غاليمار: شغل سارتر المكانة نفسها التي شغلها فولتير في القرن الـ18 أو هيغو في الـ19

ناشره وصديقه يكتب عنه بعد 40 عاماً على رحيله

الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر
الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر
TT

غاليمار: شغل سارتر المكانة نفسها التي شغلها فولتير في القرن الـ18 أو هيغو في الـ19

الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر
الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر

بالنسبة لغاليمار فإن سارتر صعب عليه أن يصعد نجم فيلسوف شاب هو فوكو لكي يحل محله على قمة الفكر الفرنسي. بمعنى آخر فإن سارتر خاف على نفسه وشهرته من ذكاء فوكو وعبقريته. وهذا يعني أنه غار منه بكل بساطة
كان جان بول سارتر أشهر مثقف فرنسي وربما عالمي في القرن العشرين. وقد ولد عام 1905 ومات عام 1980 أي قبل أربعين عاما بالضبط. وقد شهدنا جنازته الجماهيرية الضخمة التي جابت شوارع باريس قبل أن ينتهي به المطاف في مقبرة المونبارناس الشهيرة. وقد مشت فيها شخصيات من كبار مثقفي فرنسا الذين عرفوا جان بول سارتر في حياته. نذكر من بينهم جان دانييل رئيس تحرير مجلة النوفيل اوبسرفاتور الشهيرة، وكلود روا، وروبير غاليمار صاحب دار نشر غاليمار التي لا تقل شهرة والتي نشرت معظم كتب سارتر، وكلود مورياك ابن الروائي الكبير فرنسوا مورياك وسكرتير الجنرال ديغول، هذا بالإضافة إلى كلود لانزمان سكرتير تحرير مجلة الأزمنة الحديثة التي أسسها سارتر، وعشرات الآخرين.
من الشهادات الحية عن سارتر شهادة روبير غاليمار الذي كان يقرأ كتاباته قبل أن تنشر، أو قل كان يعطيها لقراء مختصين في بعض الأحيان. بالطبع فإن كل نص يأتي من جهة سارتر كان يحظى بالموافقة فوراً لأن سارتر لا يناقش ولا يرد. ولكن قد تحصل بعض الأخطاء المطبعية وبالتالي فالمراجعة واردة. ثم يردف روبير غاليمار قائلاً:
بالطبع فإن سارتر كان يربح أموالاً ضخمة على كتبه لسبب في سيط هو أنها كانت تباع بملايين النسخ! وكانت تترجم إلى مختلف لغات العالم. وكانوا يدفعون له على الترجمة أيضا. ولكن سارتر كان يصرف هذه الأموال بسرعة ليس على نفسه وإنما على الآخرين. فحاجياته المادية كانت بسيطة ولكن كرمه الحاتمي كان أسطورياً. من هنا عظمة سارتر. فقد كان كريما بالفعل لا بالقول فقط.
نعم لقد كان كريماً إلى درجة الإسراف. كان يعطي المال لجميع المحتاجين الذين يجدهم في طريقه. وكثيراً ما كان يساعد الكتاب المبتدئين أو الأصدقاء المقربين أو الذين سمع بأنهم يعانون من الحاجة والفقر. ولكنه كان أحياناً يجد نفسه ملاحقاً من قبل مصلحة الضرائب أو من قبل البنوك لأن حسابه أصبح فارغاً بل وتحت الصفر بدرجة كبيرة! وعندئذ كان يستنجد فوراً بدار نشر غاليمار ويطلب منها أن تحل له مشكلاته المادية واعدا إياهم بكتب جديدة.
وهذا ما كان يفعله صاحب الدار لأن طلبات سارتر لا ترد. ثم يردف روبير غاليمار قائلاً: وقد أسف فيما بعد لأنه رفض جائزة نوبل ليس من أجل التشريفات والشهرة وإنما من أجل القيمة المالية للجائزة. فقد كانت ضخمة وتتيح له أن يصرف فلوسه على الآخرين بغزارة. ولكنه لم يستطع التراجع عن قراره بعد أن رفضها.
