«البدايات باتت تختلط بالنهايات، كما يمتزج النوم بالصحو. لم تعد هناك أي حدود بين الأشياء، ولا فاصل بين الأزمنة، حين يحرق الحاضر الماضي ويتحول إلى رماد. الحاضر الذي صار ملطخاً بالدم». من الكلمات الأولى لرواية علوية صبح الجديدة «أن تعشق الحياة» إلى الصفحة الأخيرة، ثمة امرأة في حالة صراع مستميت لاستنهاض جسدها المعتل، وهي تضخ الروح بجرعات من الصبر والعزيمة والحب والإبداع. المرأة الراقصة (بسمة) فقد جسدها بوصلته، تشتتت كلماتها على لسانها، كما أزمنتها في ذهنها، وتعطلت حركتها المعتادة، وباتت محكومة بتشنجات في الجسد، وجرعات عالية من المهدئات، كثيراً ما تفضي إلى هلوسة، أو استعادة تفاصيل مضت. يوم داهمها المرض، كانت في مقتبل العمر «بداية الثمانينات، من القرن الماضي، لم تكن تكفيني الحرب القذرة التي كنت أقاومها بأحلامي المتفجرة وبالرقص، وإنما فقدت فيها أبي وحبيبي الأول أحمد». هكذا تتوالى النكبات، على بسمة لكنها تستمد قوتها، من المطر والريح والبحر، والشعر والموسيقى والكتابة، وبالتأكيد من حلم العودة إلى المسرح من جديد.
الرواية تمزج بين السيرة الذاتية والتخييل. بمعنى أدق بين تجربة المرض - التي مرت بها صبح شخصياً وأوقفتها عشر سنوات عن الكتابة، كما حال بسمة مع الرقص - واللعبة الروائية بما تقتضيه من بناء لشخصيات وأحداث تدعم اللعبة السردية. فالنص يحتفظ إلى حد كبير، بنبض ذاتي، خصوصاً أنه يروى بصيغة «الأنا»، دون أن تتخلى علوية صبح هذه المرة أيضاً كما في رواياتها السابقة عن العودة إلى بيئتها الجنوبية، والمعتقدات الشعبية، والذكورية العارمة، لا سيما عند النساء. كما أن ثيمة الحرب الأهلية حاضرة. لكننا هذه المرة سنجد أنفسنا أمام امتداد جديد للعنف مع الربيع العربي. إنها المأساة ذاتها تتغير صيغها ويبقى مضمونها واحداً.
وتربط الراوية بين مرض الجسد ومرض المحيط العام. فهي تتألم في منزلها وحيدة، ولكن نافذتها في وحدتها، هو التلفزيون الذي تتدفق منه أخبار قطع الرؤوس وتفجر الدماء وسبي النساء. هذا التماهي بين الذات والاعتلال الجماعي، ليس رهناً بالحاضر. نفهم أن ما تعيشه الراوية هو بفعل ترسبات جاءتها من ماضٍ لم يكن أقل عنفاً، وطفولة معجونة بالخوف والأرق. وجسدها المعتل يصبح مرآة ترى فيه سلسلة من النزاعات العائلية، وانشطارات نفسية للمحيطين بها. «فقد تصدعت حياتنا مع التحولات التي شهدتها منطقتنا من نزاعات وحروب!»، بحيث بات الفصل صعباً بين ما يكابده الفرد، وما تتخبط فيه الجماعة.
وجع على وجع، يفاقمه تذكر مآسي الحرب، أو العودة إلى الوراء واسترجاع تجربة الأم الصعبة مع أب لم تجد فيه يوماً الصورة التي تتمناها، إلى أن يصاب في الحرب وتبتر رجلاه، وتضطر لخدمته. وهنا ترسم الكاتبة أحد أعنف مشاهد روايتها وأكثرها قسوة، في موقف نادر بين الأم والأب، ينتهي بالرجل إلى إحباط فانتحار. إحساس بالذنب يتلبس العائلة والراوية، التي تسال نفسها: «ألم يكن إهمالي له وانشغالاتي بالرقص وبأحمد (حبيبها الأول)، وتأففي من صوت بكائه في الليل أحياناً، هو ما جعلني شريكة في قتله؟».
يكاد يكون النص مبنياً على الثنائيات والتناقضات، حرب الخارج وحرب الجسد. الحاضر العنيف الذي يعيد إلى ماض ليس أقل عنفاً. الاعتلال الذي يأخذ إلى هاوية سحيقة، والفن الذي يبعث الأمل وينقذ من نهاية محتومة. الحب الحاضر دائماً، لكنه يبقى بحكم الغائب، ولا يتحقق، أو يبلغ خواتيمه السعيدة المأمولة أبداً. النساء اللواتي يشكلن عصب الحكاية، مقابل رجال يمرون كطيف هلامي، فهم إما يموتون أو يرحلون إلى أقدارهم المتقلبة. أنيسة صديقة بسمة الحميمة ليست في رضا من زواجها، وأمينة الصديقة الثانية لم تتزوج أصلاً، والأم لا ترى في الأب رجلاً تمنته، والراوية نفسها مع أحبتها الثلاثة، جميعهم وجودهم يأتي لاستكمال المشهد. أحمد هو الحبيب المرتجى، لكنه رحل قبل أن تبدأ الراوية القص، ويوسف الرسام، كان يفترض أن يكمل حكاية أحمد لكنه ينسحب بسبب ذهابه إلى تطرف تدريجي، حيث يطلب منها أن تتنقب أو ترحل. ثم الحبيب الأخير، الذي نفهم أنها تروي له حكايتها على وسائل تواصل افتراضية، وتبقى علاقتها به، مشرعة على احتمالات مفتوحة. لكن وللغرابة يصبح الافتراضي أكثر حقيقية من الواقع حين تقول: «ساورني إحساس أن الحب الافتراضي الذي عشته بكل نبض فيَّ هو الحب الحقيقي الأوحد، وكل ما عداه مجرد أوهام باطلة».
بسمة التي يشي اسمها بالفرح، على عكس ما هو عليه حالها، لا تتخلى عن قتالها الشرس من أجل العودة إلى المسرح متألقة في عروضها كما كانت. وبشريط حياتها، تعبر بنا الصفحات، نمر على فصول من عمرها تتلوها فصول قبل أن ننتقل معها إلى ضفة الشفاء. عمر تتخلله أحداث، وقصص، وصداقات، ومغامرات حب، تبقى جميعها مجرد جداول، تصب في قصة صراع بسمة. هي التي رغم كل معاركها الذاتية، كما تقول لها الممرضة غريس، «شيء واحد لم يتغير فيك: ابتسامتك التي كانت مرتسمة على وجهك. حتى حين كنت في أسوأ أحوالك».
الرواية الصادرة عن «دار الآداب»، والمزدانة بغلاف الفنانة نجاح طاهر التي اختارت لراقصة الباليه الثوب الزهري كناية عن الأمل، وحجبت الجذع والرأس بالعنوان، بينما تركت لذراعي الراقصة حرية الحركة، هو خير تعبير عن نزعة الانعتاق التي تنشدها القصة. فهي في مجملها، حكاية نساء. إذ إضافة إلى بسمة، هناك صديقتها أنيسة الكاتبة والصحافية، المتمردة الباحثة عن أحلامها رغم زواجها المحبط. هي أيضاً حكاية أمينة الصديقة التقليدية المقيدة، لكنها في الوقت نفسه تجد تعويضها في المنامات التي لا ترى فيها انفصالاً عن واقعها. هي كذلك حكاية الأم التقليدية، القاسية التي رغم محافظتها، تغضب وتثور بقوة، والشقيقات والجدات السبع اللواتي حتى في غيابهن حاضرات في المخيلة.
يمكن وصف رواية علوية صبح الجديدة «أن تعشق الحياة» بأنها قصة نضال امرأة عربية لا تختلف ملامح معاناتها عن مخاض مجتمعها. فبين اليأس والأمل ترفض الكاتبة أن تستسلم، وتخوض حرباً بأسلحة مبتكرة بالموسيقى ونصوص ابن عربي، ولوحات يوسف، وكتابات أنيسة وروايات أحمد، ورقصات مفضلتها الفنانة الألمانية بينا بوش، في مواجهة التطرف، والظلم والفقر والمرض. إنها رواية غاضبة ومسالمة في آن. حكاية امرأة تشن حرباً أنثوية على البشاعة وتنتصر.
علوية صبح تعود بالأمل في «أن تعشق الحياة»
بعد توقف عشر سنوات عن الكتابة
علوية صبح تعود بالأمل في «أن تعشق الحياة»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة