مقهى رام الله يشبه رواده.. له نكهة ثقافتهم وشكل حواراتهم

شعبي ونخبوي ومحايد.. ولا يلتفت للفروقات الاجتماعية أو الطبقية

جورج خليفي (يمين) وحسن البطل  -  واجهة مقهى رام الله  -  مهيب البرغوثي
جورج خليفي (يمين) وحسن البطل - واجهة مقهى رام الله - مهيب البرغوثي
TT

مقهى رام الله يشبه رواده.. له نكهة ثقافتهم وشكل حواراتهم

جورج خليفي (يمين) وحسن البطل  -  واجهة مقهى رام الله  -  مهيب البرغوثي
جورج خليفي (يمين) وحسن البطل - واجهة مقهى رام الله - مهيب البرغوثي

قبل 12 عاما، قرر أبو إلياس (شوقي دحو)، افتتاح مقهى رام الله، في الشارع الرئيسي للمدينة، الشهير شعبيا باسم «شارع ركب»، نسبة إلى محل البوظة (الآيس كريم) الشهير فيه، إلا أنه، ولفرط ولعه بالقراءة والثقافة عموما، قرر أن ينقل أكثر من 500 كتاب من مكتبته الخاصة إلى المقهى، ما شجع الكثير من أصدقائه والمتحمسين لفكرة المقهى، رفده بمزيد من الكتب، وهذا ما فعلته لاحقا مؤسسات رسمية وأهلية فلسطينية ذات علاقة.
المتجول داخل المقهى الصغير المكون من طابقين، يلاحظ صورا على جدرانه، للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، ولصاحب «المتشائل» إيميل حبيبي، وللأديب والشاعر والمفكر حسين البرغوثي، والمسرحي يعقوب إسماعيل، الذي كان من رواد المقهى، وغيرهم من الراحلين.
يستعيد أبو إلياس، صاحب المقهى، ذكرياته الأولى يقول: «حين أسست مقهى رام الله، كنت أفكر في أن يتحول إلى منتدى ثقافي، خصوصا أنني قارئ نهم، على الرغم من أني لم أكمل تعليمي الثانوي. لكن المقهى لم يتحول إلى منتدى، بل إلى عنوان للكثير من المثقفين والفنانين الفلسطينيين، حتى بات منزلا حميما يجمع الإخوة والأصدقاء. المقهى لا يهدف إلى الربح الكبير، بل الاستمرارية، وهذا ينعكس في تعاملنا مع رواده، حتى من المثقفين العرب والأجانب الذين يأتون في زيارات إلى فلسطين».

* شعبي ونخبوي
أما حسن البطل، وهو أحد رواد المقهى الدائمين، فأشار لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن أهم ما يميز مقهى رام الله عن غيره من المقاهي، هو أنه مقهى شعبي بأجواء نخبوية في آنٍ.
ويقول البطل، صاحب عمود «أطراف النهار» الشهير في جريدة «الأيام» الفلسطينية: «في أي مقهى أنت تبحث عن الأصدقاء، وفي مقهى رام الله أجد أكبر عدد منهم، ومن الوجوه المألوفة بالنسبة لي، وبينها المثقفون، والفنانون، وكذلك شخصيات أكاديمية، وأخرى ذات مناصب رسمية.. والأجمل أنك لا تشعر بأن ثمة فروقات بين هذا وذاك، ممن ينتمون لديانات، أو طبقات اجتماعية أو خلفيات فكرية، وحتى أحزاب سياسية مختلفة.. وجدت في هذا المقهى جوي الخاص.. المقهى الذي كان نجيب محفوظ من رواده كان متواضعا، على عكس المقاهي النخبوية المنتشرة في كل مكان، وأرى في مقهى رام الله مقهى شعبيا قياسا بمقاهي المدينة باهظة الثمن، وقد يصر بعض أصحابها أو العاملين فيها على أن تشرب أكثر من مرة خلال ساعات إقامتك المؤقتة، والتي قد تطول في المقهى، وهو ما لا يحدث في مقهى رام الله».
ويضيف البطل: «رواد مقهى رام الله هم مثقفون (قاعديون)، وليسوا (نخبويين)، وبالتالي فهم في الغالب مثقفون فاعلون في المسرح، والسينما، والشعر، وغيرها من حقول الثقافة والفنون.. معظم الحديث حول الثقافة والسياسة، وقليلا ما يكون حول الأمور الشخصية».

* أغنياء بالثقافة
بدوره، أضاف المخرج جورج خليفي: «في رأيي، مقهى رام الله ليس مقهى مثقفين بما تحمله الكلمة من معنى، فكي يكون كذلك، يجب أن يشهد نقاشات، وقد يحتضن أمسيات ترتبها الإدارة، ولكن يمكن القول إنه مقهى يرتاده كثير من المثقفين.. أجواء مقهى رام الله خاصة وحميمة ودافئة.. هو مقهى مفتوح للجميع وعلى الجميع، ورواده من الأغنياء بالثقافة وليس بالمال، فالأسعار في مقهى رام الله معتدلة وتلائم الرواد، إضافة إلى ميله، عبر صاحبه، إلى الثقافة بشكل أو بآخر».
ويأمل خليفي ألا تنزح إدارة المقهى نحو إقامة فعاليات أو أمسيات ثقافية وفنية.. وقال لـ«الشرق الأوسط»: «كنا نبحث عن مقهى مريح وهادئ، ورواده متقاربون في المشارب والأهواء، وهذا ما وجدناه في مقهى رام الله، وبإقامة فعاليات أو أمسيات لن يعود هو المكان الذي نفرغ فيه مع الأصدقاء تعب يوم كامل، أو نفتتح فيه صباحاتنا.. جو المقهى جذاب، ونأمل أن يبقى كذلك».

* بعيدا عن الصراخ
ويرفض الشاعر عامر بدران، تسمية مقهى رام الله أو أي مقهى آخر بـ«مقهى المثقفين»، مختصرا حديثه بالقول: «هو مقهى في موقع جغرافي متميز، ويتميز بالهدوء بعيدا عن صراخ لاعبي الورق (الشدة، أو الكوتشينة).. برأيي هو مكان مريح يلتقي فيه أصدقاء متقاربون في الاهتمامات، وعدد منهم يعملون في حقول ثقافية وفنية عدة».
ويضيف بدران: «أسوأ ما في المثقف إذا ما كان المستهدفون بالنسبة له هم من المثقفين أو من أصدقائه المثقفين، فمن يريد تقديم رؤيته منهم يجب أن يقدمها للجمهور.. مشكلة المثقفين في بلادنا، أنهم يتحدثون للمثقفين من أصدقائهم، وأتمنى ألا يتكرس ذلك».

* علامة فارقة
ويعتبر الشاعر والصحافي مهيب البرغوثي، علامة بارزة في مقهى رام الله، بل بات يستقطب الكثير من زوار فلسطين العرب والأجانب إليه، وكان أول من كسر فكرة ذكورية المقهى. وبالفعل بتنا نشاهد إناثا منفردات أو مجتمعات، أو برفقة أقارب لهن أو أصدقاء يرتدن المقهى، ولو بين فترات متباعدة، ولأوقات ليست طويلة.. يقول البرغوثي لـ«الشرق الأوسط»: «ما ميز المقهى عن غيره أنه تحول بفضل صاحبه إلى ما يشبه المنتدى الثقافي غير التقليدي، من خلال النقاشات التي يخوضها رواده من المثقفين والفنانين كل مجموعة على طاولتها، أو حتى ما بين الطاولات المتقاربة.. هناك الكثير من المقاهي الشعبية في رام الله، ولكن المختلف في مقهى رام الله، أن العلاقة بين صاحب المحل والعاملين فيه من جهة، ورواده من جهة أخرى، ليست هي العلاقة السائدة بين تاجر وزبون، ومع الوقت بات علامة فارقة، حيث يرتاده المثقفون والفنانون والصحافيون والأكاديميون وبعض الساسة، إنه، وإن اختلف بالشكل والسعة والعمر الزمني، البديل الفلسطيني لمقهى الرشيد في بغداد، أو مقهى أم حسن في بيروت، أو مقهى الروضة ومقهى هافانا في دمشق، أو مقهى السنترال في عمان، وشبيهاتها في العواصم العربية».
ولكسر الصورة النمطية في أذهان سكان رام الله وزوارها، بأن المقهى ذكوريا، اصطحب البرغوثي، بعد أشهر من تأسيسه، ووسط ذهول الكثيرين، ولكن بعد نقاشات مع صاحب المحل والعاملين فيه، شقيقته، كأول أنثى تدخل المقهى، ومن هنا «تم كسر حاجز ذكورية المقهى»، وخاصة أن الشخصيات تتجرد في المقهى، وتلغي الفوارق الثقافية والاجتماعية، فحين يحضر وزير أو تأتي وزيرة إلى المقهى، يتم التعامل معه أو معها كـ«ابن البلد»، وليس «معالي الوزير»، وهذا حدث ويحدث في مقهى رام الله.
من الجدير بالذكر، أن باب المقهى الخارجي يعتبر لوحة إعلانات للكثير من الفعاليات الثقافية والفنية في رام الله على وجه الخصوص، وأن المقهى استضاف الكثير من الأنشطة المتفرقة، من بينها تأبين الشاعر المصري الكبير أحمد فؤاد نجم، والممثل المخرج المسرحي يعقوب إسماعيل، والكاتب والصحافي الفلسطيني عايد عمرو، والأخيران كانا من رواد المقهى.



العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي
TT

العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي

في يومها العالمي الذي يوافق 18 ديسمبر من كل عام، لا تبدو اللغة العربية في أفضل حالاتها، سواء من حيث الانتشار والتأثير أو الاهتمام داخل المؤسسات التعليمية. يكفي أن يُلقي أحدهم نظرة عابرة على لافتات المحال أو أسماء الأسواق التي تحاصر المواطن العربي أينما ولّى وجهه ليكتشف أن اللغات الأجنبية، لا سيما الإنجليزية، صار لها اليد الطولى. ويزداد المأزق حدةً حين تجد العائلات أصبحت تهتم بتعليم أبنائها اللغات الأجنبية وتهمل لغة الضاد التي تعاني بدورها من تراجع مروِّع في وسائل الإعلام ومنابر الكتابة ووسائط النشر والتعبير المختلفة.

في هذا التحقيق، يتحدث أكاديميون وأدباء حول واقع اللغة العربية في محاولة لتشخيص الأزمة بدقة بحثاً عن خريطة طريق لاستعادة رونقها وسط ما يواجهها من مخاطر.

سمير الفيل

عاميات مائعة

في البداية، يشير الناقد والأكاديمي البحريني د. حسن مدن إلى أنه من الجيد أن يكون للغة العربية يوم نحتفي بها فيه، فهي لغة عظيمة منحت بثرائها ومرونتها وطاقاتها الصوتية العالم شعراً عظيماً، كما منحته فلسفة وطباً ورياضيات وهندسة، واستوعبت في ثناياها أمماً وأقواماً عدة. ورأى مدن أن يوم اللغة العربية ليس مجرد يوم للاحتفاء بها، إنما هو، أيضاً، وربما أساساً، للتنبيه إلى المخاطر الكبيرة التي تواجهها، حيث تتهدد سلامة الكتابة والنطق بها مخاطر لا تُحصى، متسائلاً: ماذا بقي في أجهزة التلفزة الناطقة بالعربية من اللغة العربية السليمة، التي تُنتهَك قواعدها كل ساعة، وتحل محلها عاميات مائعة، حيث يتبارى المذيعات والمذيعون في التلذذ بمطِّ ألسنتهم وهم ينطقونها، فيما يختفي جيل أولئك المذيعين المفوهين ذوي التأسيس اللغوي السليم الذين كانت اللغة العربية تشنّف الأسماع من على ألسنتهم؟

د. حسن مدن

ويستدرك الأكاديمي البحريني موضحاً أنه ليس مطلوباً من الجميع أن يتحولوا إلى علماء أفذاذ على غرار سيبويه، فذلك مُحَال، خصوصاً أن الانشطار الذي أصاب اللغة العربية إلى فصحى ومجموعة لهجات عامية جعل من المستحيل أن تكون لغتنا العربية، بصرفها ونحوها لغة محادثة يومية، ولكن ثمة حدود دنيا من قواعد اللغة وطريقة كتابتها ونطقها يجب احترامها والحفاظ عليها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخاطر تخريب اللغة.

ويلفت د. مدن إلى أنه فيما يتعلق بواقع اللغة في معاهد التعليم والدرس، نجد أنه من المؤسف أن معيار تفوق التلميذ أو الطالب الجامعي بات في إتقانه اللغة الإنجليزية لا العربية، وبات يفكر كل والدين حريصين على مستقبل أبنائهما في تعليمهم الإنجليزية، ومن النادر أن يتحدث أحدهم عن حاجة أبنائه إلى إتقان العربية. ويحذر د. مدن من مخاوف تواجه مستقبل لغة الضاد وإمكانية تعرضها لخطر يتهدد وجودها، لافتاً إلى أن هناك تقريراً أجنبياً يتحدث عن أن قرننا الحالي سيشهد ضمور وموت مائتي لغة من لغات شعوب العالم تحت سطوة العولمة الثقافية التي تتخذ من اللغة الإنجليزية «المؤمركة» وسيلة إيصال واتصال.

