شهريار على أن شاعر قصيدة النثر مثله مثل بقية نظرائه على خريطة الإبداع الأدبي لا يستطيع الهروب من اللغة كأداة أساسية بما تمثله من حامل أو وعاء للعادات والتقاليد والثقافة بمفهومها الواسع، بالتالي تجد قصيدة النثر نفسها في حوار جدلي مع التراث، على الأقل من خلال الاشتغال الذي لا بد منه على اللغة.

وفي الجلسة النقدية باليوم الثالث للمؤتمر، التي أدارتها بحيوية الكاتبة الروائية والإعلامية دكتورة صفاء النجار قدمت الباحثة هبة رجب شرف الدين بحثاً بعنوان «سرديات الماهية في قصيدة النثر المعاصرة بين المرجعية والتخييل الذهني»، ارتكزت فيه على نماذج لكوكبة الشعراء والشاعرات، وتوقفت بالتحليل أمام قصيدة للشاعر إبراهيم المصري بعنوان «ما هو الشعر»؛ حيث يعرّف الشاعر ماهية الشيء/الشعر بقوله: الشعرُ/ حضورٌ كونىٌّ للبذخِ/ وجسورٌ معلقةٌ/ نعبرُ عليها من غيمةٍ إلى غيمة». وتنبع أفكار الشاعر في تصوير حقيقة الشعر من البيئة، لافتة إلى أن الأفكار الشعرية لديه تماثل الغيمة؛ وهذا النعت لها من الطبيعي أن يبرز موقع الشاعر موقعاً علوياً حتى يحدث الإشراق الذهني منفرطاً، وهذا المعنى هو ما استهل به الشاعر الوحدة الشعرية.

وتنتقل الباحثة إلى تجربة شعرية أخرى للشاعر أحمد إمام، حيث يتأثر في قصيدة النثر بالتقنيات القصصية من الحوار والوصف ومنظور الرؤية؛ وهو يقدم مفهوماً أو تعريفاً لماهية صورة الشاعر في «قصائد بحجم راحة اليد»؛ إذ يقول في قصيدة بعنوان «الشاعر»: نظَّفَ حَنجرتَه من بقايا غناءٍ قديم/ وذاكرتَه من غبارِ القوافلِ/ ومشى وحيداً إلى الليلِ/ وحيداً كذئب/ لا كطريدة/ حدَّقَ في المرآة طويلاً/ كأنه يشربُ صورتَه على ظمأ»، مشيرة إلى أنه يصف الذات الشاعرة بمجموعة من السمات القابعة في تصوره؛ فتتضح هذه السمات عبر الإخبار بشكل قصصي عن الحالة التي تسبق الكتابة، وهي حالة جوهرية تخص الشعراء؛ من هذه السمات أن الشاعر لديه فنان في المقام الأول، مسافر رحَّال في المقام الثاني ترحالاً معنوياً أكثر منه مادياً؛ لذا فهو منفرد دائماً بذاته التي دائماً ما تتشكل في صور كثيرة بعدد صوره الشعرية.

ويتخذ الباحث إبراهيم أحمد أردش من ديوان «ما أنا فيه» للشاعر أحمد الشهاوي نموذجاً لدراسة بعنوان «البحث عن راحة الذات المتعبة من الأفكار في قصيدة النثر»، حيث يرصد حيرة الشاعر مع الأفكار وتداعياتها عليه، عن اقترابها وابتعادها؛ ليصبح ما فيه الشاعر هو البحث عن الأفكار أحياناً والهروب منها أحياناً أخرى، حتى يزهد الشاعر في الاستيقاظ، باعتباره معادلاً للتفكير: «مُستغنٍ عن الصَّحوِ/ أخبَّئُ جرَسَ البابِ/ في الجَيْبِ/ أخفي جرَسَ الهاتف/ في سُترةِ الصَّمتِ/ أقايضُ إغفاءةً/ بقيراطين من ماس».

وفي جلسة احتفاء بتجربة الشاعر جمال القصاص تحدث الشاعر أسامة حداد عن علاقته بالقصاص والمرتكزات الجمالية والفلسفية التي تشكل رؤيته للشعر والحياة، وتنعكس على تشكيله الجمالي للقصيدة ومغامرته في البحث عن الجديد دائماً. وتناول الشاعر والباحث د. خالد حسان جماليات قصيدة الشاعر جمال القصاص، لا سيما في دواوين «السحابة التي في المرأة» و«ما من غيمة تشعل البئر» و«جدار أزرق»، مشيراً إلى أن القصيدة تبدو لديه مفعمة بعذابات شخص شديد الحزن، بالغ الرقة والرهافة، شخص بسيط ليست لدية أي قناعات أو آيديولوجيات، أو أفكار جاهزة، شخص شديد الالتصاق بذاته، بهواجسه، بأحلامه الصغيرة، وطموحاته التافهة والمريضة، ها هو يقول: «ليس لدي اعترافات/ ولا سلطة مطلقة/ لكنني حين أجهش في الليل/ أحس أن هذا الخراب مجرد شيء سقط مني».

ويعدُّ حسان أن أهم ما يميز إنتاج جمال القصاص قدرته على تفجير الشعر طوال الوقت في كل جملة وكل تركيب وكل كلمة، بحيث تتابع الانفجارات الشعرية على طول القصيدة، ومن ثم الديوان، فقصيدته لا تعتمد المباشرة أو المفارقة أو غيرها من جماليات قصيدة النثر في نسختها الأخيرة، وهي أيضا لا تقوم على إثارة القضايا الكبرى من خلال السعي وراء عوالم ميتافيزيقية، كما اقترحت النسخة الأولى من القصيدة على أيدي روادها، فالتركيبة السحرية التي جاء بها القصاص يمكن أن نصفها بالقدرة على الالتصاق بالذات الشعرية الصغيرة والهشة في محاولة لسبر أغوارها، وإظهار عذاباتها، لكن من خلال آليات جديدة، أو فلنقل آليات خاصة تحمل بصمة الشاعر التي يصعب تكرارها في قصائد غيره.

وتعليقاً على حصاد تلك الدورة من المؤتمر، يشير رئيس المؤتمر ومنسقه الشاعر عادل جلال إلى أن الأهداف لم تختلف عن الدورات السابقة، حيث لا يزال كسر مركزية وهيمنة مجموعة محددة على المشهد الشعري عموماً، وقصيدة الشعر الحر في مصر، هدفاً رئيسياً لم يتغير. ويضيف جلال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن من أهداف المؤتمر كذلك إتاحة الفرصة لأصوات جديدة من الشعراء للتعبير عن نفسها دون وصاية، وتسليط ضوء قوي على مواهب جديدة. ويشير عادل جلال إلى أن الخروج من القاهرة والانفتاح على بقية المدن والأقاليم لا يزال هدفاً مشروعاً، لكنه يحتاج إلى دعم كبير وتمويل سخي، وهو ما لا يتوفر حتى الآن.