حملت «عودة سدير» (150 كيلومترا شمال غربي الرياض)، طوال تاريخها الممتد لعشرات القرون، أسماء كثيرة ظلت صامدة في ذات المكان، تاركة بقايا آثار شاهدة على تعرضها لأحداث مختلفة على مدى عشرات القرون، ومؤكدة أنها نشأت في ظل حضارات متراكمة، رسختها فلسفة بنائها وتخطيطها، ومبرزة العلاقة بين الإنسان والمكان مما يعطي انطباعا أن سكان وسط الجزيرة العربية، حيث تقع العودة، يملكون أدوات الحضارة متمثلة بأسلوب البناء ونمط الحياة اليومية. وسجلت عودة سدير اسمها كمحطة هامة على أحد طرق التجارة التي تربط جنوب الجزيرة العربية بشمالها، والعراق، والشام، ومصر.
نشأت البلدة في عهد الملك القتباني «يدع أب غيلان» في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، لتصبح محطة تجارية مهمة ومركزا رئيساً على أحد طرق التجارة القديمة وهو طريق البخور، ومقرا لحاكم المنطقة، علما بأن مملكة قتيان قامت في جنوب الجزيرة العربية في حدود عام 500 قبل الميلاد، وعاصمتها مدينة تَمنع، وكانت لها علاقات تجارية بممالك «داران، ولحيان» شمال الجزيرة العربية.
وأماط الباحث عبد الرحمن بن إبراهيم أبو حيمد الوكيل السابق للحرس الوطني وعضو مجلس الشورى السعودي، اللثام عن بلدته عودة سدير في كتابه الذي أنجزه مؤخراً وعنونه بـ«عودة سدير… الإنسان والمكان»، مشيراً إلى أن عودة سدير ارتبطت بأسماء متعددة على مر تاريخها مع احتفاظها بذات المكان حيث حملت مسميات: القرناء، ومسافر، وجماز، وغيلان، كما ارتبطت بالأحداث التي وقعت في إقليم اليمامة الذي تتبعه البلدة أيام الدولة الأخيضرية، حيث اتخذ بنو العنبر من وادي الفقي الذي تقع عليه العودة مقرا لهم بعد هزيمة مسلمة بن حبيب الحنفي خلال أحداث إقليم اليمامة قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، كما شغلت أحداث البلدة صفحات من تاريخ نجد قبل وبعد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقيام الدولة السعودية، وتشهد أسوار البلدة القديمة وبقاياها على تعرضها لأحداث وحروب واعتداءات تمثل في طبيعة بناء وعظمة ومناعة أسوارها، ولعل طبيعة البناء والآثار الباقية تؤكد على أن عودة سدير بنيت على حضارات متراكمة وأنها مدينة عريقة وذات تجمع عمراني فريد، عطفا على فلسفة بنائها وتخطيطها، وهو ما يؤكد أن البلدة تمتلك من أدوات الحضارة ومهنها وحرفها وعلومها الهندسية الكثير، مما انعكس على ثقافة سكانها ونمط أسلوب حياتهم طوال القرون الماضية.
وأبرز أبو حيمد تفاصيل غاية في الدقة عن الواقع الثقافي والمعرفي للعودة، ومأثوراتها الشعبية (الفلكلور)، والعادات والتقاليد الموروثة، كما أورد أسماء الشعراء الذين أنجبتهم البلدة وبعض من هؤلاء الشعراء له قصة يتم تداولها على نطاق واسع لعلى أشهرها قصة الشاعر الشعبي راشد بن دباس الذي عاش في النصف الأخير من القرن الثاني عشر الهجري، عندما بعث بقصيدة طويلة إلى ابنه دباس الذي ذهب لطلب الرزق في عُمان، وبث الأب فيها شكواه لابنه من ظلم لحق به من بعض أقاربه، وأثارت القصيدة الابن الغائب عن والده ثماني سنوات من دون أن يبعث له برسالة، فرد عليه بقصيدة وصلت والده أكد فيها عزمه على المسير إليه والعودة إلى قريته «العودة» لرفع الظلم عن والده والانتقام من ظالميه، وكان له ما أراد.
أعاد أهالي عودة سدير إحياء القرية التراثية بعد أن انتقلوا إلى مدينة حديثة وذلك حفاظا على التراث القديم بعد أن لمسوا أن المباني لم تعد قادرة على مقاومة عوامل التعرية من أمطار ورياح واستخدام بشري، وكانت البداية قبل نصف قرن بعد أن تم هدم جامع البلدة الذي كان آيلا للسقوط على الطراز الحديث، وهو ما ساهم في محو تاريخ وإرث معماري هام حيث يمثل المسجد الطيني، بمصابيحه وسرحته وخلوته ومنارته الشامخة وطريقة بنائه تراثا عمرانيا قديما، واعتبر هذا الحدث رسالة لإعادة إحياء القرية مع الحفاظ على طابعها القديم استفادة من مقومات تتمثل في: توفر الموروث التاريخي للمباني القديمة، واستعداد ورغبة الأهالي في حفظ تراثهم، إضافة إلى استقلالية الموقع مكانيا عن أي تمددٍ، والاستفادة من توسط موقع «العودة» بين مدن وقرى سدير والمحافظات الأخرى والعاصمة الرياض، وتوفر البنية التحتية.
وتميزت القرية التراثية بإحياء فعاليات واحتفالات أسبوعية وسنوية، إضافة إلى استقبال سياح محليين وأجانب، كما تشهد القرية التراثية مهرجانات مختلفة وعروض تراثية، كما تستقبل القرية التراثية عدداً كبيراً من الوفود الرسمية والوطنية طيلة أيام الاحتفالات، وأحيت القرية فعاليات اختفت من المشهد مثل مسيرة «الحوامة» حيث يتجول الأطفال قبل يوم العيد في الأزقة ويطرقون أبواب المنازل طالبين منحهم حلاوة العيد، ويقيم أهالي عودة سدير في كل عام حفلا بمناسبة اليوم الوطني للمملكة، وأطلق الأهالي مشاريع خاصة تمثلت في المتاحف التي حملت أسماء عدد من أسر البلدة، كما نفذ الأهالي قصراً ليكون مقراً لاحتفالات الأهالي في المناسبات المختلفة، كالأعياد والزيجات والأفراح، حمل اسم العودة القديمة «قصر جماز».
«عودة سدير»... إحياء الحاضر بعراقة الماضي
محطة مهمة على طريق البخور القديم نشأت مع تراكم الثقافات
«عودة سدير»... إحياء الحاضر بعراقة الماضي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة