تحل غداً الذكرى الخامسة للمجزرة الإرهابية التي ضربت باريس يوم 13 نوفمبر عام 2015، والتي أوقعت 131 قتيلاً و413 جريحاً. وجاء رد الحكومة وقتها بإعلان حالة الطوارئ في عموم البلاد، إلا أن هذا التدبير كان قاصراً عن أن يضع حداً للإرهاب الذي تواصلت ضرباته، وأخطرها ما حصل في مدينة نيس الساحلية، حيث قضت عملية دهس بشاحنة على 84 شخصاً، وأوقعت مئات الجرحى.
وخلال السنوات الخمس، دفعت فرنسا 232 قتيلاً وآلاف الجرحى ثمناً للعمليات الإرهابية، التي كان آخرها في مدينة نيس، حيث قتل تونسي آخر أربعة ثلاثة أشخاص ذبحاً داخل «كنيسة نوتردام». ووفق إحصائيات وزارة الداخلية، فإن فرنسا شهدت عملية إرهابية فيما فشلت 19 عملية، كما أن القوات الأمنية نجحت في تعطيل 61 عملية أخرى. ورغم أن التهديد الإرهابي تراجع نسبياً في السنوات الثلاث الأخيرة، إلا أنه ما زال ظله مخيماً على الفرنسيين.
وجاءت العمليات الثلاث الأخيرة التي جرت في شهر واحد (في باريس وكونفلان سانت هونورين ونيس) لتذكر السلطات والمواطنين بأن بلادهم موجودة في عين العاصفة، وأن الإرهاب أكان «الداخلي» منه أو ذاك الآتي من «الخارج» ما زال قادراً على التحرُّك.
وثمة قناعة لدى السلطات السياسية والأمنية بأن فرنسا تبقى البلد الأوروبي الأكثر استهدافاً من قبل التنظيمات الإرهابية أو «الذئاب المتوحدة»، رغم أن المسؤولين الأوروبيين، وعلى رأسهم إيمانويل ماكرون، وأنجيلا ميركل وسيباستيان كورز وشارل ميشال وأورسولا فان دير لاين، يُعتبرون أنه «موجود في كل مكان»، وأنه «لا يعرف الحدود». والرأي السائد أن ثلاثة عوامل قد تفسر التركيز الإرهابي على فرنسا أولها تتمات نشر الرسوم الكاريكاتيرية المهينة للنبي محمد في صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة، وإعادة نشرها بداية سبتمبر (أيلول) الماضي على صفحات الصحيفة نفسها. وثانيها، المحاكمات الجارية في باريس للأشخاص المتهمين بأنهم كانوا على علاقة بمرتكبي مجزرة «شارلي إيبدو» بداية عام 2015. وثمة «فصل قضائي» عنوانه إتمام المحاكمات الجارية حالياً ثم المحاكمات اللاحقة المرتبطة بعمليات نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 لن ينتهي قبل عام 2022. وثالثها، خطابات وأقوال الرئيس ماكرون ودفاعه عن حرية نشر الرسوم الكاريكاتيرية، إضافة إلى ما فُهِم من حملته على ما يسميه «الانفصالية الإسلاموية»، التي فُسّرت في بعض الأوساط بأنها حملة ضد الإسلام. إزاء هذا الوقع، تدفع باريس باتجاه «رد أوروبي» على التهديد الإرهابي.
وجاءت القمة «الافتراضية» الأوروبية المصغرة التي حصلت، أول من أمس، بمشاركة فرنسية وألمانية ونمساوية وهولندية، إضافة إلى رأسي الاتحاد الأوروبي وهما رئيس المجلس ورئيسة المفوضية، كـ«مكمل» لما تقوم به باريس على الصعيد الوطني. وثمة قناعة ترسخت من «تجربة» السنوات الخمس المنقضية بأن الحرب على الإرهاب يجب أن تكون «شاملة» جغرافياً (أي أوروبياً)، وفاعلة على جميع الجبهات.
ويرى الأوروبيون اليوم أن الحرب على الإرهاب يجب أن تشمل فرض مزيد من الرقابة على الحدود الخارجية للاتحاد، وإعادة النظر باتفاقية «شينغن» للتنقل الحُرّ، ومحاربة الآيديولوجيا الراديكالية بجميع السّبل، بما فيها على شبكة الإنترنت، وتعزيز التعاون بين الجول الأعضاء أمنياً واستخباراتياً، وإيجاد السبل القانونية للحد من حرية حركة المتطرفين، الذين يخرجون من السجون الأوروبية وترحيل الأشخاص «المتطرفين» الأجانب إلى بلدانهم الأصلية، وأخيراً السعي للتحكم بالهجرات غير الشرعية، ومنع استخدام حق اللجوء وحرفه عن أهدافه الأساسية. بعد عملية نيس في 29 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عمدت الحكومة الفرنسية إلى رفع حالة التأهب الأمني إلى الدرجة القصوى، وأمر الرئيس ماكرون بفرز 7000 عنصر عسكري لدعم العملية الأمنية المسماة «سانتينيل»، وغرضها مد يد العون إلى القوى الأمنية، من شرطة ودرك، وتوفير الحراسة على المدارس وأماكن العبادة والمواقع الحساسة، والتعجيل بترحيل 231 فرداً أجنبياً، جزء كبير منهم مواطنون مغاربيون وإغلاق مساجد وقاعات صلاة وحل جمعيات وغيرها من التدابير التي يُراد لها أن تربك ما يسميه وزير الداخلية جيرالد درامانان «أعداء الداخل»، وتعطيل نمو «الإسلام السياسي» الذي ترى باريس أنه يحمل مشروعاً «مخالفاً لقيم الجمهورية»، ويدفع إلى «الانطوائية» أي «الانفصالية الإسلاموية».
وأرسل ماكرون وزير داخليته في جولة مغاربية شملت الرباط وتونس والجزائر إضافة إلى فاليتا (مالطا) وروما. كما يتهيأ درامانان لزيارة موسكو باعتبار أن منفذ عملية ذبح وقطع رأس مدرس التاريخ في تكميلية مدينة كونفلان سانت هونورين كان شاباً روسيّ الجنسية وشيشاني الأصل. وتريد باريس دفع الدول المعنية على قبول استرداد مواطنيها الذين تريد برايس ترحيلهم لتوجهاتهم الأصولية الراديكالية، ولكونهم يشكلون خطراً على السلامة العامة. وبالتوازي، يسعى ماكرون ومعه الدبلوماسية الفرنسية إلى «تفكيك» القنبلة المتفجرة التي شكلتها تصريحاته الأخيرة، من خلال الإدلاء بأحاديث صحافية موجهة للعالم العربي والإسلامي لشرح مواقفه، وإرسال وزير خارجيته في جولات إلى عدة عواصم للتأكيد أن فرنسا «ليست في حالة حرب ضد الديانة الإسلامية».
يعي الرئيس ماكرون أن اليمين التقليدي واليمين المتطرف الفرنسيين يسعيان لاستغلال الملف الأمني لمهاجمة الحكومة، والتسديد على ضعف أدائها في التعامل مع الإرهاب، وهما يطرحان مقترحات تذهب من تعديل الدستور والعمل بقوانين استثنائية إلى إيجاد سجون «غوانتانامو فرنسية».
من هنا، إمساكه بالملف الأمني مباشرة والدفع باتجاه بلورة مشروع قانون سيعرض على مجلس الوزراء في ديسمبر (كانون الأول) المقبل، لمحاربة «الانفصالية الإسلاموية»، ما سيوفر للسلطات الأدوات القانونية مواجهة ما تعبره «انحرافات» وممارسات لا يمكن قبولها في دولة تتخذ العلمانية نبراساً لها. لكن تبقى هناك ثلاث معضلات: الأولى عنوانها آلاف الأشخاص الموجودة أسماؤهم على اللوائح المتعددة؛ أكانت للأشخاص الخطرين أمنياً، أو لمن يُعدون متطرفين وراديكاليين دينياً. والسؤال يتناول كيفية التعاطي مع هؤلاء الأشخاص. والمعضلة الثانية المرتبطة بالأولى التخوف الجدي من أفراد لا يترددون باللجوء إلى العنف والإرهاب فردياً، ومن غير أن تكون لهم علاقات تنظيمية مع جهات إرهابية في الخارج، كـ«القاعدة» أو «داعش». وحتى اليوم، لم تعثر السلطات الأمنية على الرد المناسب. والثالثة تتعلق بالسجناء الخارجين من السجون التي حُبسوا فيها لعلاقات لهم بالإرهاب. وهؤلاء وصفهم المستشار النمساوي بـ«القنابل الموقوتة». ويفترض أن تنجح الحكومة، مع نهاية العام الحالي، في إيجاد الأساس القانوني للحد من حريتهم بعد أن يكونوا قد قضوا فترات محكوميتهم.
باريس تسعى لتوفير الأدوات القانونية والأمنية لمواجهة استمرار التهديد الإرهابي
باريس تسعى لتوفير الأدوات القانونية والأمنية لمواجهة استمرار التهديد الإرهابي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة