زيارة جديدة للحرافيش

في ذكرى نجيب محفوظ

الحرافيش
الحرافيش
TT

زيارة جديدة للحرافيش

الحرافيش
الحرافيش

كان هناك ما يشبه الإجماع النقدي على أن الثُلاثية ذروة أعمال نجيب محفوظ. وهي في الحقيقة، تستحق ببنائها الكبير وبقدرتها على التغلغل في الوعي الشعبي إلى حد أن «سي السيد» غادر الرواية وأصبح نمطاً اجتماعياً شهيراً، الأمر الذي لم يحدث إلا نادراً في تاريخ الأدب الإنساني كله. ثم جاء تقرير لجنة جائزة نوبل عام 1988 ليخالف المستقر، منوهاً برواية «أولاد حارتنا».
لكن كل حكم على الأدب، مهما كان صائباً يظل حكماً ناقصاً قبل أن يمر النص باختبار الزمن، من جهة صلاحيته لقارئ جديد في المستقبل وصموده لقراءات متعددة من القارئ الواحد.
لا أعرف أحكام القراء الجدد على أعمال محفوظ المختلفة، لكن من خبرات قراءاتي المتكررة أستطيع القول، إن «الحرافيش» تمنحني جديداً في كل قراءة؛ ما جعلني أقف مخالفاً للتفضيلين السائدين، مؤمناً بأنها ذروة هرم نجيب محفوظ الإبداعي، فيها خلاصة أسئلته حول الحياة والعدم، الدين والسلطة، العدل والظلم. هذه ذاتها أسئلة: «أولاد حارتنا» وعديد من رواياته، لكن برهافة أكثر، وحيث يبدو عالم الرواية مكتفياً بذاته دون الإحالة إلى تاريخ أو واقع خارجه؛ ما يجعل من «الحرافيش» النموذج الأكثر كمالاً في العطاء المحفوظي.
أتقن نجيب محفوظ؛ الفيلسوف، التخفي وراء مظهر الحارة الشعبية، وقد قنعت القراءات المتعجلة للحرافيش كما قنعت السينما بهذا المظهر السطحي الذي يساوي بين الروائي الحكواتي والروائي الفيلسوف، لكن الزمن، القاضي الأكثر عدلاً في محكمة الإبداع، يُسقط الحواديت، ويُبقي على أدب التساؤل الذي يُضمر رؤية متماسكة للكون، وأحسب أن الحرافيش هي آخر ما يمكن أن يموت من إبداع هذا الرجل الكبير.
على غير العادة في أعمال محفوظ هناك إشارة إلى جنس الكتاب في صميم العنوان: «ملحمة الحرافيش» ما يعد بعالم أسطوري، لكنه في الآن ذاته عالم محفوظ المعتاد محدود الرقعة. ولكي يقدم ملحمة دون ارتحال يقاسي فيه الأبطال الأهوال والمصادفات الغريبة التي لاقاها جلجامش أو عوليس أو أوديب، ألقى محفوظ بكل أعباء الملحمة على عاتق البناء الفني.
ومن خلال سرد يتمتع بالانسجام بين اللغة والشخصية والمكان والزمان، وبنية روائية شديدة البساطة، إذا ما قورنت بالعمارة المركبة للثلاثية.
عمارة الحرافيش بناء بسيط، أقرب إلى متوالية قصصية، كل حكاية تبدأ وتنتهي، حيث يساهم هذا الشكل البسيط للسرد في تحقيق رؤية الرواية، بتماثله مع موج البحر. لا يتوقف الموج ولا يستدير إلى الوراء، لكنه يندفع في تقدم متتابع يبتلعه الشاطئ، موجة بعد موجة. لا جديد ولا نهاية، بل حركة دائمة.

- عن اللغة
أول ما يُصادف القارئ في الحرافيش هو اللغة. المفتتح محض لغة شاعرة لا تروي واقعة: «في ظلمة الفجر العاشقة، في الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد الغامضة، طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا» هذا الاقتباس - على قصره - هو الفصل الأول كاملاً من الحكاية الأولى.
تحيل بلاغة الجملة إلى السرمدي الذي يتكرر على الدوام، وكأنها نشيد الجوقة في المسرح اليوناني، وهذه وظيفة إضافية يضعها محفوظ على كاهل الراوي في «الحرافيش».
ويتكرر صوت الحكمة على هذا النحو في موضع أو موضعين من كل حكاية من الحكايات العشر للتذكير بهذا النفس الملحمي، وغالباً ما تكون الجملة فصلاً مستقلاً، ودائماً على لسان الراوي كفصل البداية: «لا دائم إلا الحركة. هي الألم والسرور. عندما تخضرُّ من جديد الورقة، عندما تنبت الزهرة، عندما تنضج الثمرة، تُمحى من الذاكرة سفعة البرد وجلجلة الشتاء» - الفصل (51) من الحكاية الرابعة: «المُطارد».
وإلى جوار اللغة التي تفتح الأفق على السرمدي، نجد لغة تُغلق أفق الفهم لتفتح آفاقاً للخيال متمثلة في التراتيل الفارسية المسموعة من داخل التكية. وهي أبيات من غزليات حافظ الشيرازي، بعضها لا يمت بصلة للمشهد؛ كأن يلجأ البطل إلى الساحة حزيناً أو يائساً، ويسمع بيتاً في العشق والغرام. هذا المخفي في النص من أجمل ألعاب محفوظ مع القارئ، وربما يحيلنا التوظيف العابث للغزليات إلى علاقة السخرية بصناعة الخيال عموماً.
ولا يودع محفوظ فخامة لغة الشعر، وعتمة المعنى في اللغة الفارسية، إلا ليستلهم بلاغة العهد القديم. تقول فلة لعاشور إنها تحمل له تحيات من أبنائه؛ فيرُدُ: «مباركة تحياتٌهم».
أو يطلب منه درويش مالاً فيصده: «في سبيل الخير أعطي لا في سبيل الشر».
ويتوالى هذا الاتكاء على بلاغة الكتاب المقدس «إلى الحمَّام والطعام ولتحل بركة الله في الأرض».
وليس هناك أجمل من إنطاق سيدة بسيطة بحكمة التغير الدائم «وَالشَّمْسُ تُشْرِقُ، وَالشَّمْسُ تَغرب، وَتُسْرِعُ إِلَى مَوْضِعِهَا حَيْثُ تُشْرِقُ». (سفر الجامعة 1: 5). في الحكاية الخامسة من الحرافيش تحمل أم هشام الداية رسالة من الفتوة نوح الغراب إلى زهيرة الجميلة، فتقول لها: «ألا ترين أني زوجة وأم؟» فترد العجوز: «ما يمر يوم إلا ونرى الشمس وهي تشرق ثم نراها وهي تغرب».
وإلى جوار هذه المستويات من البلاغة الفصيحة، يصادفنا غناء شعبي يصدح به عاشق مكلوم:
«يا أبو الطقية الشبيكة
قل لي مين شغلها لك
شــبكت قلبي
إلهي ينشغل بالك»
هذه التنويعات الأسلوبية تُرصِّع لغة سردية سهلة منسجمة مع عالمها. والحوار فصيح، لكن بساطته تجعله مقنعاً على لسان الشخصيات. وهكذا يؤدي مجمل التشكيل اللغوي دوره في البناء الذي يضع قدماً في الأسطوري والأخرى في الواقعي.

- عن المكان والزمان
من يدقق في حارة الحرافيش، يرى اختلافها عن حارة الثلاثية وغيرها من حارات روايات محفوظ الواقعية التي نستطيع أن نطابق بعض معالمها على معالم شهيرة: مثل مسجد الحسين، مآذن قلاوون وبيت القاضي وخلافه.
وبينما تنطق عناوين الروايات الواقعية بأسماء حارات: بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، خان الخليلي، تبقى حارة الحرافيش بلا اسم. لها امتداد يناقض قِصَر الحارات الحقيقية في منطقة الجمالية، لكي تستوعب فضاءات تلبي رؤيته الأسطورية، وتكون مقنعة فنياً في الوقت ذاته.
يريد للتكية أن تكون غامضة ومستغنية عن التعامل مع ما حولها من البشر؛ فلا تفتح بابها أبداً، وهذا يجعلها في حاجة إلى مزرعة يعيش الدراويش على ثمرها. وفي الحارة حانة، بخلاف واقع حارات الجمالية المثقلة بالقداسة، لكنه يبني مختصراً للعالم، يتسع للحانة وستتسع تلك الحارة المجهولة مع الوقت لمئذنة عجائبية (بلا مسجد) يبنيها بطل الحكاية السابعة «جلال صاحب الجلالة» كما تتسع الحارة من بعده لدار صيرفة وعمارات ضخمة.
بهذا التأسيس أصبحت الحارة مكاناً صالحاً لصناعة العجائبية، مع ذلك يلجأ محفوظ لطقس الهجرة الضروري للإقناع بالمعجزات، كما في الملاحم وألف ليلة وليلة. لكن أبطاله لا يسافرون إلى البعيد، بل إلى صحراء قريبة (هي في كل روايات محفوظ صحراء الدرّاسة المتاخمة لسور القاهرة على مسافة دقائق معدودة مشياً) وإلى بولاق على ضفة النهر، وهي الأخرى لا تبعد أكثر من نصف ساعة مشياً، بينما يستغني بعض الفتوات عن الرحلة؛ إذ يكتشفون قواهم الخارقة في لحظة مفاجئة تحت ضغط معركة تُفرض عليهم أو إهانة لا يمكن السكوت عليها.
ومثلما خطط مكاناً مجهولاً يمكن تحديده بالظن، بنى محفوظ زمناً مجهولاً، يلبي رغبته في صنع أمثولة للحياة. لكنه ككل كاتب حساس يدفع بالقارئ إلى المتاهة بعد أن يضع في يده طرف خيط الأمان الذي يمكنه من النجاة. هكذا تمكَّن النقاد من تحديد زمن الحرافيش من خلال بعض علامات الطعام والشراب ووسائل المواصلات، ليقولوا إن الزمن المضمر يبدو بدايات القرن التاسع عشر إلى العقود الأولى من القرن العشرين.
وإلى جوار المكان والزمان المُضمرين يأتي ذكر أماكن حقيقية كالعطوف والحسينية بفتوات حقيقيين عاشوا في زمن حقيقي معلوم يدخلون في معارك مع فتوات الحارة.

- بناء الشخصية
بعد المفتتح الملحمي، تتكشف الأحداث عن عثور الشيخ الأعمى عفرة زيدان على الطفل ملقى في الشارع عند صلاة الفجر. لنجد أنفسنا أمام عمى ثلاثي: عمى الرجل، وعمى الليل، والجهل بنسب الطفل. لكن عمى ساعة الفجر يعقبه إشراق صبح جديد.
هكذا يؤسس محفوظ برهافة شديدة لعجائبية وواقعية الطفل الذي صار اسمه عاشور. هو بمعنى ما يتيم كنبي، ومجهول كلقيط. وفي سيرته تسامي القديس مع نزوع الشهوة والطمع. يمارس مهنته البسيطة رغم أنه صار سيد الحارة، وفي لحظة تفتنه امرأة وعندما يعود معها بعد الوباء تحلو في عيونهما داراً فخمة فيستوليان عليها.
ويختفي عاشور لتظل ثنائيته حاضرة في ذاكرة الأجيال. يُعيَّر به الأحفاد أحياناً، وأحياناً ترسم له الحكايات صورة ناصعة باعتباره ابن رجل صالح خاف عليه من الفتوة فألقى به في الحارة مطمئنا إلى رعاية الله لوديعته.
وعلى هذا النحو يسري الأسطوري والواقعي متمازجين في دم السلالة، للرجال قوة بدنية استثنائية، وللنساء قوة الجمال والحيلة مع عون من قوة غامضة في الروح، ملائكية أو شيطانية.
وفي ظني أن تمازج الأسطوري والواقعي في الشخصيات ليس الدرس المحفوظي الوحيد في الحرافيش، بل إطلاقه لطاقات الخير والشر إلى أقصى حدودهما داخل النفس، بما يجعل شخصيات هذه الرواية قريبة من إنسان الهوتين لدى المُعلم الأكبر دوستويفسكي.



انطلاق المؤتمر العالمي لـ«موهبة» لتعزيز التعاون الإبداعي لـ«جودة الحياة»

المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)
المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)
TT

انطلاق المؤتمر العالمي لـ«موهبة» لتعزيز التعاون الإبداعي لـ«جودة الحياة»

المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)
المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)

انطلقت فعاليات النسخة الثالثة من المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع بعنوان «عقول مبدعة بلا حدود» في العاصمة السعودية الرياض، الأحد، الذي يجمع نخبةً من الخبراء والموهوبين في مجالات العلوم والتقنية والابتكار، ويشارك فيه أكثر من 300 موهوب ومتحدثون محليون ودوليون من أكثر من 50 دولةً، وذلك برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز. ونيابة عنه، افتتح الأمير فيصل بن بندر بن عبد العزيز، أمير منطقة الرياض، فعاليات المؤتمر العالمي والمعرض المصاحب للمؤتمر الذي تنظمه مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله للموهبة والإبداع «موهبة»، في مركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية «كابسارك» بالعاصمة السعودية، وشهد توقيع عدد من الاتفاقيات بين «موهبة» وعدد من الجهات.

