زيارة جديدة للحرافيش

في ذكرى نجيب محفوظ

الحرافيش
الحرافيش
TT
20

زيارة جديدة للحرافيش

الحرافيش
الحرافيش

كان هناك ما يشبه الإجماع النقدي على أن الثُلاثية ذروة أعمال نجيب محفوظ. وهي في الحقيقة، تستحق ببنائها الكبير وبقدرتها على التغلغل في الوعي الشعبي إلى حد أن «سي السيد» غادر الرواية وأصبح نمطاً اجتماعياً شهيراً، الأمر الذي لم يحدث إلا نادراً في تاريخ الأدب الإنساني كله. ثم جاء تقرير لجنة جائزة نوبل عام 1988 ليخالف المستقر، منوهاً برواية «أولاد حارتنا».
لكن كل حكم على الأدب، مهما كان صائباً يظل حكماً ناقصاً قبل أن يمر النص باختبار الزمن، من جهة صلاحيته لقارئ جديد في المستقبل وصموده لقراءات متعددة من القارئ الواحد.
لا أعرف أحكام القراء الجدد على أعمال محفوظ المختلفة، لكن من خبرات قراءاتي المتكررة أستطيع القول، إن «الحرافيش» تمنحني جديداً في كل قراءة؛ ما جعلني أقف مخالفاً للتفضيلين السائدين، مؤمناً بأنها ذروة هرم نجيب محفوظ الإبداعي، فيها خلاصة أسئلته حول الحياة والعدم، الدين والسلطة، العدل والظلم. هذه ذاتها أسئلة: «أولاد حارتنا» وعديد من رواياته، لكن برهافة أكثر، وحيث يبدو عالم الرواية مكتفياً بذاته دون الإحالة إلى تاريخ أو واقع خارجه؛ ما يجعل من «الحرافيش» النموذج الأكثر كمالاً في العطاء المحفوظي.
أتقن نجيب محفوظ؛ الفيلسوف، التخفي وراء مظهر الحارة الشعبية، وقد قنعت القراءات المتعجلة للحرافيش كما قنعت السينما بهذا المظهر السطحي الذي يساوي بين الروائي الحكواتي والروائي الفيلسوف، لكن الزمن، القاضي الأكثر عدلاً في محكمة الإبداع، يُسقط الحواديت، ويُبقي على أدب التساؤل الذي يُضمر رؤية متماسكة للكون، وأحسب أن الحرافيش هي آخر ما يمكن أن يموت من إبداع هذا الرجل الكبير.
على غير العادة في أعمال محفوظ هناك إشارة إلى جنس الكتاب في صميم العنوان: «ملحمة الحرافيش» ما يعد بعالم أسطوري، لكنه في الآن ذاته عالم محفوظ المعتاد محدود الرقعة. ولكي يقدم ملحمة دون ارتحال يقاسي فيه الأبطال الأهوال والمصادفات الغريبة التي لاقاها جلجامش أو عوليس أو أوديب، ألقى محفوظ بكل أعباء الملحمة على عاتق البناء الفني.
ومن خلال سرد يتمتع بالانسجام بين اللغة والشخصية والمكان والزمان، وبنية روائية شديدة البساطة، إذا ما قورنت بالعمارة المركبة للثلاثية.
عمارة الحرافيش بناء بسيط، أقرب إلى متوالية قصصية، كل حكاية تبدأ وتنتهي، حيث يساهم هذا الشكل البسيط للسرد في تحقيق رؤية الرواية، بتماثله مع موج البحر. لا يتوقف الموج ولا يستدير إلى الوراء، لكنه يندفع في تقدم متتابع يبتلعه الشاطئ، موجة بعد موجة. لا جديد ولا نهاية، بل حركة دائمة.

- عن اللغة
أول ما يُصادف القارئ في الحرافيش هو اللغة. المفتتح محض لغة شاعرة لا تروي واقعة: «في ظلمة الفجر العاشقة، في الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد الغامضة، طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا» هذا الاقتباس - على قصره - هو الفصل الأول كاملاً من الحكاية الأولى.
تحيل بلاغة الجملة إلى السرمدي الذي يتكرر على الدوام، وكأنها نشيد الجوقة في المسرح اليوناني، وهذه وظيفة إضافية يضعها محفوظ على كاهل الراوي في «الحرافيش».
ويتكرر صوت الحكمة على هذا النحو في موضع أو موضعين من كل حكاية من الحكايات العشر للتذكير بهذا النفس الملحمي، وغالباً ما تكون الجملة فصلاً مستقلاً، ودائماً على لسان الراوي كفصل البداية: «لا دائم إلا الحركة. هي الألم والسرور. عندما تخضرُّ من جديد الورقة، عندما تنبت الزهرة، عندما تنضج الثمرة، تُمحى من الذاكرة سفعة البرد وجلجلة الشتاء» - الفصل (51) من الحكاية الرابعة: «المُطارد».
وإلى جوار اللغة التي تفتح الأفق على السرمدي، نجد لغة تُغلق أفق الفهم لتفتح آفاقاً للخيال متمثلة في التراتيل الفارسية المسموعة من داخل التكية. وهي أبيات من غزليات حافظ الشيرازي، بعضها لا يمت بصلة للمشهد؛ كأن يلجأ البطل إلى الساحة حزيناً أو يائساً، ويسمع بيتاً في العشق والغرام. هذا المخفي في النص من أجمل ألعاب محفوظ مع القارئ، وربما يحيلنا التوظيف العابث للغزليات إلى علاقة السخرية بصناعة الخيال عموماً.
ولا يودع محفوظ فخامة لغة الشعر، وعتمة المعنى في اللغة الفارسية، إلا ليستلهم بلاغة العهد القديم. تقول فلة لعاشور إنها تحمل له تحيات من أبنائه؛ فيرُدُ: «مباركة تحياتٌهم».
أو يطلب منه درويش مالاً فيصده: «في سبيل الخير أعطي لا في سبيل الشر».
ويتوالى هذا الاتكاء على بلاغة الكتاب المقدس «إلى الحمَّام والطعام ولتحل بركة الله في الأرض».
وليس هناك أجمل من إنطاق سيدة بسيطة بحكمة التغير الدائم «وَالشَّمْسُ تُشْرِقُ، وَالشَّمْسُ تَغرب، وَتُسْرِعُ إِلَى مَوْضِعِهَا حَيْثُ تُشْرِقُ». (سفر الجامعة 1: 5). في الحكاية الخامسة من الحرافيش تحمل أم هشام الداية رسالة من الفتوة نوح الغراب إلى زهيرة الجميلة، فتقول لها: «ألا ترين أني زوجة وأم؟» فترد العجوز: «ما يمر يوم إلا ونرى الشمس وهي تشرق ثم نراها وهي تغرب».
وإلى جوار هذه المستويات من البلاغة الفصيحة، يصادفنا غناء شعبي يصدح به عاشق مكلوم:
«يا أبو الطقية الشبيكة
قل لي مين شغلها لك
شــبكت قلبي
إلهي ينشغل بالك»
هذه التنويعات الأسلوبية تُرصِّع لغة سردية سهلة منسجمة مع عالمها. والحوار فصيح، لكن بساطته تجعله مقنعاً على لسان الشخصيات. وهكذا يؤدي مجمل التشكيل اللغوي دوره في البناء الذي يضع قدماً في الأسطوري والأخرى في الواقعي.

- عن المكان والزمان
من يدقق في حارة الحرافيش، يرى اختلافها عن حارة الثلاثية وغيرها من حارات روايات محفوظ الواقعية التي نستطيع أن نطابق بعض معالمها على معالم شهيرة: مثل مسجد الحسين، مآذن قلاوون وبيت القاضي وخلافه.
وبينما تنطق عناوين الروايات الواقعية بأسماء حارات: بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، خان الخليلي، تبقى حارة الحرافيش بلا اسم. لها امتداد يناقض قِصَر الحارات الحقيقية في منطقة الجمالية، لكي تستوعب فضاءات تلبي رؤيته الأسطورية، وتكون مقنعة فنياً في الوقت ذاته.
يريد للتكية أن تكون غامضة ومستغنية عن التعامل مع ما حولها من البشر؛ فلا تفتح بابها أبداً، وهذا يجعلها في حاجة إلى مزرعة يعيش الدراويش على ثمرها. وفي الحارة حانة، بخلاف واقع حارات الجمالية المثقلة بالقداسة، لكنه يبني مختصراً للعالم، يتسع للحانة وستتسع تلك الحارة المجهولة مع الوقت لمئذنة عجائبية (بلا مسجد) يبنيها بطل الحكاية السابعة «جلال صاحب الجلالة» كما تتسع الحارة من بعده لدار صيرفة وعمارات ضخمة.
بهذا التأسيس أصبحت الحارة مكاناً صالحاً لصناعة العجائبية، مع ذلك يلجأ محفوظ لطقس الهجرة الضروري للإقناع بالمعجزات، كما في الملاحم وألف ليلة وليلة. لكن أبطاله لا يسافرون إلى البعيد، بل إلى صحراء قريبة (هي في كل روايات محفوظ صحراء الدرّاسة المتاخمة لسور القاهرة على مسافة دقائق معدودة مشياً) وإلى بولاق على ضفة النهر، وهي الأخرى لا تبعد أكثر من نصف ساعة مشياً، بينما يستغني بعض الفتوات عن الرحلة؛ إذ يكتشفون قواهم الخارقة في لحظة مفاجئة تحت ضغط معركة تُفرض عليهم أو إهانة لا يمكن السكوت عليها.
ومثلما خطط مكاناً مجهولاً يمكن تحديده بالظن، بنى محفوظ زمناً مجهولاً، يلبي رغبته في صنع أمثولة للحياة. لكنه ككل كاتب حساس يدفع بالقارئ إلى المتاهة بعد أن يضع في يده طرف خيط الأمان الذي يمكنه من النجاة. هكذا تمكَّن النقاد من تحديد زمن الحرافيش من خلال بعض علامات الطعام والشراب ووسائل المواصلات، ليقولوا إن الزمن المضمر يبدو بدايات القرن التاسع عشر إلى العقود الأولى من القرن العشرين.
وإلى جوار المكان والزمان المُضمرين يأتي ذكر أماكن حقيقية كالعطوف والحسينية بفتوات حقيقيين عاشوا في زمن حقيقي معلوم يدخلون في معارك مع فتوات الحارة.

- بناء الشخصية
بعد المفتتح الملحمي، تتكشف الأحداث عن عثور الشيخ الأعمى عفرة زيدان على الطفل ملقى في الشارع عند صلاة الفجر. لنجد أنفسنا أمام عمى ثلاثي: عمى الرجل، وعمى الليل، والجهل بنسب الطفل. لكن عمى ساعة الفجر يعقبه إشراق صبح جديد.
هكذا يؤسس محفوظ برهافة شديدة لعجائبية وواقعية الطفل الذي صار اسمه عاشور. هو بمعنى ما يتيم كنبي، ومجهول كلقيط. وفي سيرته تسامي القديس مع نزوع الشهوة والطمع. يمارس مهنته البسيطة رغم أنه صار سيد الحارة، وفي لحظة تفتنه امرأة وعندما يعود معها بعد الوباء تحلو في عيونهما داراً فخمة فيستوليان عليها.
ويختفي عاشور لتظل ثنائيته حاضرة في ذاكرة الأجيال. يُعيَّر به الأحفاد أحياناً، وأحياناً ترسم له الحكايات صورة ناصعة باعتباره ابن رجل صالح خاف عليه من الفتوة فألقى به في الحارة مطمئنا إلى رعاية الله لوديعته.
وعلى هذا النحو يسري الأسطوري والواقعي متمازجين في دم السلالة، للرجال قوة بدنية استثنائية، وللنساء قوة الجمال والحيلة مع عون من قوة غامضة في الروح، ملائكية أو شيطانية.
وفي ظني أن تمازج الأسطوري والواقعي في الشخصيات ليس الدرس المحفوظي الوحيد في الحرافيش، بل إطلاقه لطاقات الخير والشر إلى أقصى حدودهما داخل النفس، بما يجعل شخصيات هذه الرواية قريبة من إنسان الهوتين لدى المُعلم الأكبر دوستويفسكي.



تحويل ميدان «السيدة عائشة» إلى ممشى سياحي في القاهرة التاريخية

القلعة تقف على حدود القاهرة التاريخية (وزارة السياحة والآثار المصرية)
القلعة تقف على حدود القاهرة التاريخية (وزارة السياحة والآثار المصرية)
TT
20

تحويل ميدان «السيدة عائشة» إلى ممشى سياحي في القاهرة التاريخية

القلعة تقف على حدود القاهرة التاريخية (وزارة السياحة والآثار المصرية)
القلعة تقف على حدود القاهرة التاريخية (وزارة السياحة والآثار المصرية)

ضمن خطة مصر لتطوير القاهرة التاريخية، بدأتْ خطوات تحويل ميدان السيدة عائشة الذي يقع على أطراف المنطقة التاريخية، جنوب قلعة صلاح الدين، إلى ممشى سياحي عالمي، بعد تطويره وإزالة الإشغالات حوله، وربطه بباقي الأماكن الأثرية المحيطة والقريبة منه.

وظهرت أعمال التطوير بميدان السيدة عائشة والمنطقة المحيطة بالقلعة خلال فيديو بثه مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء المصري، يشرح ما يتم اتخاذه من خطوات لتطوير المنطقة، لتحويلها من مكان مزدحم بالسيارات والباعة وفي خلفيته كوبري قديم متهالك إلى ممشى سياحي عالمي، يتضمن الخدمات الترفيهية التي تجذب السياح من كل أنحاء العالم، وفق ما ورد بمقطع الفيديو.

وأوضح الفيديو أن الممشى سيتم تسميته «ساحة السلطان»، وسيضم ميدان السيدة عائشة ومسجدي السلطان حسن والرفاعي ومنطقة القلعة، وخلال أعمال التطوير تم اكتشاف أجزاء من سور القاهرة القديمة الذي سيعاد ترميمه ودمجه في الممشى السياحي الذي سيحافظ على الهوية البصرية للقاهرة التاريخية، بالإضافة لاستحداث مسطحات خضراء كبيرة بالمنطقة.

المساجد والوكالات القديمة أبرز ما يميز القاهرة التاريخية (الشرق الأوسط)
المساجد والوكالات القديمة أبرز ما يميز القاهرة التاريخية (الشرق الأوسط)

يذكر أن مصر أعلنت من قبل عن خطة لتطوير القاهرة التاريخية التي تتضمن آثاراً من العصر الفاطمي مروراً بالأيوبي ثم المملوكي، وتضم مساجد ومدارس وأسبلة وقصوراً ووكالات تجارية قديمة، وأشهر هذه الآثار الإسلامية توجد في شارع المعز لدين الله الفاطمي، وشارع الأزهر وحي الغورية ومحيط منطقة القلعة وشارع الصليبة بالخليفة.

وفي ضوء هذا أشار خبير الآثار المصري، الدكتور عبد الرحيم ريحان، عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة، إلى أن إزالة كوبري السيدة عائشة كان مطلباً مهماً منذ فترة، ليس فقط لأنه يمثل تشويهاً للمنطقة الأثرية بل أيضاً لكثرة الحوادث عليه.

من مدخل شارع الغورية بمنطقة القاهرة التاريخية (الشرق الأوسط)
من مدخل شارع الغورية بمنطقة القاهرة التاريخية (الشرق الأوسط)

بخصوص خطة التطوير، قال ريحان لـ«الشرق الأوسط» إن «هذا المنطقة ضمن حدود القاهرة التاريخية التي تشمل الآثار الإسلامية والقبطية في ثلاث نطاقات، وهي منطقة القلعة وابن طولون والجمالية، والمنطقة من باب الفتوح إلى جامع الحسين، ومنطقة الفسطاط والمقابر والمنطقة القبطية والمعبد اليهودي، وقد اعتمدت حدود واشتراطات تلك المنطقة من المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية طبقاً للقانون رقم 119 لسنة 2008 ولائحته التنفيذية في 2011».

وأشاد الخبير الآثاري بهذا التطوير، وعدّه «ضمن سلسلة تطوير شاملة بالقاهرة التاريخية، شملت مشروع تطوير ورفع كفاءة إضاءة شارع المعز لدين الله الفاطمي بحي الجمالية ومشروع قباب مقابر الأسرة العلوية الأثرية الموجودة بالمنطقة، واختراق منطقة المدابغ وإعادة صياغتها لتكون منطقة تراثية ومنفذاً للنزهة لكل المصريين للسياحة الداخلية ومقصداً للأجانب».

شوارع القاهرة التاريخية بها العديد من المساجد والأسبلة (وزارة السياحة والآثار المصرية)
شوارع القاهرة التاريخية بها العديد من المساجد والأسبلة (وزارة السياحة والآثار المصرية)

وتضم القاهرة التاريخية أو الإسلامية 537 مبنى أثرياً مسجلاً، وهي منطقة مدرجة ضمن التراث العالمي في اليونيسكو، وفق تصريحات سابقة لرئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، لافتاً إلى اتخاذ قرارات كل فترة لترميم أجزاء في المنطقة التاريخية دون نظرة عامة، وتسعى الحكومة حالياً لتطوير شامل للمنطقة، لما تمثله من كنز تراثي وتاريخي، وفق قوله.

ولفت عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة إلى أن «هذا المشروع سيخلق موقعاً تراثياً خاصاً أطلق عليه (ساحة السلطان) يشمل ممشى سياحياً يربط القلعة بمساجد الرفاعي والسلطان حسن والسيدة عائشة مع زيادة المسطحات الخضراء وغلق الميدان أمام حركة السيارات، وإزالة مواقف السيارات التي تشوه المنطقة مما يسهم في تحسين الصورة البصرية للقاهرة التاريخية».

في الوقت نفسه، حذر ريحان من أن «يمس المشروع هدم أي مقابر تراثية، ضمن حدود القاهرة التاريخية المسجلة باليونسكو، حتى وإن كانت غير مسجلة كآثار»، حسب تعبيره.