فرنسا تنتظر «أفعالاً» تدعم خطاب «التهدئة» التركي

يوماً بعد يوم، تتكثف مضبطة الاتهامات الفرنسية لتركيا، وتكثر التساؤلات حول ما تريده أنقرة حقيقة، على خلفية التناقضات البينة بين ما تقوم به ميدانياً وخطاب «التهدئة» الأخير الصادر عن الرئيس رجب طيب إردوغان الذي يؤكد فيه أن مستقبل تركيا في أوروبا.
وتعد مصادر دبلوماسية أوروبية أن إردوغان، في خطابه المسجل الذي ألقي بمناسبة انعقاد مؤتمر الحزب الحاكم أول من أمس، وأكد فيه أن مستقبل تركيا «ليس في مكان آخر غير أوروبا»، وأنه يتطلع «لبناء مستقبل مشترك» مع القارة القديمة، إنما أراد تحقيق هدفين متصلين؛ أولهما استمرار اللعب على حبل الانقسامات الأوروبية بين دافع باتجاه فرض عقوبات إضافية على تركيا من دون إبطاء ومن يريد تأجيل اتخاذ قرار بهذا الشأن لأسباب متعددة.
أما الهدف الثاني، فهو استباق القمة الأوروبية المقررة يومي 10 و11 ديسمبر (كانون الأول) المقبل التي ينتظر أن تقرر مصير العقوبات، لغرض توفير حجج للدول الممتنعة، كما حصل في قمة أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حين عمد إلى سحب سفينة المسح الجيولوجي «أوروتش رئيس» من المياه اليونانية، ليعيد إرسالها بعد أيام قليلة من انتهاء القمة.
ويتوازى هذا الخطاب «الهادئ» مع قرار تصعيدي تركي، إذ قررت أنقرة تمديد مهمة السفينة نفسها في مياه شرق المتوسط، مصدر التوتر بين تركيا من جهة واليونان وقبرص من جهة أخرى. وتعد الدولتان أن أنقرة «تنتهك» سيادتهما المائية بشكل متكرر. وبالنسبة إلى قبرص، فقد صب إردوغان الزيت على النار بالرفض القطعي لمبدأ إعادة توحيد الجزيرة الذي يسعى إليه الاتحاد الأوروبي والأسرة الدولية، فضلاً عن انتهاكه وضع منتجع فاروشا القبرصي اليوناني الواقع في المنطقة الفاصلة بين شطري الجزيرة.
ورد وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، أمس، على خطاب إردوغان بالقول إن باريس تنتظر «أفعالاً» من جانب تركيا قبل القمة. وقال في تصريح صحافي نقلته وكالة الصحافة الفرنسية: «لا يكفي أن نلاحظ، منذ يومين أو 3 أيام، تصريحات تهدئة من جانب الرئيس التركي إردوغان، ينبغي أن تكون هناك أفعال». وأوضح أن الأفعال المنتظرة «بعضها بسيط يمكن القيام به في شرق المتوسط وليبيا، وكذلك في قره باغ».
وذكّر بـ«أننا لدينا الكثير من الخلافات» مع أنقرة، مشيراً إلى «رغبة التوسّع» التركية، و«سياسة الأمر الواقع» في ليبيا والعراق وشرق المتوسط «حيث يهاجم (الأتراك) عضوين في الاتحاد الأوروبي، هما اليونان وقبرص... وحتى في ناغورني قره باغ، حيث يرسلون أيضاً مرتزقة سوريين».
وتدفع أثينا ونيقوسيا وباريس، وعواصم أوروبية أخرى، باتجاه التشدد مع تركيا. وترى المصادر المشار إليها أنه «حان الوقت ليبرز الاتحاد الأوروبي عضلاته»، بحيث «لا يبقى عرضة للابتزاز التركي». ومن هنا تأتي أهمية مضبطة الاتهام الفرنسية المتضمنة عناصر قديمة وأخرى جديدة، آخرها الدور التركي في حرب قره باغ.
