هل انعطفت باريس أخلاقيا وبدأت في تغيير ملامحها الثقافية؟

مغنية الراب «ديامس» عادت لتصرخ: «أنا فرنسية أنا مسلمة وأنا أعاني»

صحف فرنسية
صحف فرنسية
TT

هل انعطفت باريس أخلاقيا وبدأت في تغيير ملامحها الثقافية؟

صحف فرنسية
صحف فرنسية

بعيدا عن المشهد الإعلامي الراهن في فرنسا، ولمسافة زمنية تمتد لأكثر من عامين، حين لم تكن مغنية الراب «ديامس»، المعروفة بميلاني جورجيادس، تخرج إلى الإعلام الفرنسي، تحديدا بعد اعتناقها الإسلام، تستدعيها صحيفة «لوموند»، لتنشر حديثا كاملا عن معتقداتها، يعيدها إلى الأضواء وسط الأجواء الثقافية المشحونة هذه الأيام.
عرفت ديامس بأغانيها الحزينة، وبانخراطها في حملات إنسانية، وبدفاعها عن أبناء المهاجرين العرب. فهي معارضة شرسة للسياسي اليميني المتطرف جان ماري لوبان وابنته مارين، للمعاديين للعرب سياسيا وثقافيا.
كان تسليط الضوء على مسيرة حياتها مقصودا، في سياق تعاط فرنسي جديد مع الشأن الثقافي على ما يبدو، تفرضه وتيرة الأحداث المتسارعة والجديدة في آن معا.
كان امتهان «ديامس» لأغاني الراب منذ سنة 1994، في صفوف إحدى الفرق الشبابية الهاوية في إحدى ضواحي باريس، قد جعلها محط أنظار الشباب المهاجر، قبل أن تتحول في ظرف بضع سنوات، إلى واحدة من أبرز فنانات الراب بفرنسا، معتمدة على قوة شخصيتها وخصائص صوتها الشديد. اليوم خرجت بعد انقطاع طويل، لتقول: «أنا فرنسية، أنا مسلمة وأنا أعاني بلاء».
صورة ميلاني جورجيادس، كانت قد شوهت في الصحافة الثقافية، والآن، توجه عددا قليلا من الرسائل عبر الشبكات الاجتماعية. ليلة الجمعة، اهتمت فيها الصفحات الثقافية على غير عادتها، قالت: «صدمت من موجة العنف التي اجتاحت فرنسا، وأود أن أعبر عن الرعب المطلق والحزن في أعمال لا تغتفر وقعت في بلدي. الكلمات لن تكون قوية بما فيه الكفاية للتعبير عما أشعر به».
هنا، كل شيء تغير في لحظة ما، وكأن الآلة الدعائية الفرنسية القائمة على الرد والرد المضاد قد كسرت، ووضعت على رف التاريخ، وأتوا بأخرى لا تشبه سابقتها. فهذا العصر يتطلب أدوات أخرى، وكانت نبوءة «أندريه مالرو» قد تحققت، ذاك الفرنسي الرائع الذي حصل للتو على جائزة رفيعة المستوى، عندما قال، إن القرن الواحد والعشرين سيكون دينيا أو لا يكون وبأدوات جد جديدة في إشارة إلى صراع كبير.
تبدو الآن الصحافة في مكان مغاير بعض الشيء، كأنها تريد أن تخلي مسؤوليتها الأخلاقية بأي شكل من الأشكال، بالقول: «لم نكن يوما محرضين»، في إشارة للحديث الدائر حاليا في الساحة السياسية والثقافية عن انزلاق جرى، عمق شرخا ما، لم يكن في الحسبان.
فقد علق الكاتب الفرنسي الآن غريش، مدير تحرير «لوموند» الفرنسية على هجوم باريس، منتقدا دور الحكومات الغربية على رأسها الفرنسية، في تغذية ما أسماه التطرف بما فيه التطرف الثقافي. لأول مرة في تاريخ الصحيفة، يقال هذا.
فيما جاءت تصريحات المفكر الفرنسي اليهودي، «برنار ليفي»، المعروفة مواقفه من مجمل الثقافة العربية في أوروبا، في سياق مشابه، إذ قال من على شاشة «سي إن إن» مساء جريمة «شارلي إيبدو»: «لا فرق الآن بين عربي وفرنسي ويهودي عندما يتعلق الأمر بمصير مشترك، فرنسا تقوم على مكونات ثقافية ثلاثة».
منذ أيام قليلة، كان الاحتفاء بديفيد تومسون وكتابه «الجهاديون الفرنسيون»، كافيا لتقييم المشهد الثقافي. وعلى الرغم من الموضوعية التي أبداها الصحافي، فالكتاب أحدث جدلا، عندما حاول أن يستبعد الأفكار المسبقة، وأن يسأل ويستفسر بتجرد يصعب على الكثيرين، عن الحياة اليومية لعدد من «الجهاديين» التقاهم في تونس واليمن وليبيا، ثم يضيء الشق الفردي والإنساني لكل واحد منهم.
طيلة أشهر مضت، تساءلت النخبة الفرنسية لأول مرة، عن فحوى الجهاد الفرنسي، وصبوا كل اهتماماتهم على كتب من هذا النوع. فيما كان الشارع غارقا في فوضى انفلات الأسعار والضرائب وارتفاع البطالة وحجم الجمود. وقال معلقون بسطاء في مدونة جمعتهم ذات مرة، ردا على كتاب تومسون: «أمير الكتيبة الفرنسية المزعومة ليس إلا ناشطا من خلف الشاشات، والجهاديون الذين تتحدثون عنهم بالكاد يصلحون أن يكونوا حراسا في محل تجاري فرنسي».
هل كانت الأجواء أكثر هدوءا من الآن، عندما كتب اليهودي الفرنسي «إريك زمور» «الانتحار الفرنسي»، واحتفيت به كل الأوساط الثقافية؟ وعندما أحدث الضجة المطلوبة ورفع منسوب الاحتقان، منع زمور من الحضور الإعلامي، وما كان منتظراً حصل. فمن قال بشيطنة الوجود الإسلامي قالها وانتهى الأمر. زمور كان قد وجه الدعوة إلى وقف هجرة المسلمين، وأطلق على تلك العناصر القادمة من أصول غير فرنسية، «تسونامي ديموغرافي»، مؤكدا أن 7 ملايين مسلم في فرنسا يهددون الصفاء العرقي.
الآن، تزدحم المكتبات الفرنسية بعنوان جديد ومثير (الإسلاموفوبيا الجديدة). هذا العمل الرائع يركز على مجموعة من القضايا الأساسية، أهمها، تأثير الإعلام ودوره، وتأثير الثقافة، حيث تحدث الدكتور فنسان جيسير، عن مسؤولية العلمانية الفرنسية والعقلية التي ينظر بها الفرنسيون إلى التدين والمتدينين بشكل عام، وليس للإسلام فقط.
تطرق الدكتور جيسير إلى دور المثقفين المتدينين، والعلمانيين المنشقين من أعراق مختلفة (مسلمين ويهود ومسيحيين)، ودور المتعالمين ومدعي التخصص، وغيرهم من ذوي الانتفاعات الخاصة من القضية.
وبعد أن هز الرأي العام بتصريحه عن الإسلام وتطاول عليه، يؤكد ميشيل ويلبيك اليوم: «القرآن أفضل مما ظننت، الآن وقد قرأته»، مؤكدا أن روايته، التي طبلت لها الصحافة الفرنسية طيلة شهور سبقت صدورها، لم تتطرق إلى نظرية الحكم لدى الإسلاميين ونقدها، على الرغم من أن الأوساط الثقافية تناولت مضمون الرواية باهتمام بالغ، وفردت صفحات للحديث عنها وكأنها الرؤية المستقبلية.
هناك من دافع عن مضامين «شارلي إيبدو» من باب حرية العقيدة والتعبير، كواحدة من ثوابت الجمهورية الفرنسية. لكن كان هذه المرة، دفاعا بعيدا عن الفجاجة المعهودة، وكأن الرسالة: «من يحاربنا بالسيف نحاربه بالقلم، وحده القلم سلاحنا»، قال رسام كاريكاتير، في بلاتوه خاص: «لقد أردنا رسم الرجال ذوي الذقون الملتحية وليس الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم). أردنا رسم النساء المحرمة عليهن المدارس في باكستان، وليس المسلمات، كان الهدف إباحة المحظور في كل شيء».
بينما عادت دور السينما لتؤكد طابع فرنسا العلماني بطريقتها الخاصة. فقد عرضت في وقت واحد، فيلمي «تومكبتو» لعبد الرحمن سيساكو، و«بارك الله فرنسا»، والعملان كانا قد أثارا جدلا واسعا بتطرق واضح لمعالم الشخصية المسلمة في ضواحي باريس. جاء هذا بالتزامن مع عرض فيلم «الخروج» المتناول لسيرة النبي موسى (عليه السلام)، والذي قال النقاد إنه مناقشة فاشلة للأسطورة التوراتية، ليكون العرض رسالة رمزية.



