تغوص رواية «صيف أحمر» للكاتب الكوستاريكي دانيال كويروس، في أعماق الجريمة في قرية ساحلية من قرى بلاده، وتتشرب خيوط السرد برائحة سياسية، تعكس طبيعة الأحوال في كوستاريكا. الرواية صدرت حديثاً عن دار الخان بالكويت النسخة العربية منها، وقدمها الكاتب والمترجم المغربي السعيد بوكرامي، وصدرت عام 2010، وفازت بالجائزة الوطنية الأدبية في كوستاريكا، وجائزة «أكويلو إتشيفيريا»، وسبق لصاحبها أن أصدر قبلها بعام مجموعة قصصية بعنوان «إلى الرياح الأربعة»، وجاءت بعدها بأربع سنوات في 2014 روايتان: الأولى بعنوان «المطر الشمالي»، والأخرى «مازونتي».
ويعطي المؤلف دانيال كيروس، منحى استقصائياً للأحداث في روايته «صيف أحمر»، فهي عمل يمكن تصنيفه في سياق روايات الجريمة، وفيها يسعى إلى التركيز على الانكسارات والإحباطات التي يعاني منها البشر في كوستاريكا، وما يمرون به من أزمات، وانكسارات، تجعل القارئ يتفاعل معها، ولا يفلت من إسارها، حيث يظل أسيراً لحكاية بطلها الثوري المحبط «دون تشيبي» التي رواها كيروس بقدرة ومهارة سردية بالغة.
طابع سياسي
وتندرج «صيف أحمر» ضمن الروايات السياسية أيضاً، وقد حاول كيروس من خلال سرد أحداثها تنشيط واستعادة الذاكرة التاريخية لبلاده، وطرح السؤال عن حيادها المفترض في الحرب التي عارضتها، في بداية الثمانينات، وهي الحرب التي دارت بين ثوار الساندينيستا النيكاراغويين الذين وصلوا إلى السلطة بعد الإطاحة بديكتاتورية آخر ممثل لسلالة سوموزا، التي حكمت البلاد تحت نير الديكتاتورية طوال عقود، وبين «الكونتراس» أعداء الثورة الذين كانت تدعمهم بالمال وتشرف على تسليحهم الولايات المتحدة الأميركية، كما تشير الرواية.
وتفضح أحداث الرواية السياسات الاجتماعية والاقتصادية القائمة على السوق الحرة، والتي تم تطبيقها على مدى الأعوام الثلاثين الماضية، وأسهمت في زيادة أعباء المعيشة وتعميق الفقر وتوسيع الفجوة بين طبقات المجتمع وعدم المساواة، فضلاً عن شيوع الجريمة وزيادة معدلات العنف.
وسط هذه الظروف يبدو حلم الحياة الهادئة سراباً يقع في شراكه بطلها «دون تشيبي» وهو مقاتل سابق في ثورة الساندينيين عاد إلى كوستاريكا بعد فشل الثورة، وعمل لعدة سنوات في وظيفة عامة بالدولة ضمن أكبر شركة تأمين هناك، كانت تقع في مدينة سيغوروس، لكنه يصاب بالسأم سريعاً، ويقرر التقاعد، ويبني منزلاً على الأرض التي ورثها عن أبيه بالقرب من ضواحي قرية تاماريندو مسقط رأسه، وهي على مقربة أيضاً من «باراديسو» التي تقع ضمن مقاطعة جواناكاستي، شمال غربي البلاد، في المنطقة الحدودية مع نيكاراغوا، هناك استقر «البطل» يناوشه تاريخ قريته والتي كانت في السابق قرية ينشط فيها الصيادون، وتعيش حياة تقليدية على تربية الماشية والإنتاج الزراعي، لكنها أصبحت مع مرور السنين منتجعاً سياحياً، وتبرز في طابعها مظاهر المدن الساحلية الحديثة.
كان تشيبي يأمل في أن ينعم بحياة هانئة في القرية، فقد استطاع مع مرور الوقت أن يندمج في تفاصيلها، ويوسع دائرة معارفه، ويشارك في حل المشكلات، لكنه وهو الثوري الذي اعتاد القتل والعنف، يجد نفسه بين عشية وضحاها أمام واقعة قضّت مضاجعه، بعد أن عثر البعض على أحد أصدقائه مقتولاً على الشاطئ، كان يُدعى «إيلانا إتشيفري» ويشتهر باسم «لا الأرجنيتين» ويعد واحداً من معارفه المقربين لديه، وقد بدا كأنه تعرض لعملية إعدام واضحة، لكن ذلك لم يدفع أحداً إلى الاهتمام بكشف غموض القضية، مما جعل «تشيبي» يضطر للتحقيق فيها، وراح يبحث في طرق عدة ومسارات مختلفة من أجل وضع إجابات لما جرى.
ومع تصاعد أحداث الرواية تتفاعل قضية مقتل «لا الأرجنيتين»، وإصرار البطل «دون تشيبي» على التحقيق في القضية، بعدما أدرك أنه لا يوجد شخص آخر هناك مهتم بالبحث من أجل كشف الجريمة، يتبخر من أمام «تشيبي» حلم الإقامة الهادئة. وقد بدت صدمه العثور على القتيل، وقراره البحث من أجل الوصول للحقيقة والتحقيق بنفسه في الجريمة، فاتحة لديه، ليواجه ماضيه الثوري، ويتساءل في الوقت نفسه عن السنوات التي ضاعت من حياته، وتراكمت معها الإحباطات وخيبة الأمل، وصارت مثل الغبار على الطرق.