نقول ذلك رغم أنه أخبر الأكاديمية السويدية عن طريق غاليمار بأنه لم يرفض جائزتهم احتقاراً لهم أو لبلدهم السويد وإنما لأنه يكره الجوائز بكل بساطة. ورجاهم ألا يعاقبوا الكتاب الفرنسيين الآخرين لأنه رفض جائزتهم. فهذا موقف شخصي يخصه وحده ليس إلا.
علاقة سارتر بميشيل فوكو
ثم يتحدث الأكاديمي دانييل دوفير عن علاقة سارتر بميشيل فوكو ويقول: عندما صدر كتاب ميشيل فوكو الشهير «الكلمات والأشياء» انزعج سارتر على ما يبدو وأمر بعرض نقدي للكتاب في مجلته المعروفة: الأزمنة الحديثة. وبالفعل فقد روجع الكتاب من قبل كاتبين مقربين من سارتر وانتقداه انتقاداً جارحاً.
وقد أثر ذلك على فوكو فأعطى مقابلات يرد فيها على انتقادات سارتر ومجلته. ثم اشتعلت المعركة أكثر بين الطرفين عندما أدلى سارتر نفسه بمقابلة مطولة لإحدى المجلات الشهرية الفرنسية. وفيها يقول ما معناه: إن كتاب فوكو نجح نجاحاً كبيراً في المكتبات لأنه كان متوقعاً أو منتظراً.
ولكن الفكر المبتكر، الفكر الجديد حقيقة لا يكون عادة منتظراً من قبل أحد. وبالتالي فكتاب فوكو تجميع من هنا وهناك، إنه تلخيص لكل كتابات المرحلة: من الرواية الجديدة لآلان روب غرييه، إلى علم الأنثروبولوجيا على طريقة كلود ليفي شتراوس، إلى علم التحليل النفسي على طريقة لا كان، الخ...
وبالتالي فلماذا كل هذه الضجة التي تثار حول كتاب فوكو؟ لماذا كل هذه الشهرة؟ لأنه يدافع عن البورجوازية ويهاجم الماركسية. ثم يقول سارتر مردفا بالحرف الواحد: إن فوكو سيشكل آخر حاجز للبورجوازية ضد انتصار الماركسية في فرنسا والغرب عموماً. ولهذا السبب رحبت به الأوساط الثقافية الفرنسية كل هذا الترحيب وطبلت وزمرت له.
ثم يردف دانييل دوفير قائلا: هذه المقابلة الشهيرة أزعجت فوكو جدا فتصدى لسارتر بكل قوة وقال عنه بأنه كاتب مضى وانقضى، أكل عليه الدهر وشرب. إنه مفكر ينتمي إلى القرن التاسع عشر لا إلى القرن العشرين. وهو شخص لا يفهم شيئا في العلوم الإنسانية الحديثة وبالتالي فينبغي أن نطوي صفحته لأنه أصبح قديما بالياً عفى عليه الزمن.
ولكن ما هي حقيقة القصة؟ ولماذا اندلع كل هذا الصراع بين صاحب «نقد العقل الجدلي» أو «الوجود والعدم» من جهة، وصاحب «الكلمات والأشياء» أو «تاريخ الجنون» من جهة أخرى؟
عن هذا السؤال يجيب الكاتب قائلا: ينبغي العلم بأن فوكو كان يصغر سارتر بعشرين عاما على الأقل وأن سارتر كان يحتل الساحة الفلسفية كليا في ذلك الوقت، ولهذا السبب فقد صعب عليه أن يصعد نجم فيلسوف شاب لكي يحل محله على قمة الفكر الفرنسي. بمعنى آخر فإن سارتر خاف على نفسه وشهرته من ذكاء ميشيل فوكو وعبقريته. وهذا يعني أنه غار منه بكل بساطة.
وهذا الشيء مفهوم ومقبول إنسانيا. ولكن ينبغي العلم بأن العلاقات بين الرجلين تحسنت بشكل ملحوظ بعدئذ بل وأصبحا يلتقيان معاً ويناضلان من أجل القضايا العادلة. نذكر من بينها النضال من أجل العمال المغتربين المهضومي الحقوق في فرنسا، أو النضال من أجل الشباب اليساريين الملاحقين من قبل البوليس، أو النضال من أجل المساجين، إلخ... ولهذا السبب فإن نظرة سارتر لفوكو تغيرت، وكذلك نظرة فوكو لسارتر.
