مقتل الرجل الثاني في تنظيم «القاعدة» سراً في إيران

أكد مسؤولون في الاستخبارات مقتل الرجل الثاني في تنظيم «القاعدة» المتهم بالمشاركة في تدبير الاعتداءات التي استهدفت سفارات أميركية في أفريقيا عام 1998.
وكان عبد الله أحمد عبد الله، واسمه الحركي أبو محمد المصري، قد لقي مصرعه في شوارع طهران على يد اثنين من القتلة على دراجة بخارية في 7 أغسطس (آب) الماضي، وهو اليوم الذي يصادف ذكرى الاعتداءات التي استهدفت السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا. ولقي مصرعه هو وابنته مريم، أرملة حمزة نجل أسامة بن لادن.
ونفذ الهجوم عملاء إسرائيليون، بناء على طلب من الولايات المتحدة، وفقاً لما ذكره أربعة من المسؤولين، لكن الدور الذي لعبته الولايات المتحدة غير واضح، وإن كان من المعلوم أنها تتعقب تحركات أبو محمد المصري، وغيره من عناصر تنظيم القاعدة في إيران، منذ سنوات.
وجرى تنفيذ العملية التي لم تتأكد بعد في عالم سفلي يعج بالمكائد الجيوسياسية والجاسوسية وجهود مكافحة الإرهاب. ولأسباب لا تزال غامضة، لم تعلن «القاعدة» عن مقتل أحد كبار قادتها، بل قام المسؤولون الإيرانيون بالتعتيم على الخبر، ولم تعلن أي دولة مسؤوليتها.
كان أبو محمد المصري، البالغ من العمر 58 عاماً، أحد القادة المؤسسين لتنظيم القاعدة، الذي كان من المتوقع أن يتولى قيادة التنظيم بعد زعيمها الحالي أيمن الظواهري، مدرجاً لفترة طويلة في قائمة مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) بصفته أحد أخطر الإرهابيين المطلوبين، بعد أن وجهت إليه الولايات المتحدة اتهامات بارتكاب جرائم مرتبطة بتفجيرات السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا التي أسفرت عن مقتل 224 شخصاً، وإصابة المئات.
وكان «إف بي آي» قد عرض مكافأة قدرها 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض عليه، وصورته لا تزال على قائمة المطلوبين حتى الجمعة الماضية. وكان من المستغرب أن يعيش أبو محمد المصري في إيران، ذلك أن إيران وتنظيم القاعدة من الأعداء اللدودين، حيث دخلت إيران ذات الحكم الديني الشيعي، وتنظيم القاعدة، وهو جماعة متشددة سُنّية، في مواجهات ومعارك بعضها ضد بعض في ساحات القتال في العراق وأماكن أخرى من العالم.
وقال مسؤولون في الاستخبارات الأميركية إن أبو محمد المصري كان في «عهدة» إيران منذ عام 2003، ولكنه كان يعيش بحرية في ضاحية «باسداران» الراقية في طهران منذ عام 2015، على أقل تقدير.
ونحو الساعة التاسعة مساء ليلة صيف دافئة، كان أبو محمد المصري يقود سيارته البيضاء «رينو إل 90» سيدان مع ابنته بالقرب من منزله عندما سار مسلحان فوق دراجة نارية إلى جانبه، وأطلقا خمس طلقات من مسدس مزود بكاتم للصوت. اخترقت أربع رصاصات السيارة إلى جوار مقعد السائق، فيما أصابت الخامسة سيارة قريبة. ومع ذيوع نبأ إطلاق النار، ذكرت وسائل الإعلام الرسمية في إيران أن الضحايا هم حبيب داود، أستاذ التاريخ اللبناني، وابنته مريم البالغة من العمر 27 عاماً. وذكرت قناة «إم تي في» الإخبارية اللبنانية وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي التابعة لـ«الحرس الثوري» الإيراني أن داود كان عضواً في «حزب الله»، المنظمة المسلحة التي تدعمها إيران في لبنان، وبدا الأمر معقولاً.
جاءت عملية القتل في صيف يعج بالانفجارات المتكرّرة في إيران، وتصاعد حالة التوتّر مع الولايات المتّحدة، بعد أيّام من انفجار كبير هز ميناء بيروت، وقبل أسبوع من قرار مجلس الأمن الدولي تمديد حظر الأسلحة ضدّ إيران. وكانت هناك تكهنات بأن القتل ربما كان استفزازاً غربياً يهدف إلى إثارة رد فعل إيراني عنيف قبل التصويت في مجلس الأمن. كما أن عملية القتل التي نفذها مسلحان على دراجة نارية تتناسب مع أسلوب الاغتيالات الإسرائيلية السابقة للعلماء النوويين الإيرانيين. ويبدو أن قتل إسرائيل لمسؤول من «حزب الله» الذي يؤكد دوماً عزمه على محاربة إسرائيل أمر منطقي أيضاً، باستثناء أن إسرائيل كانت تتجنب قتل عملاء «حزب الله» حتى لا تستفزه لشن حرب.
لكن الحقيقة أنه لم يكن هناك حبيب داود من الأساس، حيث أفاد كثير من اللبنانيين القريبين من إيران أنهم لم يسمعوا عنه أو بقتله. ولم يعثر بحث في وسائل الإعلام اللبنانية على أي تقارير عن أستاذ تاريخ لبناني قتل في إيران الصيف الماضي. وقال باحث في مجال التعليم لديه إمكانية الوصول إلى قوائم جميع أساتذة التاريخ في البلاد إنه لا يوجد شخص باسم حبيب داود في السجلات.
وقال أحد مسؤولي المخابرات إن «حبيب داود» كان اسماً مستعاراً أعطاه المسؤولون الإيرانيون لأبي محمد المصري، وإن مهنة معلم التاريخ لم تكن سوى قصة غلاف ليس لها علاقة بالأمر. وفي شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وصف نبيل نعيم، زعيم «الجهاد الإسلامي» السابق في مصر، في تصريح لقناة العربية، أبا محمد المصري بالصديق القديم، وروى القصة نفسها.
ربما كان لدى إيران سبب وجيه وراء رغبتها في إخفاء حقيقة أنها تؤوي عدواً معلناً، لكن كان من غير الواضح لماذا قبل المسؤولون الإيرانيّون إيواء أحد قادة «القاعدة» من البداية.
رأي بعض خبراء الإرهاب أن الإبقاء على مسؤولي «القاعدة» في طهران قد يوفر بعض التأمين الذي يضمن أن الجماعة لن تقوم بعمليات داخل إيران. ويعتقد مسؤولو مكافحة الإرهاب الأميركيّون أن إيران ربما سمحت لهم بالبقاء على أراضيها للتخطيط لعمليّات ضدّ خصمهما المشترك، الولايات المتّحدة.
وليست هذه هي المرة الأولى التي تحتضن فيها إيران مقاتلين من جماعة سُنّية متشددة، إذ إنها دعمت «حماس» و«الجهاد الإسلامي» الفلسطينيتين، و«طالبان» الأفغانية، في أوقات سابقة.
وفي هذا السياق، قال كولين بي كلارك، محلل مكافحة الإرهاب في مركز «صوفان» الأميركي، إن «إيران تستخدم الطائفية هراوة عندما تتناسب مع النظام، ولكنها أيضاً على استعداد للتغاضي عن الانقسام السُنّي - الشيعي عندما يتناسب مع المصالح الإيرانية».
غير أن إيران أنكرت باستمرار استضافة مسؤولي القاعدة. ففي عام 2018، ذكر المتحدث باسم وزارة الخارجية، باهرام قاسمي، أنه بسبب الحدود الإيرانية الطويلة مع أفغانستان، دخل بعض أعضاء تنظيم القاعدة إيران، ولكنهم اعتقلوا وأعيدوا إلى أوطانهم.
ومع ذلك، قال مسؤولو المخابرات الغربيّون إنّ زعماء «القاعدة» وُضعوا تحت الإقامة الجبرية من قبل الحكومة الإيرانيّة التي أبرمت بعد ذلك صفقتين -على الأقلّ- مع تنظيم «القاعدة» لتحرير بعضاً من أعضائها في عامي 2011 و2015. وبحسب تقرير الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب الصادر في يونيو (حزيران) الماضي، فإنه رغم أن تنظيم داعش قد طغى على «القاعدة» في السنوات الأخيرة، فإن تنظيم القاعدة لا يزال صامداً، وله فروع نشطة في جميع أنحاء العالم.
ونفت إيران، أمس، صحة تقرير «نيويورك تايمز»، قائلة إنه لا يوجد «إرهابيون» من «القاعدة» على أراضيها، بحسب ما أوردته وكالة «رويترز». وقال سعيد خطيب زادة، المتحدث باسم وزارة الخارجية، في بيان: «بين الحين والآخر، تحاول واشنطن وتل أبيب تصوير إيران على أنها مرتبطة بهذه الجماعة، وغيرها من الجماعات الإرهابية في المنطقة، من خلال بث الأكاذيب، وتسريب معلومات كاذبة إلى وسائل الإعلام، من أجل التهرب من المسؤولية عن الأنشطة الإجرامية لهذه الجماعات الإرهابية».
ورفض المتحدثون باسم مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، وكذلك مجلس الأمن القومي التابع لإدارة ترمب، التعليق.
واستمر المصري عضواً لفترة طويلة في المجلس الذي يتولى إدارة عمليات تنظيم القاعدة، والذي يتسم بقدر كبير من السرية، إلى جانب سيف العدل الذي اعتقل أيضاً في إيران لفترة من الزمن. وكان الاثنان، بالإضافة إلى حمزة بن لادن الذي كان يجري إعداده لتولي إدارة التنظيم، جزءاً من مجموعة من كبار زعماء «القاعدة» الذين لجأوا إلى إيران بعد أن أجبرتهم هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) على الولايات المتحدة على الفرار من أفغانستان.
وطبقاً لوثيقة بالغة السرية، صادرة عن المركز الوطني لمكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة في عام 2008، فإن المصري كان «المخطط التنفيذي الأكثر خبرة ومقدرة خارج معتقلات الولايات المتحدة أو سجون حلفائها». ووصفته الوثيقة بأنه «المسؤول السابق عن التدريب» الذي «عمل من كثب» مع سيف العدل.
وفي إيران، قال خبراء الإرهاب إن المصري كان المرشد الناصح لحمزة بن لادن. وفي وقت لاحق، تزوج حمزة بن لادن من مريم ابنة المصري.
وكانت إيران قد أفرجت عن حمزة، وغيره من أفراد أسرة بن لادن، في عام 2011، في مقابل الإفراج عن دبلوماسي إيراني مخطوف. وفي العام الماضي، قال البيت الأبيض إن حمزة بن لادن قد قُتِلَ في عمليّة لمكافحة الإرهاب في منطقة على الحدود بين أفغانستان وباكستان.
وولد أبو محمد المصري في حي الربيعة (شمال مصر) عام 1963. وفي شبابه، وفقاً لإفادات خطية وردت في دعاوى قضائية في الولايات المتحدة، كان لاعباً محترفاً في كرة القدم في أكبر الجامعات المصرية. وبعد الغزو السوفياتي لأفغانستان في عام 1979، انضم إلى الحركة «الجهادية» التي احتشدت لمساعدة القوات الأفغانية.
وعقب انسحاب السوفيات بعد عشرة أعوام من ذلك التاريخ، رفضت مصر السماح للمصري بالعودة، فبقي في أفغانستان، حيث انضم في النهاية إلى بن لادن في الجماعة التي أصبحت فيما بعد النواة المؤسسة لتنظيم القاعدة، وأدرجته الجماعة بصفته سابع مؤسس للتنظيم الذي يضم 170 قيادياً.
وفي أوائل التسعينيات، سافر مع بن لادن إلى الخرطوم، حيث بدأ في تشكيل خلايا عسكرية. كما ذهب إلى الصومال لمساعدة الميليشيات الموالية لزعيم الحرب الصومالي محمد فرح عيديد. وهناك قام بتدريب المقاتلين الصوماليين على استخدام قاذفات صواريخ محمولة على الكتف ضدّ المروحيّات، حيث تدربوا على استخدامها في معركة مقديشو عام 1993 لإسقاط مروحيّات أميركيّة، فيما يعرف الآن بـ«هجوم بلاك هوك داون».