وفي هذا الصدد، تسعى باريس إلى «تأطير» هذا الدور، بدعوتها إلى أن يكون وقف النار تحت إشراف أممي، بغية تسهيل ترحيل المقاتلين الأجانب، وتحديداً السوريين الذين جاءت بهم أنقرة إلى ميادين القتال، والسماح بعودة اللاجئين والمهجرين، وإطلاق المحادثات الخاصة بوضع إقليم قره باغ. وطلبت الحكومة الفرنسية من روسيا أن «توضح» دور تركيا في أذربيجان. وكان الرئيس إيمانويل ماكرون أول من ندد بنقل أنقرة مئات من المقاتلين السوريين الذين تستخدمهم مرتزقة في حروبها، أكان في ليبيا أم في أذربيجان.
وتعد باريس أن التشدد إزاء أنقرة لم يعد موقفاً فرنسياً، بل تحول إلى قناعة أوروبية، ليس فقط من باب التضامن مع أثينا ونيقوسيا، بل لأن عدداً متزايداً من دول الاتحاد بات يتخوف من «السياسة التوسعية التركية» في شرق المتوسط، وتحول أنقرة إلى عنصر لضرب الاستقرار، انطلاقاً من ليبيا وصولاً إلى بلدان شمال أفريقيا أو بلدان الساحل. وآخر ما استجد تنديد باريس، على لسان ماكرون، بالدور التركي في تأجيج الشعور المعادي لفرنسا في بلدان أفريقية، باللجوء إلى «أقلام مأجورة» و«التمادي في استخدام الخطاب المحرف بشأن الإسلام والدفاع عن حرية التعبير».
وكان وزير التجارة الخارجية الفرنسي فرانك ريستر واضحاً، السبت، بدعوته أنقرة إلى «وقف السلوك السيئ في شمال أفريقيا، حيث تهرب الأسلحة، والتوقف عن استخدام قضية الهجرة ضد أوروبا، وهو الأمر الذي لم يعد مطاقاً».
ولاكتمال الصورة، تتعين الإشارة إلى الخلافات القديمة نسبياً بين باريس وأنقرة، وعلى رأسها أداء تركيا داخل الحلف الأطلسي، وحربها على أكراد سوريا، وتدخلها العسكري شمال العراق، ودعوتها لمقاطعة المنتجات الفرنسية على خلفية الرسوم الكاريكاتورية، والاستهداف الشخصي لماكرون من قبل إردوغان.
وخلال الشهر الماضي، مدد الاتحاد الأوروبي العقوبات المتخذة العام الماضي على عدد محدود من الأشخاص في تركيا الضالعين في عمليات التنقيب في المياه القبرصية. بيد أن هذه العقوبات تبقى «رمزية» إلى حد بعيد، وهي لم تمنع أنقرة من الاستمرار في استفزازاتها التي ضاعفتها. ولذا، فالسؤال المطروح اليوم هو: هل سينجح القادة الأوروبيون في قمتهم المقبلة في تخطي انقساماتهم أم سيعمدون مرة أخرى إلى إعطاء تركيا مهلة إضافية، كما فعلوا في قمتهم الأخيرة نهاية أكتوبر (تشرين الأول)؟
يبدو أن الأمور ليست محسومة بعد، وهو ما يفهم من تصريحات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي سترأس القمة المقبلة، في ظل أن ألمانيا تترأس الاتحاد حتى نهاية العام الحالي. والثابت حتى اليوم أن موضوع العقوبات سيثار مجدداً. ووفق رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين، ووزير خارجية الاتحاد جوزيب بوريل، فإن تفاصيل العقوبات أصبحت جاهزة، وهي تطال أشخاصاً وقطاعات اقتصادية تركية، فضلاً عن هيئات وشركات وضالعين في عمليات التنقيب عن الغاز في مياه شرق المتوسط.
وباستطاعة الأوروبيين أن يذهبوا أبعد من ذلك، بوضع حد لمفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد، أو وقف العمل باتفاقية الاتحاد الجمركي، أو وقف الاستثمارات. لكن القرار يفتقر إلى «الإرادة السياسية» الأوروبية التي أعاقها حتى اليوم العمل بمبدأ الإجماع في السياسة الخارجية.