د. عيدي علي جمعة

حلول عملية

ويشير القاصّ والروائيّ المصريّ سمير الفيل إلى عدة حلول عملية للخروج من النفق المظلم الذي باتت تعيشه لغة الضاد، مشيراً إلى ضرورة الاهتمام بمعلمي اللغة العربية وأساتذتها في المدارس والجامعات، من حيث الرواتب وزيادة مساحات التدريب، بالإضافة إلى جعل اللغة العربية أساسية في كل المؤسسات التعليمية مهما كانت طبيعة المدرسة أو الجامعة. وهناك فكرة الحوافز التي كان معمولاً بها في حقبتَي السبعينات والثمانينات، فمن يدخل أقسام اللغة العربية من الحاصلين على 80 في المائة فأكثر، تُخصَّص لهم حوافز شهرية.

ويمضي «الفيل» في تقديم مزيد من المقترحات العملية مثل استحداث مسابقات دائمة في تقديم دراسات وبحوث مصغرة حول أعمال رموز الأدب العربي قديماً وحديثاً، فضلاً عن عدم السماح بوجود لافتات بلغة أجنبية، وتحسين شروط الالتحاق بكليات العربية المتخصصة مثل دار العلوم والكليات الموازية. ويضيف: «يمكنني القول إن اللغة العربية في وضع محرج غير أن الاهتمام بها يتضمن أيضاً تطوير المنهج الدراسي بتقديم كتابات كبار المبدعين والشعراء مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأبي القاسم الشابي، وغيرهم في المنهج الدراسي بحيث يكون مناسباً للعصر، فلا يلهث للركض في مضمار بعيد عن العصرية، أو الحداثة بمعناها الإيجابي».

تدخل رسمي

ويطالب د. عايدي علي جمعة، أستاذ الأدب والنقد، بسرعة تدخل الحكومات والمؤسسات الرسمية وجهات الاختصاص ذات الصلة لوضع قوانين صارمة تحفظ للغة العربية حضورها مثل محو أي اسم أجنبي يُطلق على أي منشأة أو محل داخل هذه الدولة أو تلك، مع دراسة إمكانية عودة « الكتاتيب» بصورة عصرية لتعليم الطفل العربي مبادئ وأساسيات لغته بشكل تربوي جذاب يناسب العصر.

ويشدد على أن اللغة العربية واحدة من أقدم اللغات الحية، تختزن في داخلها تصورات مليارات البشر وعلومهم وآدابهم ورؤيتهم للعالم، وأهميتها مضاعفة، لكثرة المتحدثين بها في الحاضر، وكثرة المتحدثين بها في الماضي، فضلاً عن كثرة تراثها المكتوب، لكن من المؤسف تنكُّر كثير من أبنائها لها، فنرى الإقبال الشديد على تعلم لغات مختلفة غير العربية، فالأسر حريصة جداً على تعليم الأبناء في مدارس أجنبية، لأنهم يرون أن هذه اللغات هي البوابة التي يدخل منها هؤلاء الأبناء إلى الحضارة المعاصرة.

الأديب السوري الكردي، المقيم في بلجيكا، هوشنك أوسي، إنتاجه الأساسي في الشعر والرواية والقصة القصيرة باللغة العربية، فكيف يرى واقع تلك اللغة في يومها العالمي؟ طرحنا عليه السؤال، فأجاب موضحاً أن الحديث عن تردّي واقع اللغة العربيّة مبالَغ فيه، صحيح أنّ العالم العربي والبلدان العربيّة هي مناطق غير منتجة صناعياً، ولا تقدّم للعالم اختراقات وخدمات علميّة تسهم في الترويج للغة العربيّة والتسويق لها، كحال بلدان اللغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة، والصينيّة، إلاّ أن اللغة العربيّة لم تكتفِ بالمحافظة على نفسها وحسب، بل طوّرت نفسها لتنسجم ومقتضيات العصر وإيقاعه المتسارع.

ويلفت أوسي إلى نقطة مهمّة مفادها أن النهوض الاقتصادي في الصين وكوريا الجنوبيّة واليابان، لم يجعل من لغات هذه البلدان رائجة في العالم، ومنافسة للغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة. وفي ظنه أن أعداد الأجانب الذين يودّون تعلّم اللغة العربيّة، لا يقلّ عن الذين يودّون تعلّم اللغات الصينيّة واليابانيّة والكوريّة.