لم يتوقف الأمر لدى تشيبي الثوري السابق عند حد الغوص في ماضيه وحياته الشخصية، بل وجد نفسه، خلال رحلة البحث عن القاتل أو القتلة، غارقاً في تفاصيل عوالم تجار المخدرات والعنف الكامن والحرارة الخانقة، فقد تفجر البحث في سنوات الماضي وأحداثها وما جرى فيها، وثورته التي شارك فيها، وآمن بها وبمبادئها، ووضع أمامه الكثير من الإجابات عن الحاضر المميت، وأسباب ارتفاع معدلات الجريمة التي تتزايد باستمرار في قرية كانت تعد حتى وقت قريب واحدة من أفقر المناطق في كوستاريكا، لكن دخول موجة من الاستثمار السياحي المتنافي فيها، أدى إلى تحقيق نوع من الاستقرار والنمو الاقتصادي في حياة سكانها، لكنه أسهم أيضاً في تعميق التفاوتات الطبقية بينهم، وأدى لظهور أشكال جديدة من العنف والجريمة، وهو ما يدفع المحقق المؤقت والثوري السابق «دون تشيبي»، خلال تجواله في جميع أنحاء المنطقة من أجل كشف ملابسات مقتل صديقه، إلى التفكير في الجوانب الإيجابية والسلبية للسياحة الجماعية، والاستثمار الأجنبي، والسوق الحرة الموجّهة نحو النمو الاجتماعي والاقتصادي.
خلفية تاريخية
تستثمر الرواية والأحداث التاريخية أيضاً، فمن خلال الماضي التاريخي يتجلى الحديث عن هجوم «لاكروز» الذي ورد ذكره على نطاق واسع في الرواية، فالكاتب يضع خلفية للأحداث تتخذ من هجوم تفجيري حقيقي نُفذ عام 1984 في لابينكا وأودى بحياة سبعة أشخاص، قماشة ينشر عليها حكايته.
وتقول الوقائع الحقيقية لما جرى إن من بين ضحايا الهجوم صحافيين كانوا مكلفين بتغطية الصراع بين الساندينيين وأعدائهم من «الكونتراس»، كان الهجوم مدبراً ضد إدن باستورا المعروف باسم «ثائر الساندينستا» والملقب بـ«القائد صفر»، كان أحد زعماء الساندينستا، لكنه رأى أن الثوار تعرضوا للخيانة، وفجأة انقلب على رفاق الثورة السابقين في النضال، وقام بمحاربتهم بمساعدة واضحة من وكالة المخابرات الأميركية المركزية.
لم يكن من الممكن تحديد الهوية الحقيقية لمرتكب الهجوم الدموي الذي تعرضت له لابينكا، كان أحد الضحايا ثورياً أرجنتينياً سابقاً يدعى «فيتال روبرتو غاغوين». توفي هذا الرجل في عام 1989 في هجوم على حامية عسكرية في الأرجنتين، في منطقة «لا تابلادا». ولم يتم التحقيق في وفاته أو التأكد منها، وقد أشار قاضٍ في كوستاريكا مكلف بإعادة فتح القضية. بالإضافة إلى ذلك، وبعد مرور بعض الوقت، عاد الصحافي السويدي «بيتر توربيورسون» الذي كان حاضراً في ذلك الوقت في مسرح هجوم لابينكا، إلى كوستاريكا، بعد نحو خمسة وعشرين عاماً من هذا الحدث المأساوي، للإدلاء بشهادته، وللتشكيك في مسؤولية الحكومة الساندينية في ذلك الوقت عن الهجوم. وحسب تصريحه، فإن حكومة الساندينيين في ذلك الوقت، برئاسة دانييل أورتيغا الذي تولى السلطة في عام 1984، والذي عاد إلى هناك بعد بضع سنوات، هي التي خططت للهجوم بمساعدة وكالة المخابرات المركزية ضد رفيقهم السابق «القائد صفر»، وقد أعيد تصنيف الهجوم منذ ذلك الحين على أنه جريمة ضد الإنسانية، وعاد الساندينيستا إلى السلطة في ذلك الوقت وعلى رأسهم دانيال أورتيغا، في ظل اتهام لا يمكن الاستخفاف به.
كل هذه التفاصيل التاريخية يقوم المؤلف بتوظيفها في روايته «صيف أحمر»، ويجعل منها قاعدة سردية وسياقاً تاريخياً، آملاً أن تجعل الرواية وقائع ما جرى من أحداث تاريخية وسياسية وسيلة لاستكشاف آثار التاريخ وانعكاسها على الحاضر، وذلك من خلال إذابة الخط الفاصل بين الحقائق بمأساويتها المفجعة وبين الخيال الذي يتسرب في تفاصيلها.
يُذكر أن دانيال كويروس مولود في سان خوسيه بكوستاريكا عام 1979، وحاصل على درجة الماجستير في دراسات أميركا اللاتينية، والدكتوراه في الأدب من جامعة كاليفورنيا.