وفي السياق ذاته، قال يورام شويتزر، رئيس مشروع مكافحة الإرهاب التابع لمعهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب: «عندما بدأت (القاعدة) في تنفيذ أنشطة إرهابية في أواخر تسعينيات القرن الماضي، كان أبو محمد المصري واحداً من أقرب ثلاثة مساعدين لبن لادن، وكان رئيساً لقسم عمليات التنظيم، فقد جلب معه المعرفة والعزيمة. ومنذ ذلك الوقت، شارك في جانب كبير من عمليات التنظيم، مع التركيز على أفريقيا».
وبعد معركة مقديشو بقليل، عين بن لادن المصري مسؤولاً عن التخطيط للعمليّات ضدّ الأهداف الأميركيّة في أفريقيا. ولأن التخطيط لعملية درامية طموحة على شاكلة اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) ستحظى باهتمام عالمي كبير، فقد قرر هؤلاء القادة مهاجمة هدفين يحظيان بحماية جيدة نسبياً في بلدان منفصلة في توقيت متزامن.
وبعد الساعة 10:30 صباحاً بقليل، في 7 أغسطس (آب) 1998، توجهت شاحنتان معبأتان بالمتفجرات إلى سّفارتي الولايات المتحدة في العاصمتين الكينية نيروبي والتنزانية دار السلام. وتسببت الانفجارات في حرق الأشخاص القريبين، وتفجّرت الجدران خارج المباني، وتحطم زجاج المباني القريبة.
وفي عام 2000، أصبح أبو محمد المصري واحداً من تسعة أعضاء في مجلس قيادة تنظيم القاعدة، وكان يترأس التدريب العسكري لأفراد التنظيم.
وواصل المصري الإشراف على عمليات أفريقيا، حسب مسؤول سابق في الاستخبارات الإسرائيلية، وأمر بالهجوم الذي وقع في مومباسا بكينيا عام 2002، وأسفر عن مقتل 13 كينياً و3 سياح إسرائيليين. وبحلول عام 2003، كان المصري من بين عدّة زعماء لـ«القاعدة» فروا إلى إيران التي بدت بعيدة عن متناول الأميركيين، رغم عدائها لتنظيم بن لادن.
ويضيف شويتزر: «اعتقدوا أن الولايات المتحدة ستجد صعوبة بالغة في التحرك ضدّهم هناك. ولأنهم كانوا يعتقدون أيضاً أن فرص النظام الإيراني في عقد صفقة تبادل مع الأميركيين تتضمن رؤوسهم ضئيلة للغاية».
وكان المصري أحد الأعضاء القلائل من كبار قادة التنظيم الذين نجوا من عمليات البحث الأميركية عن مرتكبي هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وغيرها. وعندما فر، هو وزعماء «القاعدة» الآخرين، إلى إيران، كانوا في البداية تحت الإقامة الجبرية.
وفي عام 2015، أعلنت إيران عن صفقة مع تنظيم القاعدة، أطلقت بمقتضاها سراح خمسة من قادة التنظيم، بما في ذلك المصري، في مقابل دبلوماسي إيراني كان قد اختطف في اليمن. ثم تلاشى المصري، ولكن طبقاً لأحد مسؤولي الاستخبارات استمر في الحياة في طهران تحت حماية «الحرس الثوري»، ثم وزارة الاستخبارات، والأمن في وقت لاحق. وسمح له بالسفر إلى الخارج، وكان ذلك في الأساس إلى أفغانستان وباكستان وسوريا.
وقال بعض المحللين الأميركيين إن وفاة المصري من شأنها أن تقطع الروابط بين واحد من آخر زعماء «القاعدة» الأصليين والجيل الحالي من المقاتلين الذين ظهروا بعد وفاة بن لادن في عام 2011.
ويقول نيكولاس ج. راسموسين، المدير السابق للمركز الوطني لمكافحة الإرهاب: «إذا كان ذلك صحيحاً، فإن هذا من شأنه أن يقطع الروابط بين (القاعدة) بمدرستها القديمة و(الجهاد) الحديث»، وهو ما يساهم بشكل أكبر في تفتيت «القاعدة»، والقضاء على اللامركزية فيها.
- خدمة «نيويورك تايمز»