كيف تقتلنا شبكة الإنترنت؟

Instagram, Facebook and WhatsApp/ /dpa
Instagram, Facebook and WhatsApp/ /dpa
TT

كيف تقتلنا شبكة الإنترنت؟

Instagram, Facebook and WhatsApp/ /dpa
Instagram, Facebook and WhatsApp/ /dpa

قبل أن ينتشر التنوير بمختلف أرجاء أوروبا، ويُلهم أمثال توماس باين وتوماس جيفرسون داخل أميركا في عهد الاستعمار، كان يجري النظر إلى أغلب الناس باعتبارهم مجرد رعايا. وكان حقهم في الحياة يخضع حرفياً لتقدير الملك أو الملكة، وكانت سبل عيشهم تتحدد بحادثة ميلاد تجعلهم ملزمين بخدمة اللورد أو البارون الذي يعملون على أرضه.

في ظل الديمقراطية الأميركية، أصبح الناس مواطنين؛ مفهوم لم يعترف بحقوقهم في الحرية والسعي إلى السعادة فحسب، بل كفل لهم كذلك أن أصواتهم - وليس فكرة زائفة عن الحق الإلهي - سوف تحدد من يحكمهم.

وعلى النقيض من هذه المبادئ الجوهرية القائمة على الحرية، فإن الوصف الأمثل لواقعنا الحالي، الإقطاع الرقمي. مثلما كانت الحال مع الرعايا الفقراء العاجزين تحت سلطة الملوك والأرستقراطيين، نعيش اليوم في خضوع أمام مجموعة صغيرة من الشركات، التي استغلت بنية الإنترنت الإقطاعية. وفي ظل هذا النظام، يجري التعامل مع البشر باعتبارهم مجرد عناصر ثانوية - أو ربما لا يجري النظر إليهم على الإطلاق - في خضم العمل على بناء منصات ضخمة، تتولى استخراج البيانات.

داخل الولايات المتحدة، تتألف الزمرة الحاكمة من أكبر شركات البرمجيات في عصرنا: «ألفابت»، مالكة «غوغل»؛ و«ميتا»، مالكة «فيسبوك» و«إنستغرام»؛ و«أمازون»؛ و«أبل»؛ و«مايكروسوفت». وقد انضمت الأخيرة، عبر استثمارها الهائل في مؤسسة «أوبن آي» البحثية، إلى سباق التسلح التكنولوجي للسيطرة على البيانات الخاصة بنا، وما يحمله معه من سلطة وأرباح. ويحظى المؤسسون والمديرون التنفيذيون وكبار المستثمرين في شركات التكنولوجيا الكبرى، بنفوذ هائل على عمليات الإنترنت.

Instagram_logo REUTERS

واليوم، نعيش بحسب تقدير خوارزمياتهم الملكية. وتتعامل برامج الكمبيوتر القائمة على هذه الخوارزميات - التي، مثل أجهزة الكمبيوتر والخوادم والأجهزة، يجب النظر إليها باعتبارها آلات - معنا كمحاجر لاستخراج بياناتنا، التي أصبحت الآن السلعة الأكثر قيمة في الاقتصاد الرقمي. وبعد ذلك، يقومون بتجميع وتنظيم هذه البيانات، واستخدامها لإنشاء أدوات يمكن لقادتهم من خلالها التأثير علينا.

وبحسب تقرير صدر عن مؤسسة «بروبابليكا» عام 2016، جمعت «فيسبوك»، في ذلك الوقت، ما معدله 52.000 نقطة بيانات عن كل فرد من مستخدميها. ويكشف هذا الرقم، الذي من المرجح الآن أن يكون أعلى بكثير، كيفية نظر المنصات إلينا.

في الواقع، تستخرج أنظمة «الصندوق الأسود» الخاصة بهم، التي جرى بناؤها باستخدام أكواد لا يمكن لأي شخص من خارج المنصات الاطلاع عليها، سلعة قيمة (بياناتنا)، ثم يستغلون هذه السلعة لتعيين ملف تعريف لكل منا، وتصنيع آلة قوية (خوارزمية خاصة) لتصنيفنا واستهدافنا والتلاعب بنا. وبذلك، فإنهم يجردوننا من إنسانيتنا بشكل منهجي؛ تماماً مثلما جرد النظام الإقطاعي الفلاحين من إنسانيتهم.

وفي خضم كل هذا، لا يوجد عقد اجتماعي أو حتى التزام أخلاقي من جانب هذه المنصات بعدم معاملتنا كبيادق في أيديها. وبدلاً من ذلك، دفنونا في عقود قانونية، معظمها مكتوبة بحروف صغيرة لا يقرأها أحد، وفرضت هذه المنصات شروطاً وأحكاماً بخصوص استخدامنا لهذه التطبيقات، تجبرنا على التنازل عن أي مطالبات تتعلق ببياناتنا والمحتوى الذي ننشئه وننشره. وعليه، فقد تنازلنا حرفياً عن حقوقنا، وتنازلنا عن شخصيتنا لصالح هذه الشركات العملاقة القائمة داخل «وادي السيليكون».

في الواقع، ظلت هذه الديناميكية تتراكم منذ عقدين. ومع ذلك، في الفترة الأخيرة فقط، بدأت أعداد متزايدة من الناس يدركون ضخامة ما تخلينا عنه.

يعتبر كتاب شوشانا زوبوف، أستاذة جامعة هارفارد، الصادر عام 2018، بعنوان «عصر رأسمالية المراقبة»، أحد الأعمال الرائدة في هذا المجال. ويستعرض الكتاب كيف نشأ نموذج استخراج البيانات في «غوغل»، في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وبعد أن اكتشف «فيسبوك» أن بمقدوره أن يستفيد من حلقة ردود فعل قوية ذاتية التعزيز، تبنَّى النموذج ذاته، وعمد إلى تحديثه.

في الأساس، كانت هذه الطريقة التي عمل بها الأمر: لقد أدت مراقبة «فيسبوك» لنشاط مستخدميه إلى توليد رؤى حول كيفية استجابة الأشخاص لمحفزات نصية أو بصرية أو سمعية مختلفة. بعد ذلك، عدل علماء البيانات والمهندسون في «فيسبوك» خوارزمية تنظيم المحتوى في المنصة، في محاولة لتوجيه المستخدمين إلى التفاعل مع مستخدمين آخرين لفترات زمنية أطول. داخلياً، أطلق «فيسبوك» على هذا التفاعل «تفاعلات اجتماعية ذات مغزى».

وخدمت مقاييس هذه التفاعلات أهداف الإيرادات الخاصة بالمنصة وعملائها. وبعد ذلك، تكررت الدورة مراراً وتكراراً، مع إنتاج أنماط السلوك الجديدة بيانات جديدة، أفسحت المجال أمام «تحسين» متكرر ودائم (أي استهداف أكثر دقة) في قدرة الخوارزمية على تعديل سلوك المستخدم.

وتكشفت ملامح أحد أكثر التطبيقات شهرة لهذا الأمر في فضيحة «فيسبوك-كامبريدج أناليتيكا»، التي تفجرت أخبارها عام 2018. لسنوات، ظلت شركة الاستشارات البريطانية «كامبريدج أناليتيكا» تجمع بيانات مستخدمي «فيسبوك» دون موافقتهم، واستغلتها لتغذيتهم بمعلومات مضللة مستهدفة. وكان أحد الأهداف التأثير على الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016؛ وتمثل هدف آخر في التأثير على تصويت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي.

* أحد مؤلفي كتاب «معركتنا الكبرى»

* خدمات «تريبيون ميديا»إلا أنه من نواحٍ كثيرة، شكلت هذه الفضيحة البارزة حالة شاذة. أما المشكلة الأكبر بكثير، وإن كانت أقل وضوحاً، فكانت تأثير نموذج استخراج البيانات على حياتنا اليومية. عبر سبل متعددة، تلون خوارزميات هذه المنصات نظرتنا للعالم، وتصيغ ردود أفعالنا تجاه القضايا المهمة، وتدفعنا إلى أيدي المعلنين.