بل ووصل الأمر بفوكو إلى حد القول: لا أقبل إطلاقا بأن يتدخل الناس بيني وبين سارتر لكي يزيدوا من اتساع الشقة والخلاف أو لكي يصطادوا في الماء العكر... فأنا لست إلا تلميذاً صغيراً عند جان بول سارتر! وهذا التواضع الذي أبداه فوكو أثلج قلب سارتر حتماً لأنهم عندما سألوه عنه لاحقا قال: ليست لي مشكلة معه. نحن نشتغل معاً، ونناضل من أجل نفس القضايا.
والواقع أن سارتر وفوكو وديلوز وبعض المفكرين الآخرين جنبوا فرنسا خطر التفجيرات الإرهابية اليسارية عندما انخرطوا لصالح قوى اليسار بالضبط. فقد امتصوا النقمة على فرنسا عندما أدانوا البورجوازية والرأسمالية والاستغلال والاستلاب وأرضوا بذلك الشرائح الأكثر تطرفاً في التنظيمات اليسارية.
ثم يتحدث جان دانييل رئيس تحرير مجلة «النوفيل اوبسر فاتور» عن زيارته الأولى لسارتر في بيته عام 1964 ويقول: كان سارتر يسكن شقة متواضعة وسط العاصمة الفرنسية. وقد ذهبت لزيارته من أجل استشارته في موضوع تأسيس مجلة جديدة هي: النوفيل اوبسرفاتور. وهي مجلة مدعوة لمستقبل طويل عريض لاحقا. ومعلوم أن سارتر كان قد أصبح أسطورة فرنسية وعالمية وبالتالي فإذا ما قبل بأن يصبح عرابا لمجلتنا الجديدة فسوف تنجح حتماً وسوف تنال الشهرة بسرعة. وهذا ما حصل في الواقع.
ثم يردف جان دانييل قائلاً: والواقع أن كل من يريد أن يثبت مكانته في المجال الثقافي الفرنسي كان مضطراً آنذاك للمرور بسارتر أو القيام بزيارته. لم يكن يضاهيه من حيث المكانة أحد في زمانه. كان يشغل المكانة نفسها التي شغلها فولتير في القرن الثامن عشر أو فيكتور هيغو في القرن التاسع عشر. وكان سارتر يعرف أني من أصدقاء ألبير كامو المقربين.
ومع ذلك فقد استقبلني بترحاب وساعدني وشد من أزري. ومعلوم أن سارتر كان صديقاً كبيراً لكامو قبل أن يختلف معه وينفصل عنه.
وقد أحدث ذلك ضجة كبيرة في وسائل الإعلام آنذاك. وكان البير كامو هو الوحيد الذي يستطيع منافسة سارتر على المجد الأدبي والخلود. ولكن موته المبكر عام 1960 وهو في السابعة والأربعين فقط جعل من سارتر النجم الأوحد لفرنسا الثقافية.
أخيرا سوف أقول ما يلي: عندما وصلت إلى باريس خريف عام 1976 لم أكد أصدق أني في مدينة الأنوار. ولم أكد أصدق أني أسكن في ذات المدينة التي يسكن فيها جان بول سارتر. مات بعد وصولي بأربع سنوات فقط. كنت آنذاك مبهورا بالقامات الأدبية العالية، كنت مسحورا بالأدباء والشعراء والمفكرين ولا أزال. ولكن ينبغي الاعتراف أني لم أعد أعطي الأولوية للمفكرين الملاحدة بشكل مطلق كسارتر وفوكو الخ. الآن أصبحت ميالا إلى فلأسفة مؤمنين من أمثال بيرغسون وبول ريكور وهانز كونغ وآخرين... أو قل أصبحت أحترم كلتا الرؤيتين للعالم: الرؤيا الإيمانية والرؤيا الإلحادية مع تفضيل الأولى على الثانية بشكل واضح وقاطع ونهائي. باختصار شديد أنا مع التنوير الروحاني المؤمن على طريقة جان جاك روسو وفولتير وكانط وتولستوي وديستوفيسكي لا مع التنوير المادي الملحد على طريقة ديدرو وفويرباخ وماركس وفرويد إلخ...



