واشنطن تدرس الخروج من اتفاقية «الأسلحة النووية»

بعد الانسحاب من معاهدة «الأجواء المفتوحة»

TT

واشنطن تدرس الخروج من اتفاقية «الأسلحة النووية»

بعد أن انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاقية المشتركة مع روسيا في الأجواء المفتوحة، يعتقد كثير من الخبراء الأميركيين مضي واشنطن في الانسحاب مع موسكو من اتفاقيات الأسلحة بما فيها الأسلحة النووية.
وأوردت شبكة «فوكس نيوز» الإخبارية أمس، أن الولايات المتحدة ربما تنسحب رسمياً من اتفاقية الحد من الأسلحة بما فيها النووية، حيث يُفترض أن تنتهي مدة الاتفاقية في فبراير (شباط) المقبل، أي بعد تنصيب الإدارة الجديدة في البيت الأبيض.
وأعلنت وزارة الخارجية السبت الماضي، انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الأجواء المفتوحة مع روسيا، التي تم توقيعها بين أعداء الحرب الباردة السابقين في عام 1992، وكانت تهدف لتأسيس رحلات جوية استطلاعية غير مسلحة فوق أراضي الطرف الآخر لجمع البيانات عن القوات العسكرية.
ومع ذلك، اتهمت الولايات المتحدة روسيا بانتهاك الاتفاقية لسنوات، ومنعت الرحلات الجوية فوق الأراضي الروسية، بما في ذلك مدينة كالينينغراد، حيث يشتبه في وجود أسلحة نووية وفي نطاق عواصم أوروبية كبرى.
وقال كال براون المتحدث بوزارة الخارجية بالإنابة، إن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية هو ممارسة لحقها القانوني، وسيدخل هذا الانسحاب حيز التنفيذ بعد ستة أشهر من الإخطار الرسمي، الذي كان في مايو (أيار) الماضي، مشيراً إلى الفقرة الثانية من المادة 15 في معاهدة الأجواء المفتوحة، التي تسمح بممارسة هذا الانسحاب من المعاهدة، وفي 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، لم تعد الولايات المتحدة دولة طرفاً في معاهدة الأجواء المفتوحة.
تم اقتراح الأجواء المفتوحة لأول مرة من قبل الرئيس دوايت أيزنهاور عام 1955، لكن الاتحاد السوفياتي رفض، وتم طرحه مرة أخرى من قبل الرئيس جورج بوش وبدأت المفاوضات عام 1992 بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ثم دخلت حيز التنفيذ في عام 2002 ولديها الآن 35 موقعاً.
وفي وقت سابق من هذا الصيف، أصدر البنتاغون بياناً قال فيه: «لقد أصبح من الواضح تماماً أنه لم يعد من مصلحة الولايات المتحدة أن تظل طرفاً في معاهدة الأجواء المفتوحة، عندما لا تلتزم روسيا بالتزاماتها».
وفي تصريحات سابقة، قال مايك بومبيو وزير الخارجية إن هذه الخطوة مستوحاة على الأقل جزئياً من الانتهاكات الروسية للاتفاق، في حين أن الولايات المتحدة، كانت تقف جنباً إلى جنب مع حلفائها وشركائها من الدول الأطراف في المعاهدة، معتبراً أن واشنطن أوفت بالتزاماتها بموجب المعاهدة، بيد أن روسيا انتهكت المعاهدة بشكل صارخ ومستمر بطرق مختلفة لسنوات عديدة. وأضاف: «هذه ليست مقتصرة على معاهدة الأجواء المفتوحة فقط، للأسف كانت روسيا منتهكة متسلسلاً للعديد من التزاماتها المتعلقة بالحد من الأسلحة».
وقبل الانسحاب الرسمي، أعرب بعض المشرعين الأميركيين عن شكوكهم بشأن المعاهدة وشجعوا خروج الولايات المتحدة عنها، وروسيا هي المستفيد الوحيد، لأن الولايات المتحدة تعتمد على أقمار تجسس صناعية متقدمة في الفضاء لجمع المعلومات الاستخبارية التي لا تغطيها المعاهدة.
ويعتقد خبراء أن خروج الولايات المتحدة من المعاهدة علامة على أن الرئيس دونالد ترمب يستعد للخروج من معاهدة الأسلحة الرئيسية المتبقية مع روسيا، وهذه المعاهدة، التي يفترض أن تنتهي صلاحيتها في فبراير (شباط) بعد أسابيع من التنصيب الرئاسي المقبل، وتمنع القوات الأميركية والروسية من نشر أكثر من 1550 رأساً نووياً في المرة الواحدة.
وكان الرئيس ترمب أصرّ على أن الصين يجب أن تنضم إلى هذه الاتفاقية التي تضم الولايات المتحدة وروسيا، وتضع شروطاً على الترسانات النووية.
وأعرب الديمقراطيون عن قلقهم من أن الانسحاب من المعاهدة قد يضر بالعلاقات مع الحلفاء الأوروبيين، الذين يعتمدون عليها في مراقبة الأنشطة الروسية، ووصف الرئيس المنتخب جو بايدن قرار ترمب الانسحاب من المعاهدة بأنه قصير النظر.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