عن ذلك، قالت زوبوف إن نموذج الأعمال الاستغلالي هذا، الذي انتقل من «فيسبوك» ليصبح أسلوب عمل كل منصة أو تطبيق إنترنت تقريباً، جردنا مما يجعلنا بشراً بحق: إرادتنا الحرة، التي من دونها لا يمكن للديمقراطية ولا الأسواق أن تعمل.

وأضافت: «ربما تجلس هناك وتفكر: لا، هذا ليس أنا. أنا المسيطر. لا يمكن التأثير عليّ بواسطة بعض أكواد الكمبيوتر. أنا منفتح على جميع الأفكار والاقتراحات، وأتأنى فيها، وأزن بعناية إيجابيات وسلبيات كل منها قبل أن أقرر ما ينبغي عمله».

الحقيقة، هناك مجالات مختلفة من حياتنا اليومية نحتفظ بالسيطرة عليها، لكنها تتضاءل بسبب المصالح القوية التي تستفيد من حرماننا من هذه السيطرة. ولم يقضِ أصحاب أنظمة التتبع وتعظيم الإعلانات، العقدين الماضيين في معرفة ما الذي يجعلنا نتحرك، هباءً. لقد عكفوا على مراقبتنا لمعرفة ما اقتراحات المحتوى التي تحفز إفراز الدوبامين الذي يدفعنا إلى النقر، أو «الإعجاب»، أو المتابعة، أو المشاركة. لقد اكتشفوا ميولنا السياسية، وأذواقنا الفنية، وعادات نومنا، ومزاجنا، والأهم من ذلك، المجموعات الاجتماعية عبر الإنترنت التي نشكل معها روابط وولاءات.

يُقال إن «فيسبوك» يعرف أنك ستنفصل عن شريكك قبل أن تفعل ذلك. وإذا تخليت ولو لفترة وجيزة عن عقلية «أنا المسؤول؛ لا أحد يخبرني بما يجب أن أفعله»، فيمكنك حينها أن ترى كيف يمكن للمنصات أن تستخدم كميات البيانات الضخمة التي تجمعها، لتشكيل أفكارنا الفردية وكذلك سلوكنا الجماعي؛ لأنها لديها حوافز للقيام بذلك.

هنا طريقة أخرى للتفكير في كيف أنك تدفع ثمن استخراج كل هذه البيانات: التباين الذي دام عقدين في أسعار السلع والخدمات المختلفة في الاقتصاد الأميركي. ويكشف الرسم البياني من دار النشر الإلكترونية «فيجوال كابيتاليست» كيف ارتفعت أسعار السلع والخدمات، التي تحتاج إليها لعيش حياة صحية ومنتجة - مثل الرعاية الطبية، والرسوم الدراسية الجامعية، والإسكان، والطعام والمشروبات - بشكل حاد للغاية بين عامي 2000 و2022. وعلى النقيض، تراجعت أسعار المنتجات التي تتكامل مع الإنترنت وتستخرج بياناتنا - مثل البرمجيات، وخدمات الهاتف المحمول، وأجهزة التلفاز، وأجهزة الترفيه الأخرى - بشكل كبير خلال الفترة نفسها.

ومن الجدير أن نسأل لماذا واقعنا على هذه الحال. إن جودة حياتك في العالم غير الرقمي تتدهور، بينما وجودك الرقمي يظل أقل تكلفة بشكل غريب. أما السبب فيكمن في أن هذا الأخير مدعوم بكميات متزايدة من البيانات، التي تسلمها لشركات التكنولوجيا.

مما سبق يتضح أننا بحاجة إلى التفكير بجدية أكبر في السعر الحقيقي الذي ندفعه مقابل أجهزة استخراج البيانات والبرامج ذات الصلة. وتذكر أن بياناتك هي أنت. وهنا، تفرض الكلمات الخالدة التي قالها خبير أمن المعلومات بروس شناير، نفسها؛ فقبل نحو عقد، كتب: «إذا كان هناك شيء مجاني، فأنت لست العميل؛ وإنما السلعة».

لا يوجد عقد اجتماعي

أو حتى التزام أخلاقي من جانب المنصات بعدم معاملتنا كبيادق في أيديها