دراسة عن «قصيدة النثر» العابرة

دراسة عن «قصيدة النثر» العابرة
TT

دراسة عن «قصيدة النثر» العابرة

دراسة عن «قصيدة النثر» العابرة

صدر حديثاً عن «دار غيداء للنشر والتوزيع» في عمان بالأردن كتاب «قصيدة النثر العابرة دراسة في مطولات منصف الوهايبي وقصائد أخر» للدكتورة نادية هناوي. وهو الثاني والثلاثون في عديد الكتب المنشورة لها. واشتمل الكتاب الجديد على ثلاثة فصول تدور حول المطولات الشعرية عند الشاعر التونسي منصف الوهايبي. يحمل الفصل الأول عنوان «العبور: من التجسير إلى الاجتياز»، وفيه ثلاثة مباحث، تناولت فيها المؤلفة ممكنات قصيدة النثر من ناحية القابلية على العبور، ووصفية فاعلية العبور وصنفية قصيدة النثر ودوامية تعابرها.

واهتم الفصل الثاني بـ«موجبات العبور في مطولات منصف الوهايبي»، وفيه خمسة مباحث تدور حول موجبات العبور الأجناسي. أما الفصل الثالث فيحمل عنوان «ميزات قصيدة النثر العابرة: مقاربة بين مطولتين»، وفيه عرضت المؤلفة نقاط التلاقي والاختلاف في عبور قصيدة النثر، ومثلت على ذلك بمطولتين شعريتين: الأولى هي «الفصل الخامس» للشاعر عبد الرحمن طهمازي، والأخرى هي «نيابوليس (نابل) - لنذبوشة (لمبدوزا)» للشاعر منصف الوهايبي.

وينتهي الكتاب بخاتمة هي حصيلة استنتاجية تؤشر على ما لعبور قصيدة النثر من آفاق فنية ودلائل يضمنها فضاؤها الأجناسي العابر على سائر أجناس الشعر وأنواعه. ويأتي بعد الخاتمة ملحق قدمت فيه المؤلفة منظورها النقدي في ثلاث قصائد لشعراء عراقيين هم عبد الرحمن طهمازي وياسين طه حافظ وموفق محمد.

ومن مطولات الشاعر منصف الوهايبي المدروسة في هذا الكتاب «بدر شاكر السياب: ما زال يهطل في قصيدته المطر» و«شارع بول فاليري. سيت. صيف. 2011» و«قيروان: لوحة الأحد الكبيرة» و«الفينيقيون: رسوم لم يحلم بها بانويل» وغيرها.

عن مفهوم العبور الأجناسي في قالب قصيدة النثر، تذهب المؤلفة إلى أنه «ليس من عادة التراكيب أن تستجد أو تتوالد إلا بترابط يساعد على ابتكارها؛ إما بإعادة صنعها، وأما بتنمية تشكلها باستمرار وبتجديد يتماهى فيه القديم بالضعيف والمتهاوي بالسطحي فتغدو التراكيب المبتكرة أقوى شكلاً وأصلب بنية وأعمق دلالة. وبهذا يكون العبور ناجزاً بالانبثاق من الترابطات التي ساهمت في إعادة تقنين الفضاء الكتابي بين المعبور عليه والعابر». وتضيف أن الترابط تأسيس تقاني وصورته تحويلية، وفيها تنعكس تأثيراته النوعية، مشتملة على مستويات وعلاقات ذات مفاصل ومجسات تدخل بمجموعها في عمليات صناعة القالب العابر.

وعن الشروط التي يستدعيها العبور، تقول إن «الاستجابة لمستلزمات التطور الأدبي في بعديه الشكلي والموضوعي واتساع واطراد هذه الاستجابة، له دور مهم في توثيق صلات الأجناس الأدبية بسلسلة متشابكة من المشتركات التي تجعلها في مجموعات وكل مجموعة تؤلف نوعاً من الأنواع الأدبية، وتتألف كل مجموعة من فصائل ورُتب شبيهة بما في أجناس الكائنات الحية من روابط فتتشعب عبرها فصائلها بشكل عضوي وبحسب ما لها من صلات طوبوغرافية ووظائفية، تمنحها قدرات أكبر على الاستمرار والنماء».