أمير الرياض خلال افتتاحه فعاليات المؤتمر العالمي والمعرض المصاحب للمؤتمر (واس)

ورفع أمين عام «موهبة» المكلف الدكتور خالد الشريف، كلمة رفع فيها الشكر لخادم الحرمين الشريفين على رعايته للمؤتمر، ودعمه المستمر لكل ما يُعزز ريادة السعودية في إطلاق المبادرات النوعية التي تمثل قيمة مضافة لمستقبل الإنسانية، مثمناً حضور وتشريف أمير منطقة الرياض لحفل الافتتاح.

وقال الدكتور الشريف: «إن قيادة السعودية تؤمن بأهمية الاستثمار برعاية الموهوبين والمبدعين باعتبارهم الركيزة الأساسية لازدهار الأوطان والطاقة الكامنة التي تصنع آفاقاً مستقبلية لخدمة البشرية»، مشيراً إلى أن العالم شاهد على الحراك الشامل لمنظومة تنمية القدرات البشرية في المملكة لبناء قدرات الإنسان والاستثمار في إمكاناته، في ظل «رؤية السعودية 2030»، بقيادة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي رئيس لجنة برنامج تنمية القدرات البشرية.

وأكد الدكتور الشريف أن هذا الحراك يواكب ما يزخر به وطننا من طاقات بشرية شابة موهوبة ومبدعة في شتى المجالات، يتجاوز إبداعها حدود بلادنا ليصل إلى العالمية، وهو ما مكن المملكة من أن تصبح حاضنة لألمع العقول العالمية الموهوبة والمبدعة، وحاضرة إنسانية واقتصادية واعدة بمستقبل زاهر ينعكس على العالم أجمع.

وأوضح أن المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع بنسخته الثالثة يشكّل منصةً ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم، لتستلهم معاً حلولاً مبتكرة تعزز جودة الحياة في مجتمعاتنا، وتبرز الفرص، وتعزز التعاون الإبداعي بين الشعوب.

انعقاد هذا المؤتمر يتزامن مع احتفالية مؤسسة «موهبة» بيوبيلها الفضي (واس)

ولفت النظر إلى أن انعقاد هذا المؤتمر يتزامن مع احتفالية مؤسسة «موهبة» بيوبيلها الفضي؛ حيث أمضت 25 عاماً في دعم الرؤى بعيدة المدى للموهبة والإبداع، وباتت مشاركاً رئيسياً في المنظومة الداعمة لاكتشاف ورعاية الطاقات الشابة الموهوبة والمبدعة، بمنهجية تُعد الأكثر شمولاً على مستوى العالم لرعاية الأداء العالي والإبداع.

عقب ذلك شاهد أمير منطقة الرياض والحضور عرضاً مرئياً بمناسبة اليوبيل الفضي لإنشائها، وإنجازاتها الوطنية خلال الـ25 عاماً الماضية، ثم دشن «استراتيجية موهبة 2030» وهويتها المؤسسية الجديدة، كما دشن منصة «موهبة ميتا مايندز» (M3)، وهي منصة عالمية مصممة لربط ودعم وتمكين الأفراد الموهوبين في البيئات الأكاديمية أو قطاعات الأعمال، إلى جانب تدشين الموقع الإلكتروني الجديد لـ«موهبة»، الذي تواصل المؤسسة من خلاله تقديم خدماتها لجميع مستفيديها من الموهوبين وأولياء الأمور.

ويهدف المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع إلى إظهار إمكانات الموهوبين، وتطوير نظام رعاية شامل ومتكامل للموهوبين، وتعزيز التكامل والشراكات الاستراتيجية، وتحسين وتعزيز فرص التبادل والتعاون الدولي، ويشتمل المؤتمر على 6 جلساتٍ حوارية، و8 ورش عمل، وكرياثون الإبداع بمساراته الـ4، ومتحدثين رئيسيين؛ حيث يسعى المشاركون فيها إلى إيجاد الحلول الإبداعية المبتكرة للتحديات المعاصرة، إلى جانب فعاليات مصاحبة، تشمل معرضاً وزياراتٍ ثقافيةً متنوعةً على هامش المؤتمر.